الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قال القاضي : الفائدة في قوله : ( الذي خلقكم ) أن العبادة لا تستحق إلا بذلك ، فلما ألزم عباده بالعبادة بين ما له ولأجله تلزم العبادة . فإن قيل : فما الفائدة في قوله : ( والذين من قبلكم ) وخلق الله من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم ، قلنا : الجواب من وجهين : الأول : إن الأمر وإن كان على ما ذكرت ولكن علمهم بأن الله تعالى خلقهم كعلمهم بأنه تعالى خلق من قبلهم لأن طريقة العلم بذلك واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن من قبلهم كالأصول لهم ، وخلق الأصول يجري مجرى الإنعام على الفروع ، فكأنه تعالى يذكرهم عظيم إنعامه عليهم ، كأنه تعالى يقول : لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت بل كنت منعما عليك قبل أن وجدت بألوف سنين بسبب أني كنت خالقا لأصولك وآبائك .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : في قوله تعالى : ( لعلكم تتقون ) بحثان :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : أن كلمة (لعل) للترجي والإشفاق ، تقول : لعل زيدا يكرمني ، وقال تعالى : ( لعله يتذكر أو يخشى ) [ طه : 44 ] ، ( لعل الساعة قريب ) [ الشورى : 17 ] ، ألا ترى إلى قوله : ( والذين آمنوا مشفقون منها ) [ الشورى : 18 ] ، والترجي والإشفاق لا يحصلان إلا عند الجهل بالعاقبة ، وذلك على الله تعالى محال ، فلا بد فيه من التأويل وهو من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن معنى " لعل " راجع إلى العباد لا إلى الله تعالى ، فقوله : ( لعله يتذكر أو يخشى ) [ طه : 44 ] أي اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما في إيمانه ، ثم الله تعالى عالم بما يؤول إليه أمره .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن من عادة الملوك والعظماء أن يقتصروا في مواعيدهم التي يوطنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا : لعل وعسى ، ونحوهما من الكلمات ، أو للظفر منهم بالرمزة أو الابتسامة أو النظرة الحلوة ، فإذا عثر على شيء من ذلك لم يبق للطالب شك في الفوز بالمطلوب ، فعلى هذا الطريق ورد لفظ (لعل) في كلام الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : ما قيل أن (لعل) بمعنى (كي) قال صاحب " الكشاف " : و (لعل) لا يكون بمعنى (كي) ولكن كلمة (لعل) للإطماع ، والكريم الرحيم إذا أطمع فعلى ما يطمع فيه لا محالة ، تجري أطماعه مجرى وعده المحتوم ، فلهذا السبب قيل : (لعل) في كلام الله تعالى بمعنى (كي) . ورابعها : أنه تعالى فعل بالمكلفين ما لو فعله غيره لاقتضى رجاء حصول المقصود ؛ لأنه تعالى لما أعطاهم القدرة على الخير والشر وخلق لهم العقول الهادية وأزاح أعذارهم ، فكل من فعل بغيره ذلك فإنه يرجو منه حصول المقصود ، فالمراد من لفظة (لعل) فعل ما لو فعله غيره لكان موجبا للرجاء .

                                                                                                                                                                                                                                            خامسها : قال القفال : (لعل) مأخوذ من تكرر الشيء كقولهم : عللا بعد نهل ، واللام فيها هي لام التأكيد كاللام التي تدخل في (لقد) فأصل (لعل) عل ؛ لأنهم يقولون : علك أن تفعل كذا ، أي لعلك ، فإذا كانت حقيقته التكرير والتأكيد كان قول القائل : افعل كذا لعلك تظفر بحاجتك ، معناه افعله فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : أن لقائل أن يقول : إذا كانت العبادة تقوى فقوله : ( اعبدوا ربكم لعلكم تتقون ) جار مجرى قوله : اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون . أو : اتقوا ربكم لعلكم تتقون ، والجواب من وجهين : الأول : [ ص: 93 ] لا نسلم أن العبادة نفس التقوى ، بل العبادة فعل يحصل به التقوى ؛ لأن الاتقاء هو الاحتراز عن المضار ، والعبادة فعل المأمور به ، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز عن المضار بل يوجب الاحتراز ، فكأنه تعالى قال : اعبدوا ربكم لتحترزوا به عن عقابه ، وإذا قيل في نفس الفعل : إنه اتقاء ؛ فذلك مجاز ؛ لأن الاتقاء غير ما يحصل به الاتقاء ، لكن لاتصال أحد الأمرين بالآخر أجري اسمه عليه . الثاني : أنه تعالى إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا على ما قال : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [ الذاريات : 56 ] ، فكأنه تعالى أمر بعبادة الرب الذي خلقهم لهذا الغرض ، وهذا التأويل لائق بأصول المعتزلة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية