الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى :( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه يحق الحق ويبطل الباطل ، بين أنه تعالى نصرهم عند الاستغاثة ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : يجوز أن يكون العامل في( إذ ) هو قوله :( ويبطل الباطل ) فتكون الآية متصلة بما قبلها ، ويجوز أن تكون الآية مستأنفة على تقدير واذكروا إذ تستغيثون .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : في قوله :( إذ تستغيثون ) قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : أن هذه الاستغاثة كانت من الرسول عليه السلام ، قال ابن عباس : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة [ ص: 105 ] ونيف ، استقبل القبلة ومد يده وهو يقول : "اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" ولم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ، ورده أبو بكر ثم التزمه ثم قال : كفاك يا نبي الله مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ، فنزلت هذه الآية ، ولما اصطفت القوم قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره ، ورفع رسول الله يده بالدعاء المذكور .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلا فيهم ، بل خوفهم كان أشد من خوف الرسول ، فالأقرب أنه دعا عليه السلام وتضرع على ما روي ، والقوم كانوا يؤمنون على دعائه تابعين له في الدعاء في أنفسهم ، فنقل دعاء رسول الله لأنه رفع بذلك الدعاء صوته ، ولم ينقل دعاء القوم . فهذا هو طريق الجمع بين الروايات المختلفة في هذا الباب .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قوله :( إذ تستغيثون ) أي تطلبون الإغاثة ، يقول الواقع في بلية أغثني أي فرج عني .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم الاستغاثة بين أنه تعالى أجابهم وقال :( أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قوله :( أني ممدكم ) أصله بأني ممدكم ، فحذف الجار وسلط عليه استجاب ، فنصب محله ، وعن أبي عمرو : أنه قرأ ( إني ممدكم ) بالكسر على إرادة القول ، أو على إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من القول .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم ( مردفين ) بفتح الدال والباقون بكسرها . قال الفراء :( مردفين ) أي متتابعين يأتي بعضهم في أثر بعض كالقوم الذين أردفوا على الدواب و ( مردفين ) أي فعل بهم ذلك ، ومعناه أنه تعالى أردف المسلمين وأيدهم بهم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اختلفوا في أن الملائكة هل قاتلوا يوم بدر ؟ فقال قوم : نزل جبريل عليه السلام في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر ، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي بن أبي طالب ، في صورة الرجال عليهم ثيابهم بيض وقاتلوا . وقيل قاتلوا يوم بدر ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ويوم حنين ، وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود : من أين كان الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصا ؟ ، قال هو من الملائكة ، فقال أبو جهل : هم غلبونا لا أنتم . وروي أن رجلا من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه فنظر إلى المشرك وقد خر مستلقيا وقد شق وجهه ، فحدث الأنصاري رسول الله ، فقال : صدقت ذاك من مدد السماء . وقال آخرون : لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين ، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك الدنيا كلها ، فإن جبريل أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط ، وأهلك بلاد ثمود وقوم صالح بصيحة واحدة ، والكلام في كيفية هذا الإمداد مذكور في سورة آل عمران بالاستقصاء ، والذي يدل على صحة أن الملائكة ما نزلوا للقتال قوله تعالى :( وما جعله الله إلا بشرى ) قال الفراء : الضمير عائد إلى الإرداف والتقدير : ما جعل الله الإرداف إلا بشرى . وقال الزجاج : ما جعل الله المردفين إلا بشرى ، وهذا أولى لأن الإمداد بالملائكة حصل بالبشرى . قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر في العريش قاعدا يدعو ، وكان أبو بكر قاعدا عن يمينه ليس معه غيره ، فخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه نعسا ، ثم ضرب [ ص: 106 ] بيمينه على فخذ أبي بكر وقال : "أبشر بنصر الله ولقد رأيت في منامي جبريل يقدم الخيل" وهذا يدل على أنه لا غرض من إنزالهم إلا حصول هذه البشرى ، وذلك ينفي إقدامهم على القتال .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى :( وما النصر إلا من عند الله ) والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا قد نزلوا في موافقة المؤمنين ، إلا أن الواجب على المؤمن أن لا يعتمد على ذلك بل يجب أن يكون اعتماده على إغاثة الله ونصره وهدايته وكفايته لأجل أن الله هو العزيز الغالب الذي لا يغلب ، والقاهر الذي لا يقهر ، والحكيم فيما ينزل من النصرة فيضعها في موضعها .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية