الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( المسألة الثالثة ) : الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الختم هي : الطبع ، والكنان ، والرين على القلب ، والوقر في الآذان ، والغشاوة في البصر ، ثم الآيات الواردة في ذلك مختلفة ، فالقسم الأول : وردت دلالة على حصول هذه الأشياء ، قال : ( كلا بل ران على قلوبهم ) [المطففين : 14] ( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ) [الأنعام : 25] ( وطبع على قلوبهم ) [التوبة : 87] ( بل طبع الله عليها بكفرهم ) [النساء : 155] ( فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ) [فصلت : 4] ( لينذر من كان حيا ) [يس : 70] ( إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء ) [الروم : 52] ( أموات غير أحياء ) [النحل : 21] ( في قلوبهم مرض ) [البقرة : 10] .

                                                                                                                                                                                                                                            والقسم الثاني : وردت دلالة على أنه لا مانع البتة ( وما منع الناس أن يؤمنوا ) [الإسراء : 94] ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) [الكهف : 29] ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) [البقرة : 286] ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [الحج : 78] ( كيف تكفرون بالله ) [البقرة : 28] ( لم تلبسون الحق بالباطل ) [آل عمران : 71] والقرآن مملوء من هذين القسمين ، وصار كل قسم منهما متمسكا لطائفة ، فصارت الدلائل السمعية لكونها من الطرفين واقعة في حيز التعارض ، أما الدلائل العقلية فهي التي سبقت الإشارة إليها ، وبالجملة فهذه المسألة من أعظم المسائل الإسلامية وأكثرها شعبا وأشدها شغبا ، ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة ، فقال : لا ؛ لأنهم نزهوه ، فسئل عن أهل السنة ، فقال : لا ، لأنهم عظموه ، والمعنى أن كلا الفريقين ما طلب إلا إثبات جلال الله وعلو كبريائه ، إلا أن أهل السنة وقع نظرهم على العظمة ، فقالوا : ينبغي أن يكون هو الموجد ولا موجد سواه ، والمعتزلة وقع نظرهم على الحكمة ، فقالوا : لا يليق بجلال حضرته هذه القبائح ، وأقول : ههنا سر آخر ، وهو أن إثبات الإله يلجئ إلى القول بالجبر ، لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح ، وهو نفي الصانع ، ولو توقفت لزم الجبر . وإثبات الرسول يلجئ إلى القول بالقدرة . بل ههنا سر آخر ، هو فوق الكل ، وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح ، وهذا يقتضي الجبر ، ونجد أيضا تفرقة بديهية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية ، وجزما بديهيا بحسن المدح وقبح الذم والأمر والنهي ، وذلك يقتضي مذهب المعتزلة ، فكأن هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب العلوم الضرورية ، وبحسب العلوم النظرية ، وبحسب تعظيم الله تعالى نظرا إلى قدرته وحكمته ، وبحسب التوحيد والتنزيه ، وبحسب الدلائل السمعية ، فلهذه المآخذ التي شرحناها والأسرار التي كشفنا عن حقائقها صعبت المسألة وغمضت وعظمت ، فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق ، وأن يختم عاقبتنا بالخير آمين رب العالمين .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية