الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ) اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهات منكري النبوة عاد إلى حكاية شبهة منكري الحشر والنشر ليجيب عنها ، وتلك الشبهة هي أن الإنسان بعد أن يصير رفاتا ورميما يبعد أن يعود هو بعينه ، وأجاب الله تعالى عنه بأن من قدر على خلق السماوات والأرض لم يبعد أن يقدر على إعادتهم بأعيانهم ، وفي قوله : ( قادر على أن يخلق مثلهم ) قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : المعنى قادر على أن يخلقهم ثانيا فعبر عن خلقهم ثانيا بلفظ المثل كما يقول المتكلمون أن الإعادة مثل الابتداء .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : المراد قادر على أن يخلق عبيدا آخرين يوحدونه ويقرون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة ، وعلى هذا التفسير فهو كقوله تعالى : ( ويأت بخلق جديد ) ( إبراهيم : 19 ) وقوله : ( ويستبدل قوما غيركم ) ( التوبة : 39 ) قال الواحدي : والقول هو الأول لأنه أشبه بما قبله ولما بين الله تعالى بالدليل المذكور أن البعث والقيامة أمر ممكن الوجود في نفسه أردفه بأن لوقوعه ودخوله في الوجود وقتا معلوما عند الله وهو قوله : ( وجعل لهم أجلا لا ريب فيه ) ثم قال تعالى : ( فأبى الظالمون إلا كفورا ) أي بعد هذه الدلائل الظاهرة أبوا إلا الكفر والنفور والجحود .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى ( قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا ) وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : أن الكفار لما قالوا : ( لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) طلبوا [ ص: 53 ] إجراء الأنهار والعيون في بلدتهم لتكثر أموالهم وتتسع عليهم معيشتهم فبين الله تعالى لهم أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم ولما أقدموا على إيصال النفع إلى أحد ، وعلى هذا التقدير فلا فائدة في إسعافهم بهذا المطلوب الذي التمسوه فهذا هو الكلام في وجه النظم والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قوله : ( لو أنتم ) فيه بحث يتعلق بالنحو وبحث آخر يتعلق بعلم البيان ، أما البحث النحوي : فهو أن كلمة " لو " من شأنها أن تختص بالفعل لأن كلمة " لو " تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، والاسم يدل على الذوات ، والفعل هو الذي يدل على الآثار والأحوال والمنتفي هو الأحوال والآثار لا الذوات فثبت أن كلمة " لو " مختصة بالأفعال وأنشدوا قول المتلمس :

                                                                                                                                                                                                                                            لو غير أخوالي أرادوا نقيصتي نصبت لهم فوق العرانين مأتما

                                                                                                                                                                                                                                            والمعنى لو أراد غير أخوالي ، وأما البحث المتعلق بعلم البيان فهو أن التقديم بالذكر يدل على التخصيص فقوله : ( أنتم تملكون ) دلالة على أنهم هم المختصون بهذه الحالة الخسيسة والشح الكامل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : خزائن فضل الله ورحمته غير متناهية ، فكان المعنى أنكم لو ملكتم من الخير والنعم خزائن لا نهاية لها لبقيتم على الشح وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشيء ، ثم قال تعالى : ( وكان الإنسان قتورا ) أي بخيلا ، يقال قتر يقتر قترا وأقتر إقتارا وقتر تقتيرا إذا قصر في الإنفاق ، فإن قيل : فقد دخل في الإنسان الجواد الكريم فالجواب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الأصل في الإنسان البخل لأنه خلق محتاجا والمحتاج لا بد أن يحب ما به يدفع الحاجة وأن يمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود به لأسباب من خارج ، فثبت أن الأصل في الإنسان البخل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الإنسان إنما يبذل لطلب الثناء والحمد وللخروج عن عهدة الواجب فهو في الحقيقة ما أنفق إلا ليأخذ العوض فهو في الحقيقة بخيل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن المراد بهذا الإنسان المعهود السابق : وهم الذين قالوا ( لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية