الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            القصة الثالثة قصة نوح عليه السلام

                                                                                                                                                                                                                                            ( كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم )? . [ ص: 133 ]

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين قالوا لئن لم تنته يانوح لتكونن من المرجومين قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما قص على محمد صلى الله عليه وسلم خبر موسى وإبراهيم تسلية له فيما يلقاه من قومه قص عليه أيضا نبأ نوح عليه السلام ، فقد كان نبؤه أعظم من نبأ غيره ؛ لأنه كان يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، ومع ذلك كذبه قومه فقال : ( كذبت قوم نوح ) وإنما قال " كذبت " لأن القوم مؤنث وتصغيرها قويمة ، وإنما حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنهم وإن كذبوا نوحا لكن تكذيبه في المعنى يتضمن تكذيب غيره ؛ لأن طريقة معرفة الرسل لا تختلف فمن حيث المعنى حكى عنهم أنهم كذبوا المرسلين .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : أن قوم نوح كذبوا بجميع رسل الله تعالى ، إما لأنهم كانوا من الزنادقة أو من البراهمة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله : ( أخوهم ) فلأنه كان منهم ، من قول العرب يا أخا بني تميم يريدون يا واحدا منهم ، ثم إنه سبحانه حكى عن نوح عليه السلام أنه أولا خوفهم ، وثانيا أنه وصف نفسه ، أما التخويف فهو قوله : ( ألا تتقون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن القوم إنما قبلوا تلك الأديان للتقليد والمقلد إذا خوف خاف ، وما لم يحصل الخوف في قلبه لا يشتغل بالاستدلال ، فلهذا السبب قدم على جميع كلماته قوله : ( ألا تتقون ) . وأما وصفه نفسه فذاك بأمرين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : قوله : ( إني لكم رسول أمين ) وذلك لأنه كان فيهم مشهورا بالأمانة كمحمد صلى الله عليه وسلم في قريش فكأنه قال : كنت أمينا من قبل ، فكيف تتهموني اليوم ؟

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : قوله : ( وما أسألكم عليه من أجر ) أي على ما أنا فيه من ادعاء الرسالة لئلا يظن به أنه دعاهم للرغبة ، فإن قيل : ولماذا كرر الأمر بالتقوى ؟ جوابه : لأنه في الأول أراد ( ألا تتقون ) مخالفتي وأنا رسول الله ، وفي الثاني : ( ألا تتقون ) مخالفتي ولست آخذ منكم أجرا فهو في المعنى مختلف ولا تكرار فيه ، وقد يقول الرجل لغيره : ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيرا ! ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيرا ، وإنما قدم الأمر بتقوى الله تعالى على الأمر بطاعته ، لأن تقوى الله علة لطاعته فقدم العلة على المعلول ، ثم إن نوحا عليه السلام لما قال لهم ذلك أجابوه بقولهم : ( أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قال صاحب " الكشاف " : وقرئ " وأتباعك الأرذلون " جمع تابع كشاهد وأشهاد أو جمع تبع كبطل وأبطال [ ص: 134 ] والواو للحال وحقها أن يضمر بعدها قد في ( واتبعك ) وقد جمع أرذال على الصحة وعلى التكسير في قولهم : ( الذين هم أراذلنا ) [ هود : 27 ] والرذالة الخسة ، وإنما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا ، وقيل : كانوا من أهل الصناعات الخسيسة كالحياكة والحجامة .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذه الشبهة في نهاية الركاكة ، لأن نوحا عليه السلام بعث إلى الخلق كافة ، فلا يختلف الحال في ذلك بسبب الفقر والغنى وشرف المكاسب ودناءتها ، فأجابهم نوح عليه السلام بالجواب الحق وهو قوله : ( وما علمي بما كانوا يعملون ) وهذا الكلام يدل على أنهم نسبوهم مع ذلك إلى أنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة ، وإنما آمنوا بالهوى والطمع كما حكى الله تعالى عنهم في قوله : ( الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) [ هود : 27 ] ثم قال : ( إن حسابهم إلا على ربي ) معناه لا نعتبر إلا الظاهر من أمرهم دون ما يخفى ، ولما قال : ( إن حسابهم إلا على ربي ) وكانوا لا يصدقون بذلك أردفه بقوله : ( لو تشعرون ) ثم قال : ( وما أنا بطارد المؤمنين ) وذلك كالدلالة على أن القوم سألوه إبعادهم لكي يتبعوه أو ليكونوا أقرب إلى ذلك ، فبين أن الذي يمنعه عن طردهم أنهم آمنوا به ثم بين أن غرضه بما حمل من الرسالة يمنع من ذلك بقوله : ( إن أنا إلا نذير مبين ) والمراد إني أخوف من كذبني ولم يقبل مني ، فمن قبل فهو القريب ، ومن رد فهو البعيد ، ثم إن نوحا عليه السلام لما تمم هذا الجواب لم يكن منهم إلا التهديد ، فقالوا : ( لئن لم تنته يانوح لتكونن من المرجومين ) والمعنى أنهم خوفوه بأن يقتل بالحجارة ، فعند ذلك حصل اليأس لنوح عليه السلام من فلاحهم ، وقال : ( رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ) وليس الغرض منه إخبار الله تعالى بالتكذيب لعلمه أن عالم الغيب والشهادة أعلم ، ولكنه أراد : إني لا أدعوك عليهم لما آذوني ، وإنما أدعوك لأجلك ولأجل دينك ولأنهم كذبوني في وحيك ورسالتك ( فافتح بيني وبينهم ) أي فاحكم بيني وبينهم ، والفتاحة الحكومة ، والفتاح الحاكم لأنه يفتح المستغلق ، والمراد من هذا الحكم إنزال العقوبة عليهم لأنه قال عقبه : ( ونجني ) ولولا أن المراد إنزال العقوبة لما كان لذكر النجاة بعده معنى ، وقد تقدم القول في قصته مشروحا في سورة الأعراف وسورة هود .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ) قال صاحب " الكشاف " : الفلك السفينة وجمعه فلك قال تعالى : ( وترى الفلك فيه مواخر ) [ فاطر : 12 ] فالواحد بوزن قفل والجمع بوزن أسد والمشحون المملوء يقال : شحنها عليهم خيلا ورجالا ، فدل ذلك على أن الذين نجوا معه كان فيهم كثرة ، وأن الفلك امتلأ بهم وبما صحبهم ، وبين تعالى أنه بعد أن أنجاهم أغرق الباقين وأن إغراقه لهم كان كالمتأخر عن نجاتهم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية