الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( فاجلدوهم ثمانين جلدة ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : المخاطب بقوله : ( فاجلدوهم ) هو الإمام على ما بيناه في آية الزنا ، أو المالك على مذهب الشافعي ، أو رجل صالح ينصبه الناس عند فقد الإمام .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : خص من عموم هذه الآية صور .

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : الوالد يقذف ولده أو أحدا من نوافله ، فلا يجب عليه الحد ، كما لا يجب عليه القصاص بقتله .

                                                                                                                                                                                                                                            الثانية : القاذف إذا كان عبدا فالواجب جلد أربعين ، وكذا المكاتب وأم الولد ، ومن بعضه حر وبعضه رقيق فحدهم حد العبيد .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالثة : من قذف رقيقة عفيفة أو من زنت في قديم الأيام ثم تابت فهي بموجب اللغة محصنة ، ومع ذلك لا يجب الحد بقذفها .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 140 ] المسألة الثالثة : قالوا : أشد الضرب في الحدود ضرب الزنا ، ثم ضرب شرب الخمر ، ثم ضرب القاذف ، لأن سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب ، إلا أنه عوقب صيانة للأعراض وزجرا عن هتكها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قال مالك والشافعي : حد القذف يورث ، فإذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد وقبل العفو يثبت لوارثه حد القذف ، وكذلك إذا كان الواجب بقذفه التعزير ، فإنه يورث عنه ، وكذا لو أنشأ القذف بعد موت المقذوف ثبت لوارثه طلب الحد . وعند أبي حنيفة رحمه الله : حد القذف لا يورث ويسقط بالموت . حجة الشافعي رحمه الله ، أن حد القذف هو حق الآدمي لأنه يسقط بعفوه ولا يستوفى إلا بطلبه ويحلف فيه المدعى عليه إذا أنكر ، وإذا كان حق الآدمي وجب أن يورث لقوله عليه السلام : " ومن ترك حقا فلورثته " حجة أبي حنيفة رحمه الله : أنه لو كان موروثا لكان للزوج أو الزوجة فيه نصيب ، ولأنه حق ليس فيه معنى المال والوثيقة فلا يورث كالوكالة والمضاربة .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الأول : أن الأصح عند الشافعية أنه يرثه جميع الورثة كالمال ، وفيه وجه ثان أنه يرثه كلهم إلا الزوج والزوجة ، لأن الزوجية ترتفع بالموت ، ولأن المقصود من الحد دفع العار عن النسب ، وذلك لا يلحق الزوج والزوجة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : إذا قذف إنسان إنسانا بين يدي الحاكم ، أو قذف امرأته برجل بعينه والرجل غائب ، فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلانا قذفك وثبت لك حد القذف عليه ، كما لو ثبت له مال على آخر وهو لا يعلمه يلزمه إعلامه ، وعلى هذا المعنى " بعث النبي صلى الله عليه وسلم أنيسا ليخبرها بأن فلانا قذفها بابنه ولم يبعثه ليتفحص عن زناها " قال الشافعي رحمه الله وليس للإمام إذا رمى رجل بزنا أن يبعث إليه فيسأله عن ذلك لأن الله تعالى قال : ( ولا تجسسوا ) [ الحجرات : 12 ] وأراد به إذا لم يكن القاذف معينا ، مثل إن قال رجل بين يدي الحاكم : الناس يقولون إن فلانا زنى فلا يبعث الحاكم إليه فيسأله .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) فاختلف الفقهاء فيه ، فقال أكثر الصحابة والتابعين إنه إذا تاب قبلت شهادته وهو قول الشافعي رحمه الله ، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح رحمهم الله لا تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب ، وهذه المسألة مبنية على أن قوله : ( إلا الذين تابوا ) هل عاد إلى جميع الأحكام المذكورة أو اختص بالجملة الأخيرة ، فعند أبي حنيفة رحمه الله : الاستثناء المذكور عقيب الجمل الكثيرة مختص بالجملة الأخيرة ، وعند الشافعي رحمه الله يرجع إلى الكل ، وهذه المسألة قد لخصناها في أصول الفقه ، ونذكر هاهنا ما يليق بهذا الموضع إن شاء الله تعالى ، احتج الشافعي رحمه الله على أن شهادته مقبولة بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قوله عليه السلام : " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " ومن لا ذنب له مقبول الشهادة ، فالتائب يجب أن يكون أيضا مقبول الشهادة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الكافر يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالإجماع ، فالقاذف المسلم إذا تاب عن القذف وجب أن تقبل شهادته ، لأن القذف مع الإسلام أهون حالا من القذف مع الكفر ، فإن قيل المسلمون لا يألمون بسب الكفار ، لأنهم شهروا بعداوتهم والطعن فيهم بالباطل ، فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنآن ما يلحقه بقذف مسلم مثله ، فشدد على القاذف من المسلمين زجرا عن إلحاق العار والشنآن ، وأيضا فالتائب من الكفر لا يجب عليه الحد والتائب من القذف لا يسقط عنه الحد ، قلنا هذا الفرق ملغى بقوله عليه السلام : " أنبئهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على [ ص: 141 ] المسلمين " .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أجمعنا على أن التائب عن الكفر والقتل والزنا مقبول الشهادة فكذا التائب عن القذف ; لأن هذه الكبيرة ليست أكبر من نفس الزنا .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن أبا حنيفة رحمه الله يقبل شهادته إذا تاب قبل الحد مع أن الحد حق المقذوف فلا يزول بالتوبة . فلأن تقبل شهادته إذا تاب بعد إقامة الحد وقد حسنت حالته وزال اسم الفسق عنه كان أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أن قوله : ( إلا الذين تابوا ) استثناء مذكور عقيب جمل فوجب عوده إليها بأسرها ويدل عليه أمور :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أجمعنا على أنه لو قال عبده حر وامرأته طالق إن شاء الله ، فإنه يرجع الاستثناء إلى الجميع فكذا فيما نحن فيه ، فإن قيل الفرق أن قوله : إن شاء الله يدخل لرفع حكم الكلام حتى لا يثبت فيه شيء ، والاستثناء المذكور بحرف الاستثناء لا يجوز دخوله لرفع حكم الكلام رأسا . ألا ترى أنه يجوز أن يقول أنت طالق إن شاء الله فلا يقع شيء ، ولو قال أنت طالق إلا طلاقا كان الطلاق واقعا والاستثناء باطلا لاستحالة دخوله لرفع حكم الكلام بالكلية ، فثبت أنه لا يلزم من رجوع قوله : ( إن شاء الله ) إلى جميع ما تقدم صحة رجوع الاستثناء بحرفه إلى جميع ما تقدم ، قلنا هذا فرق في غير محل الجمع ، لأن إن شاء الله جاز دخوله لرفع حكم الكلام بالكلية ، فلا جرم جاز رجوعه إلى جميع الجمل المذكورة وإلا جاز دخوله لرفع بعض الكلام فوجب جواز رجوعه إلى جميع الجمل على هذا الوجه ، حتى يقتضي أن يخرج من كل واحد من الجمل المذكورة بعضه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الواو للجمع المطلق فقوله : ( فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ) صار الجمع كأنه ذكر معا لا تقدم للبعض على البعض .

                                                                                                                                                                                                                                            فلما دخل عليه لم يكن رجوع الاستثناء إلى بعضها أولى من رجوعه إلى الباقي إذ لم يكن لبعضها على بعض تقدم في المعنى البتة فوجب رجوعه إلى الكل ، ونظيره على قول أبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) [ المائدة : 6 ] فإن فاء التعقيب ما دخلت على غسل الوجه بل على مجموع هذه الأمور من حيث إن الواو لا تفيد الترتيب . فكذا هاهنا كلمة إلا ما دخلت على واحد بعينه لأن حرف الواو لا يفيد الترتيب بل دخلت على المجموع ، فإن قيل الواو قد تكون للجمع على ما ذكرت وقد تكون للاستئناف وهي في قوله : ( وأولئك هم الفاسقون ) لأنها إنما تكون للجمع فيما لا يختلف معناه ونظمه جملة واحدة ، فيصير الكل كالمذكور معا مثل آية الوضوء فإن الكل أمر واحد كأنه قال : فاغسلوا هذه الأعضاء فإن الكل قد تضمنه لفظ الأمر .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما آية القذف فإن ابتداءها أمر وآخرها خبر فلا يجوز أن ينظمهما جملة واحدة ، وكان الواو للاستئناف فيختص الاستثناء به ، قلنا لم لا يجوز أن نجعل الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط كأنه قيل ومن قذف المحصنات فاجلدوهم وردوا شهادتهم وفسقوهم ، أي فاجمعوا لهم الجلد والرد والفسق ، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله يغفر لهم فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن قوله : ( وأولئك هم الفاسقون ) عقيب قوله : ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) يدل على أن العلة في عدم قبول تلك الشهادة كونه فاسقا ، لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية ، لا سيما إذا كان الوصف مناسبا وكونه فاسقا يناسب أن لا يكون مقبول الشهادة ، إذا ثبت أن العلة لرد الشهادة ليست إلا كونه فاسقا ، ودل الاستثناء على زوال الفسق فقد زالت العلة فوجب أن يزول الحكم لزوال العلة .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن مثل هذا الاستثناء موجود في القرآن ، قال الله تعالى : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ) [ المائدة : 33 ] إلى قوله : ( إلا الذين تابوا ) ولا خلاف أن هذا الاستثناء راجع إلى ما تقدم من أول الآية ، وأن التوبة حاصلة لهؤلاء جميعا وكذلك قوله : [ ص: 142 ] ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) [ النساء : 43 ] إلى قوله : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا ) [ النساء : 43 ] وصار التيمم لمن وجب عليه الاغتسال ، كما أنه مشروع لمن وجب عليه الوضوء ، وهذا الوجه ذكره أبو عبيد في إثبات مذهب الشافعي رحمه الله ، واحتج أصحاب أبي حنيفة على أن حكم الاستثناء مختص بالجملة الأخيرة بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن الاستثناء من الاستثناء يختص بالجملة الأخيرة ، فكذا في جميع الصور طردا للباب .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن المقتضي لعموم الجمل المتقدمة قائم والمعارض وهو الاستثناء يكفي في تصحيحه تعليقه بجملة واحدة ، لأن بهذا القدر يخرج الاستثناء عن أن يكون لغوا فوجب تعليقه بالجملة الواحدة فقط .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن الاستثناء لو رجع إلى كل الجمل المتقدمة لوجب أنه إذا تاب أن لا يجلد وهذا باطل بالإجماع فوجب أن يختص الاستثناء بالجملة الأخيرة .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الأول : أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي ، فالاستثناء عقيب الاستثناء لو رجع إلى الاستثناء الأول وإلى المستثنى فبقدر ما نفى من أحدهما أثبت في الآخر فينجبر الناقص بالزائد ويصير الاستثناء الثاني عديم الفائدة ، فلهذا السبب قلنا في الاستثناء من الاستثناء إنه يختص بالجملة الأخيرة .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الثاني : أنا بينا أن واو العطف لا تقتضي الترتيب فلم يكن بعض الجمل متأخرا في التقدير عن البعض ، فلم يكن تعليقه بالبعض أولى من تعليقه بالباقي ، فوجب تعليقه بالكل .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الثالث : أنه ترك العمل به في حق البعض فلم يترك العمل به في حق الباقي ، واحتج أصحاب أبي حنيفة رحمه الله في المسألة بوجوه من الأخبار :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : ما روى ابن عباس رضي الله عنهما في قصة هلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين " فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وقوع الجلد به يبطل شهادته من غير شرط التوبة في قبولها .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن قوله عليه السلام : " المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف " ولم يشترط فيه وجود التوبة منه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تجوز شهادة محدود في الإسلام " قالت الشافعية هذا معارض بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قوله عليه السلام : " إذا علمت مثل الشمس فاشهد " والأمر للوجوب فإذا علم المحدود وجبت عليه الشهادة ولو لم تكن مقبولة لما وجبت لأنها تكون عبثا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله عليه السلام : " نحن نحكم بالظاهر " وهاهنا قد حصل الظهور لأن دينه وعقله وعفته الحاصلة بالتوبة تفيد ظن كونه صادقا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : ما روي عن عمر بن الخطاب " أنه ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة وهم أبو بكرة ونافع ونفيع ، ثم قال لهم من أكذب نفسه قبلت شهادته ومن لم يفعل لم أجز شهادته فأكذب نافع ونفيع أنفسهما وتابا وكان يقبل شهادتهما . وأما أبو بكرة فكان لا يقبل شهادته " وما أنكر عليه أحد من الصحابة فيه ، فهذا تمام الكلام في هذه المسألة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وأولئك هم الفاسقون ) فاعلم أنه يدل على أمرين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن القذف من جملة الكبائر لأن اسم الفسق لا يقع إلا على صاحب الكبيرة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه اسم لمن يستحق العقاب لأنه لو كان مشتقا من فعله لكانت التوبة لا تمنع من دوامه كما لا تمنع من وصفه بأنه ضارب وبأنه رام إلى غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية