الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 157 ] ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى :( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن المقصود من هذه الآية تعليم حكم آخر من أحكام الغزو والجهاد في حق النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو " تكون " بالتاء والباقون بالياء ، أما قراءة أبي عمرو بالتاء فعلى لفظ الأسرى ؛ لأن الأسرى وإن كان المراد به التذكير للرجال فهو مؤنث اللفظ ، وأما القراءة بالياء فلأن الفعل متقدم ، والأسرى مذكرون في المعنى ، وقد وقع الفصل بين الفعل والفاعل ، وكل واحد من هذه الثلاثة إذا انفرد أوجب تذكير الفعل كقولك : جاء الرجال وحضر قبيلتك وحضر القاضي امرأة ، فإذا اجتمعت هذه الأشياء كان التذكير أولى ، وقال صاحب "الكشاف" : قرئ للنبي صلى الله عليه وسلم على التعريف و " أسارى " و " يثخن " بالتشديد .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسبعين أسيرا فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب فاستشار أبا بكر فيهم فقال : قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك ، فقام عمر وقال : كذبوك وأخرجوك فقدمهم واضرب أعناقهم ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء ، فمكن عليا من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان ينسب له فنضرب أعناقهم . فقال عليه الصلاة والسلام : "إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال :( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) [إبراهيم : 36] ومثل عيسى في قوله :( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) [المائدة : 118] ومثلك يا عمر مثل نوح ( وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) [نوح : 26] ومثل موسى حيث قال :( ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ) [يونس : 88] ومال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قول أبي بكر ، روي أنه قال لعمر : يا أبا حفص ، وذلك أول ما كناه ، تأمرني أن أقتل العباس ، فجعل عمر يقول : ويل لعمر ثكلته أمه ، وروي أن عبد الله بن رواحة أشار بأن تضرم عليهم نار كثيرة الحطب فقال له العباس : قطعت رحمك ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا تخرجوا أحدا منهم إلا بفداء أو بضرب العنق" فقال ابن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء ، فإني سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد خوفي ، ثم قال من بعد : "إلا سهيل بن بيضاء " وعن عبيدة السلماني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للقوم : " إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم" فقالوا : بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد ، وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية ، وعن محمد بن سيرين كان فداؤهم مائة أوقية ، والأوقية أربعون درهما أو ستة دنانير . [ ص: 158 ] وروي أنهم لما أخذوا الفداء نزلت هذه الآية فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد تباكيت ، فقال : ابك على أصحابك في أخذهم الفداء ، ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة منه - ولو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ ، هذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية