الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : احتج أصحابنا الصوفية بهذه الآية على صحة القول بالكرامات ، وهو استدلال ظاهر ، ونذكر هذه المسألة ههنا على سبيل الاستقصاء ، فنقول قبل الخوض في الدليل على جواز الكرامات : نفتقر إلى تقديم مقدمتين :

                                                                                                                                                                                                                                            المقدمة الأولى : في بيان أن الولي ما هو فنقول : ههنا وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن يكون فعيلا مبالغة من الفاعل كالعليم والقدير ، فيكون معناه من توالت طاعاته من غير تخلل معصية .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن يكون فعيلا بمعنى مفعول كقتيل وجريح بمعنى مقتول ومجروح ، وهو الذي يتولى الحق سبحانه حفظه وحراسته على التوالي عن كل أنواع المعاصي ويديم توفيقه على الطاعات .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا الاسم مأخوذ من قوله : تعالى : ( الله ولي الذين آمنوا ) ( البقرة : 257 ) وقوله : ( وهو يتولى الصالحين ) ( الأعراف : 196 ) وقوله تعالى : ( أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) ( البقرة : 286 ) وقوله : ( ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ) ( محمد : 11 ) وقوله : ( إنما وليكم الله ورسوله ) ( المائدة : 55 ) وأقول : الولي هو القريب في اللغة ، فإذا كان العبد قريبا من حضرة الله بسبب كثرة طاعاته وكثرة إخلاصه ، وكان الرب قريبا منه برحمته وفضله وإحسانه ، فهناك حصلت الولاية .

                                                                                                                                                                                                                                            المقدمة الثانية : إذا ظهر فعل خارق للعادة على الإنسان ، فذاك إما أن يكون مقرونا بالدعوى أو لا مع الدعوى ، والقسم الأول وهو أن يكون مع الدعوى فتلك الدعوى إما أن تكون دعوى الإلهية أو دعوى النبوة أو دعوى الولاية أو دعوى السحر وطاعة الشياطين ، فهذه أربعة أقسام :

                                                                                                                                                                                                                                            القسم الأول : ادعاء الإلهية ، وجوز أصحابنا ظهور خوارق العادات على يده من غير معارضة كما نقل أن فرعون كان يدعي الإلهية ، وكانت تظهر خوارق العادات على يده ، وكما نقل ذلك أيضا في حق الدجال ، قال أصحابنا : وإنما جاز ذلك لأن شكله وخلقته تدل على كذبه ، فظهور الخوارق على يده لا يفضي إلى التلبيس .

                                                                                                                                                                                                                                            والقسم الثاني : وهو ادعاء النبوة ، فهذا القسم على قسمين لأنه إما أن يكون ذلك المدعي صادقا أو كاذبا ، فإن كان صادقا وجب ظهور الخوارق على يده ، وهذا متفق عليه بين كل من أقر بصحة نبوة الأنبياء ، وإن كان كاذبا لم يجز ظهور الخوارق على يده ، وبتقدير أن تظهر وجب حصول المعارضة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : وهو ادعاء الولاية والقائلون بكرامات الأولياء اختلفوا في أنه هل يجوز أن يدعي الكرامات ، ثم إنها تحصل على وفق دعواه أم لا ؟

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الرابع : وهو ادعاء السحر وطاعة الشيطان ، فعند أصحابنا يجوز ظهور خوارق العادات على يده ، وعند المعتزلة لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : وهو أن تظهر خوارق العادات على يد إنسان من غير شيء من الدعاوى ، فذلك الإنسان إما أن يكون صالحا مرضيا عند الله ، وإما أن يكون خبيثا مذنبا .

                                                                                                                                                                                                                                            والأول هو القول بكرامات الأولياء ، وقد اتفق أصحابنا على جوازه ، وأنكرها المعتزلة إلا أبا الحسين البصري وصاحبه محمود الخوارزمي .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : وهو أن تظهر خوارق العادات على بعض من كان مردودا عن طاعة الله تعالى ، فهذا هو المسمى بالاستدراج ، فهذا تفصيل الكلام في هاتين المقدمتين ، إذا عرفت ذلك ، فنقول : الذي يدل على جواز كرامات الأولياء القرآن والأخبار والآثار والمعقول ، أما القرآن فالمعتمد فيه عندنا آيات :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 73 ] الحجة الأولى : قصة مريم عليها السلام ، وقد شرحناها في سورة آل عمران فلا نعيدها .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية : قصة أصحاب الكهف وبقاؤهم في النوم أحياء سالمين عن الآفات مدة ثلاثمائة سنة وتسع سنين ، وأنه تعالى كان يعصمهم من حر الشمس ، كما قال : ( وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ) ( الكهف : 18 ) إلى قوله : ( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين ) ( الكهف : 17 ) ومن الناس من تمسك في هذه المسألة بقوله تعالى : ( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) ( النمل : 40 ) وقد بينا أن ذلك الذي كان عنده علم من الكتاب هو سليمان ، فسقط هذا الاستدلال ، أجاب القاضي عنه بأن قال : لا بد من أن يكون فيهم أو في ذلك الزمان نبي يصير ذلك علما له لما فيه من نقض العادة كسائر المعجزات ، قلنا : إنه يستحيل أن تكون هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء ؛ لأن إقدامهم على النوم أمر غير خارق للعادة حتى يجعل ذلك معجزة ؛ لأن الناس لا يصدقونه في هذه الواقعة لأنهم لا يعرفون كونهم صادقين في هذه الدعوى إلا إذا بقوا طول هذه المدة ، وعرفوا أن هؤلاء الذين جاءوا في هذا الوقت هم الذين ناموا قبل ذلك بثلاثمائة سنين وتسع سنين ، وكل هذه الشرائط لم توجد فامتنع جعل هذه الواقعة معجزة لأحد من الأنبياء ، فلم يبق إلا أن تجعل كرامة للأولياء وإحسانا إليهم ، أما الأخبار فكثيرة :

                                                                                                                                                                                                                                            الخبر الأول : ما أخرج في "الصحيحين" عن أبي هريرة -رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم عليه السلام ، وصبي في زمن جريج الناسك وصبي آخر ، أما عيسى فقد عرفتموه ، وأما جريج فكان رجلا عابدا ببني إسرائيل وكانت له أم فكان يوما يصلي ، إذ اشتاقت إليه أمه ، فقالت : يا جريج ، فقال : يا رب الصلاة خير أم رؤيتها ؟ ثم صلى فدعته ثانيا ، فقال مثل ذلك ، حتى قال ثلاث مرات ، وكان يصلي ويدعها ، فاشتد ذلك على أمه قالت : اللهم لا تمته حتى تريه المومسات ، وكانت زانية هناك ، فقالت لهم : أنا أفتن جريجا حتى يزني فأتته فلم تقدر على شيء ، وكان هناك راع يأوي بالليل إلى أصل صومعته ، فلما أعياها راودت الراعي على نفسها ، فأتاها فولدت ، ثم قالت : ولدي هذا من جريج ، فأتاها بنو إسرائيل ، وكسروا صومعته وشتموه ، فصلى ودعا ، ثم نخس الغلام ، قال أبو هريرة : كأني أنظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال بيده يا غلام من أبوك ؟ فقال : الراعي فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه ، وقالوا : نبني صومعتك من ذهب أو فضة فأبى عليهم ، وبناها كما كانت ، وأما الصبي الآخر فإن امرأة كان معها صبي لها ترضعه ، إذ مر بها شاب جميل ذو شارة حسنة ، فقالت : اللهم اجعل ابني مثل هذا ، فقال الصبي : اللهم لا تجعلني مثله ، ثم مرت بها امرأة ذكروا أنها سرقت وزنت وعوقبت ، فقالت : اللهم لا تجعل ابني مثل هذا ، فقال الصبي : اللهم اجعلني مثلها ، فقالت له أمه في ذلك : فقال إن الشاب كان جبارا من الجبابرة ، فكرهت أن أكون مثله ، وإن هذه قيل : إنها زنت ولم تزن ، وقيل : إنها سرقت ولم تسرق ، وهي تقول : حسبي الله .

                                                                                                                                                                                                                                            الخبر الثاني : وهو خبر الغار وهو مشهور في "الصحاح" عن الزهري عن سالم عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم ، فأواهم المبيت إلى غار ، فدخلوه ، فانحدرت صخرة من الجبل وسدت عليهم باب الغار ، فقالوا : والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم ، فقال رجل منهم : كان لي أبوان شيخان كبيران ، وكنت لا أغبق قبلهما ، فناما في ظل شجرة يوما فلم أبرح عنهما ، وحلبت لهما غبوقهما ، فجئتهما به ، فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أغبق قبلهما ، فقمت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى ظهر الفجر فاستيقظا ، فشربا غبوقهما ، اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك ، فافرج عنا [ ص: 74 ] ما نحن فيه من هذه الصخرة ، فانفرجت انفراجا لا يستطيعون الخروج منه ، ثم قال الآخر : كانت لي ابنة عم وكانت أحب الناس إلي ، فراودتها عن نفسها فامتنعت حتى ألمت بها سنة من السنين ، فجاءتني وأعطيتها مالا عظيما على أن تخلي بيني وبين نفسها ، فلما قدرت عليها ، قالت : لا يجوز لك أن تفك الخاتم إلا بحقها ، فتحرجت من ذلك العمل وتركتها وتركت المال معها ، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة ، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منه ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال الثالث : اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب ، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال ، فجاءني بعد حين ، وقال : يا عبد الله أد إلي أجرتي ، فقلت له : كل ما ترى من أجرتك من الإبل والغنم والرقيق ، فقال : يا عبد الله أتستهزئ بي ؟ فقلت : إني لا أستهزئ بك ، فأخذ ذلك كله ، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه ، فانفرجت الصخرة عن الغار فخرجوا يمشون .

                                                                                                                                                                                                                                            وهذا حديث حسن صحيح متفق عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            الخبر الثالث : قوله -صلى الله عليه وسلم- : رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ولم يفرق بين شيء وشيء فيما يقسم به على الله .

                                                                                                                                                                                                                                            الخبر الرابع : روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها ، فالتفتت إليه البقرة ، فقالت : إني لم أخلق لهذا ، وإنما خلقت للحرث ، فقال الناس : سبحان الله بقرة تتكلم ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما .

                                                                                                                                                                                                                                            الخبر الخامس : عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : بينما رجل يسمع رعدا أو صوتا في السحاب : أن اسق حديقة فلان ، قال : فعدوت إلى تلك الحديقة ، فإذا رجل قائم فيها ، فقلت له : ما اسمك ؟ قال : فلان بن فلان بن فلان ، قلت : فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها ؟ قال : ولم تسأل عن ذلك ؟ قلت : لأني سمعت صوتا في السحاب أن اسق حديقة فلان ، قال : أما إذ قلت : فإني أجعلها أثلاثا ، فأجعل لنفسي وأهلي ثلثا ، وأجعل للمساكين وابن السبيل ثلثا ، وأنفق عليها ثلثا .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الآثار : فلنبدأ بما نقل أنه ظهر عن الخلفاء الراشدين من الكرامات ، ثم بما ظهر عن سائر الصحابة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما أبو بكر -رضي الله عنه - فمن كراماته أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- ونودي السلام عليك يا رسول الله ، هذا أبو بكر بالباب ، فإذا الباب قد انفتح ، وإذا بهاتف يهتف من القبر : أدخلوا الحبيب إلى الحبيب . وأما عمر -رضي الله عنه - فقد ظهرت أنواع كثيرة من كراماته ، وأحدها ما روي أنه بعث جيشا وأمر عليهم رجلا يدعى سارية بن الحصين ، فبينا عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته ، وهو على المنبر : يا سارية الجبل الجبل ، قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : فكتبت تاريخ تلك الكلمة ، فقدم رسول مقدم الجيش ، فقال : يا أمير المؤمنين غزونا يوم الجمعة في وقت الخطبة ، فهزمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل الجبل ، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل ، فهزم الله الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة ببركة ذلك الصوت ، قلت : سمعت بعض المذكرين قال : كان ذلك معجزة لمحمد -صلى الله عليه وسلم- لأنه قال لأبي بكر وعمر أنتما مني بمنزلة السمع والبصر ، فلما كان عمر بمنزلة البصر لمحمد -صلى الله عليه وسلم- ، لا جرم قدر على أن يرى من ذلك البعد العظيم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة ، وكان لا يجري حتى يلقى فيه [ ص: 75 ] جارية واحدة حسناء ، فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص بهذه الواقعة إلى عمر ، فكتب عمر على خزفة : أيها النيل إن كنت تجري بأمر الله فاجر ، وإن كنت تجري بأمرك ، فلا حاجة بنا إليك! فألقيت تلك الخزفة في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : وقعت الزلزلة في المدينة فضرب عمر الدرة على الأرض ، وقال : اسكني بإذن الله ، فسكنت وما حدثت الزلزلة بالمدينة بعد ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : وقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خزفة : يا نار اسكني بإذن الله ، فألقوها في النار فانطفأت في الحال .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : روي أن رسول ملك الروم جاء إلى عمر فطلب داره فظن أن داره مثل قصور الملوك ، فقالوا : ليس له ذلك ، وإنما هو في الصحراء يضرب اللبن ، فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر -رضي الله عنه - وضع درته تحت رأسه ، ونام على التراب ، فعجب الرسول من ذلك ، وقال : إن أهل الشرق والغرب يخافون من هذا الإنسان وهو على هذه الصفة! ثم قال في نفسه : إني وجدته خاليا فأقتله وأخلص الناس منه . فلما رفع السيف أخرج الله من الأرض أسدين فقصداه ، فخاف وألقى السيف من يده ، وانتبه عمر ولم ير شيئا ، فسأله عن الحال ، فذكر له الواقعة وأسلم ، وأقول : هذه الوقائع رويت بالآحاد ، وههنا ما هو معلوم بالتواتر وهو أنه مع بعده عن زينة الدنيا واحترازه عن التكلفات والتهويلات ساس الشرق والغرب وقلب الممالك والدول لو نظرت في كتب التواريخ علمت أنه لم يتفق لأحد من أول عهد آدم إلى الآن ما تيسر له ، فإنه مع غاية بعده عن التكلفات ، كيف قدر على تلك السياسات ؟ ولا شك أن هذا من أعظم الكرامات .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما عثمان -رضي الله عنه - فروى أنس قال : سرت في الطريق ، فرفعت عيني إلى امرأة ثم دخلت على عثمان ، فقال : ما لي أراكم تدخلون علي وآثار الزنا ظاهرة عليكم ؟ فقلت : أجاء الوحي بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : لا ، ولكن فراسة صادقة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه لما طعن بالسيف ، فأول قطرة من دمه سقطت وقعت على المصحف على قوله تعالى : ( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ) . ( البقرة : 137 ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن جهجاها الغفاري انتزع العصا من يد عثمان وكسرها على ركبته ، فوقعت الأكلة في ركبته .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما علي كرم الله وجهه فيروى أن واحدا من محبيه سرق وكان عبدا أسود ، فأتي به إلى علي ، فقال له : أسرقت ؟ قال : نعم ، فقطع يده فانصرف من عند علي عليه السلام ، فلقيه سلمان الفارسي وابن الكرا ، فقال ابن الكرا : من قطع يدك ؟ فقال : أمير المؤمنين ، ويعسوب المسلمين ، وختن الرسول ، وزوج البتول ، فقال : قطع يدك وتمدحه ؟ فقال : ولم لا أمدحه ، وقد قطع يدي بحق ، وخلصني من النار ؟ ! فسمع سلمان ذلك ، فأخبر به عليا فدعا الأسود ، ووضع يده على ساعده ، وغطاه بمنديل ، ودعا بدعوات ، فسمعنا صوتا من السماء : ارفع الرداء عن اليد ، فرفعناه ، فإذا اليد قد برأت بإذن الله تعالى وجميل صنعه .

                                                                                                                                                                                                                                            أما سائر الصحابة فأحوالهم في هذا الباب كثيرة ، فنذكر منها شيئا قليلا .

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : روى محمد بن المنكدر عن سفينة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها فركبت لوحا من ألواحها ، فطرحني اللوح في خيسة فيها أسد ، فخرج الأسد إلي يريدني ، فقلت : يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتقدم ودلني على الطريق ، ثم همهم ، فظننت أنه يودعني ورجع .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : روى ثابت عن أنس أن أسيد بن حضير ورجلا آخر من الأنصار تحدثا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حاجة لهما حتى ذهب من الليل زمان ، ثم خرجا من عنده وكانت الليلة شديدة الظلمة ، وفي يد كل واحد منهما عصا ، فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها ، فلما انفرق بينهما الطريق أضاءت للآخر عصاه ، فمشى في ضوئها حتى بلغ منزله .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قالوا لخالد بن الوليد : إن في عسكرك من يشرب الخمر ، فركب فرسه ليلة فطاف بالعسكر ، فلقي رجلا على فرس ومعه زق خمر ، فقال ما هذا ؟ قال : خل ، فقال خالد : اللهم اجعله خلا . فذهب الرجل إلى [ ص: 76 ] أصحابه ، فقال : أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثلها ، فلما فتحوا فإذا هو خل ، فقالوا : والله ما جئتنا إلا بخل ؟ فقال : هذا والله دعاء خالد بن الوليد .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : الواقعة المشهورة وهي أن خالد بن الوليد أكل كفا من السم على اسم الله وما ضره .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : روي أن ابن عمر كان في بعض أسفاره ، فلقي جماعة وقفوا على الطريق من خوف السبع ، فطرد السبع من طريقهم ، ثم قال : إنما يسلط على ابن آدم ما يخافه ، ولو أنه لم يخف غير الله لما سلط عليه شيء .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث العلاء بن الحضرمي في غزاة فحال بينهم وبين المطلوب قطعة من البحر ، فدعا باسم الله الأعظم ، ومشوا على الماء ، وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات متجاوزة عن الحد والحصر ، فمن أرادها طالعها .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الدلائل العقلية القطعية على جواز الكرامات ، فمن وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الأولى : أن العبد ولي الله ، قال الله تعالى : ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) ( يونس : 62 ) والرب ولي العبد ، قال تعالى : ( الله ولي الذين آمنوا ) ( البقرة : 257 ) وقال : ( وهو يتولى الصالحين ) ( الأعراف : 196 ) وقال : ( إنما وليكم الله ورسوله ) ( المائدة : 55 ) وقال : ( أنت مولانا ) ( البقرة : 286 ) وقال : ( ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا ) ( محمد : 11 ) فثبت أن الرب ولي العبد وأن العبد ولي الرب ، وأيضا الرب حبيب العبد والعبد حبيب الرب ، قال تعالى : ( يحبهم ويحبونه ) ( المائدة : 54 ) وقال : ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) ( البقرة : 165 ) وقال : ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) ( البقرة : 222 ) وإذا ثبت هذا فنقول : العبد إذا بلغ في الطاعة إلى حيث يفعل كل ما أمره الله وكل ما فيه رضاه وترك كل ما نهى الله وزجر عنه ، فكيف يبعد أن يفعل الرب الرحيم الكريم مرة واحدة ما يريده العبد ؟ بل هو أولى لأن العبد مع لؤمه وعجزه لما فعل كل ما يريده الله ويأمره به ، فلأن يفعل الرب الرحيم مرة واحدة ما أراده العبد كان أولى ، ولهذا قال تعالى : ( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) ( البقرة : 40 ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية : لو امتنع إظهار الكرامة لكان ذلك ، إما لأجل أن الله ليس أهلا لأن يفعل مثل هذا الفعل ، أو لأجل أن المؤمن ليس أهلا لأن يعطيه الله هذه العطية ، والأول قدح فيقدره الله وهو كفر ، والثاني باطل فإن معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه ومحبة الله وطاعاته والمواظبة على ذكر تقديسه وتمجيده وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد في مفازة أو تسخير حية أو أسد ، فلما أعطى المعرفة والمحبة والذكر والشكر من غير سؤال فلأن يعطيه رغيفا في مفازة فأي بعد فيه ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : قال النبي -صلى الله عليه وسلم- حكاية عن رب العزة : " ما تقرب عبد إلي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا وقلبا ويدا ورجلا ، بي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يمشي" وهذا الخبر يدل على أنه لم يبق في سمعهم نصيب لغير الله ولا في بصرهم ولا في سائر أعضائهم ، إذ لو بقي هناك نصيب لغير الله لما قال : أنا سمعه وبصره ، إذا ثبت هذا ، فنقول : لا شك أن هذا المقام أشرف من تسخير الحية والسبع وإعطاء الرغيف وعنقود من العنب أو شربة من الماء ، فلما أوصل الله برحمته عبده إلى هذه الدرجات العالية ، فأي بعد في أن يعطيه رغيفا واحدا أو شربة ماء في مفازة ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الرابعة : قال عليه السلام حاكيا عن رب العزة : " من آذى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة " فجعل إيذاء الولي قائما مقام إيذائه ، وهذا قريب من قوله تعالى : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ) ( الفتح : 10 ) وقال : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا ) ( الأحزاب : 36 ) وقال : [ ص: 77 ] ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ) ( الأحزاب : 57 ) فجعل بيعة محمد -صلى الله عليه وسلم- بيعة مع الله ، ورضاء محمد -صلى الله عليه وسلم- رضاء الله ، وإيذاء محمد -صلى الله عليه وسلم- إيذاء الله ، فلا جرم كانت درجة محمد -صلى الله عليه وسلم- أعلى الدرجات إلى أبلغ الغايات فكذا ههنا لما قال : "من آذى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة" دل ذلك على أنه تعالى جعل إيذاء الولي قائما مقام إيذاء نفسه ، ويتأكد هذا بالخبر المشهور أنه تعالى يقول يوم القيامة : مرضت فلم تعدني ، استسقيتك فما سقيتني ، استطعمتك فما أطعمتني ، فيقول : يا رب كيف أفعل هذا وأنت رب العالمين ؟ فيقول : إن عبدي فلانا مرض ، فلم تعده ، أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي وكذا في السقي والإطعام ، فدلت هذه الأخبار على أن أولياء الله يبلغون إلى هذه الدرجات ، فأي بعد في أن يعطيه الله كسرة خبز أو شربة ماء أو يسخر له كلبا أو وردا .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الخامسة : أنا نشاهد في العرف أن من خصه الملك بالخدمة الخاصة وأذن له في الدخول عليه في مجلس الأنس ، فقد يخصه أيضا بأن يقدره على ما لا يقدر عليه غيره ، بل العقل السليم يشهد بأنه متى حصل ذلك القرب ، فإنه يتبعه هذه المناصب ، فجعل القرب أصلا والمنصب تبعا ، وأعظم الملوك هو رب العالمين ، فإذا شرف عبدا بأنه أوصله إلى عتبات خدمته ودرجات كرامته ، وأوقفه على أسرار معرفته ، ورفع حجب البعد بينه وبين نفسه ، وأجلسه على بساط قربه ، فأي بعد في أن يظهر بعض تلك الكرامات في هذا العالم مع أن كل هذا العالم بالنسبة إلى ذرة من تلك السعادات الروحانية والمعارف الربانية كالعدم المحض .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة السادسة : لا شك أن المتولي للأفعال هو الروح لا البدن ، ولا شك أن معرفة الله تعالى للروح كالروح للبدن على ما قررناه في تفسير قوله تعالى : ( ينزل الملائكة بالروح من أمره ) ( النحل : 2 ) وقال عليه السلام : "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" ولهذا المعنى نرى أن كل من كان أكثر علما بأحوال عالم الغيب كان أقوى قلبا وأقل ضعفا ، ولهذا قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ، ولكن بقوة ربانية . وذلك لأن عليا كرم الله وجهه في ذلك الوقت انقطع نظره عن عالم الأجساد وأشرقت الملائكة بأنوار عالم الكبرياء ، فتقوى روحه وتشبه بجواهر الأرواح الملكية ، وتلألأت فيه أضواء عالم القدس والعظمة ، فلا جرم حصل له من القدرة ما قدر بها على ما لم يقدر عليه غيره ، وكذلك العبد إذا واظب على الطاعات بلغ إلى المقام الذي يقول الله : كنت له سمعا وبصرا ، فإذا صار نور جلال الله سمعا له سمع القريب والبعيد ، وإذا صار ذلك النور بصرا له رأى القريب والبعيد ، وإذا صار ذلك النور يدا له قدر على التصرف في الصعب والسهل والبعيد والقريب .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة السابعة : وهي مبنية على القوانين العقلية الحكمية ، وهي أنا قد بينا أن جوهر الروح ليس من جنس الأجسام الكائنة الفاسدة المتعرضة للتفرق والتمزق ، بل هو من جنس جواهر الملائكة وسكان عالم السماوات ونوع المقدسين المطهرين ، إلا أنه لما تعلق بهذا البدن واستغرق في تدبيره صار في ذلك الاستغراق إلى حيث نسي الوطن الأول والمسكن المتقدم ، وصار بالكلية متشبها بهذا الجسم الفاسد ، فضعفت قوته وذهبت مكنته ، ولم يقدر على شيء من الأفعال ، أما إذا استأنست بمعرفة الله ومحبته ، وقل انغماسها في تدبير [ ص: 78 ] هذا البدن ، وأشرقت عليها أنوار الأرواح السماوية العرشية المقدسة ، وفاضت عليها من تلك الأنوار قويت على التصرف في أجسام هذا العالم مثل قوة الأرواح الفلكية على هذه الأعمال ، وذلك هو الكرامات ، وفيه دقيقة أخرى وهي أن مذهبنا : أن الأرواح البشرية مختلفة بالماهية ففيها القوية والضعيفة ، وفيها النورانية والكدرة ، وفيها الحرة والنذلة ، والأرواح الفلكية أيضا كذلك ، ألا ترى إلى جبريل كيف قال الله في وصفه : ( إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين ) ( التكوير :19 - 21) وقال في قوم آخرين من الملائكة : ( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا ) ( النجم : 26 ) فكذا ههنا فإذا اتفق في نفس من النفوس كونها قوية القوة القدسية العنصرية ، مشرقة الجوهر علوية الطبيعة ، ثم انضاف إليها أنواع الرياضات التي تزيل عن وجهها غبرة عالم الكون والفساد أشرقت وتلألأت وقويت على التصرف في هيولي عالم الكون والفساد بإعانة نور معرفة الحضرة الصمدية ، وتقوية أضواء حضرة الجلال والعزة ، ولنقبض ههنا عنان البيان ، فإن وراءها أسرارا دقيقة وأحوالا عميقة من لم يصل إليها لم يصدق بها ، ونسأل الله الإعانة على إدراك الخيرات .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية