الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            وأما شرح أحوال العالم الأسفل فأولها : الأرض ، وقد وصفها بصفات كثيرة :

                                                                                                                                                                                                                                            إحداها : كونه مهدا ، قال تعالى : ( الذي جعل لكم الأرض مهدا ) [ طه : 53 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيتها : كونه مهادا ، قال تعالى : ( ألم نجعل الأرض مهادا ) [ ص: 235 ] [ النبأ : 6 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثتها : كونه كفاتا ، قال تعالى : ( كفاتا أحياء ‎وأمواتا ) [ المرسلات : 25 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعتها : الذلول ، قال تعالى : ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ) [ الملك : 15 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والخامسة : كونه بساطا ، قال تعالى : ( والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا ) [ نوح : 20 ] ، والكلام فيه طويل .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : البحر ، قال تعالى : ( وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا ) [ النحل : 14 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : الهواء والرياح ، قال تعالى : ( وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ) [ الأعراف : 57 ] ، وقال تعالى : ( وأرسلنا الرياح لواقح ) [ الحجر : 22 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : الآثار العلوية كالرعد والبرق ، قال تعالى : ( ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ) [ الرعد : 13 ] ، وقال تعالى : ( فترى الودق يخرج من خلاله ) [ الرعد : 43 ] ، ومن هذا الباب ذكر الصواعق والأمطار وتراكم السحاب .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أحوال الأشجار والثمار وأنواعها وأصنافها .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : أحوال الحيوانات ، قال تعالى : ( وبث فيها من كل دابة ) [ البقرة : 164 ] ، وقال : ( والأنعام خلقها لكم ) [ النحل : 5 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : عجائب تكوين الإنسان في أول الخلقة ، قال : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) [ المؤمنون : 12 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وثامنها : العجائب في سمعه وبصره ولسانه وعقله وفهمه .

                                                                                                                                                                                                                                            وتاسعها : تواريخ الأنبياء والملوك وأحوال الناس من أول خلق العالم إلى آخر قيام القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                            وعاشرها : ذكر أحوال الناس عند الموت وبعد الموت ، وكيفية البعث والقيامة ، وشرح أحوال السعداء والأشقياء ، فقد أشرنا إلى عشرة أنواع من العلوم في عالم السماوات ، وإلى عشرة أخرى في عالم العناصر ، والقرآن مشتمل على شرح هذه الأنواع من العلوم العالية الرفيعة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الرابع : وهو شرح أحكام الله تعالى وتكاليفه ، فنقول : هذه التكاليف إما أن تحصل في أعمال القلوب أو في أعمال الجوارح .

                                                                                                                                                                                                                                            أما القسم الأول : فهو المسمى بعلم الأخلاق ، وبيان تمييز الأخلاق الفاضلة والأخلاق الفاسدة ، والقرآن يشتمل على كل ما لا بد منه في هذا الباب ، قال الله تعالى : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ) [ النحل : 90 ] ، وقال : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) [ الأعراف : 199 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الثاني : فهو التكاليف الحاصلة في أعمال الجوارح ، وهو المسمى بعلم الفقه ، والقرآن مشتمل على جملة أصول هذا العلم على أكمل الوجوه .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الخامس : وهو معرفة أسماء الله تعالى فهو مذكور في قوله تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) [ الأعراف : 180 ] فهذا كله يتعلق بمعرفة الله .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : من الأصول المعتبرة في الإيمان : الإقرار بالملائكة كما قال تعالى : ( والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته ) [ البقرة : 285 ] ، والقرآن يشتمل على شرح صفاتهم ؛ تارة على سبيل الإجمال ، وأخرى على طريق التفصيل ، أما بالإجمال فقوله : ( وملائكته ) وأما بالتفصيل فمنها ما يدل على كونهم رسل الله ، قال تعالى : ( جاعل الملائكة رسلا ) [ فاطر : 1 ] ، ومنها أنها مدبرات لهذا العالم ، قال تعالى : ( فالمقسمات أمرا ) ، ( فالمدبرات أمرا ) [ النازعات : 5 ] ، وقال تعالى : ( والصافات صفا ) [ الصافات : 1 ] ومنها حملة العرش ، قال : ( ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) [ الحاقة : 17 ] ، ومنها الحافون حول العرش قال : ( وترى الملائكة حافين من حول العرش ) [ ص: 236 ] [ الزمر : 75 ] ، ومنها خزنة النار ، قال تعالى : ( عليها ملائكة غلاظ شداد ) [ التحريم : 6 ] ، ومنها الكرام الكاتبون قال : ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين ) [ الانفطار : 10 ] ومنها المعقبات ، قال تعالى : ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه ) [ الرعد : 11 ] وقد يتصل بأحوال الملائكة أحوال الجن والشياطين .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : من الأصول المعتبرة في الإيمان معرفة الكتب ، والقرآن يشتمل على شرح أحوال كتاب آدم عليه السلام ، قال تعالى : ( فتلقى آدم من ربه كلمات ) [ البقرة : 37 ] ومنها أحوال صحف إبراهيم عليه السلام ، قال تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) [ البقرة : 124 ] ، ومنها أحوال التوراة والإنجيل والزبور .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الرابع : من الأصول المعتبرة في الإيمان معرفة الرسل ، والله تعالى قد شرح أحوال البعض ، وأبهم أحوال الباقين ، قال : ( منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ) [ غافر : 78 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            القسم الخامس : ما يتعلق بأحوال المكلفين ، وهي على نوعين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن يقروا بوجوب هذه التكاليف عليهم ، وهو المراد من قوله : ( وقالوا سمعنا وأطعنا ) [ البقرة : 285 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن يعترفوا بصدور التقصير عنهم في تلك الأعمال ، ثم طلبوا المغفرة ، وهو المراد من قوله : ( غفرانك ربنا ) [ البقرة : 285 ] ، ثم لما كانت مقادير رؤية التقصير في مواقف العبودية بحسب المكاشفات في مطالعة عزة الربوبية أكثر ، كانت المكاشفات في تقصير العبودية أكثر ، وكان قوله : ( غفرانك ربنا ) أكثر .

                                                                                                                                                                                                                                            القسم السادس : معرفة المعاد والبعث والقيامة ، وهو المراد من قوله : ( وإليك المصير ) [ البقرة : 285 ] ، وهذا هو الإشارة إلى معرفة المطالب المهمة في طلب الدين ، والقرآن بحر لا نهاية له في تقرير هذه المطالب ، وتعريفها وشرحها ، ولا ترى في مشارق الأرض ومغاربها كتابا يشتمل على جملة هذه العلوم كما يشتمل القرآن عليها ، ومن تأمل في هذا التفسير علم أنا لم نذكر من بحار فضائل القرآن إلا قطرة ، ولما كان الأمر على هذه الجملة ، لا جرم مدح الله عز وجل القرآن ، فقال تعالى : ( الله نزل أحسن الحديث ) ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الثانية من صفات القرآن قوله تعالى : ( كتابا متشابها ) ، أما الكتاب فقد فسرناه في قوله تعالى : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه ) [ البقرة : 2 ] ، وأما كونه متشابها فاعلم أن هذه الآية تدل على أن القرآن كله متشابه ، وقوله : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) [ آل عمران : 7 ] يدل على كون البعض متشابها دون البعض .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما كونه كله متشابها كما في هذه الآية ، فقال ابن عباس : معناه أنه يشبه بعضه بعضا ، وأقول : هذا التشابه يحصل في أمور :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن الكاتب البليغ إذا كتب كتابا طويلا ، فإنه يكون بعض كلماته فصيحا ، ويكون البعض غير فصيح ، والقرآن يخالف ذلك ، فإنه فصيح كامل الفصاحة بجميع أجزائه .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الفصيح إذا كتب كتابا في واقعة بألفاظ فصيحة ، فلو كتب كتابا آخر في غير تلك الواقعة كان الغالب أن كلامه في الكتاب الثاني غير كلامه في الكتاب الأول ، والله تعالى حكى قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن ، وكلها متساوية متشابهة في الفصاحة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن كل ما فيه من الآيات والبيانات فإنه يقوي بعضها بعضا ، ويؤكد بعضها بعضا .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أن هذه الأنواع الكثيرة من العلوم التي عددناها متشابهة متشاركة في أن المقصود منها بأسرها الدعوة إلى الدين وتقرير عظمة الله ، ولذلك فإنك لا ترى قصة من القصص إلا ويكون محصلها المقصود الذي ذكرناه ، فهذا هو المراد من كونه متشابها ، والله الهادي .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 237 ] الصفة الثالثة : من صفات القرآن كونه " مثاني " ، وقد بالغنا في تفسير هذه اللفظة عند قوله تعالى : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني ) [ الحجر : 87 ] ، وبالجملة فأكثر الأشياء المذكورة وقعت زوجين زوجين ، مثل : الأمر والنهي ، والعام والخاص ، والمجمل والمفصل ، وأحوال السماوات والأرض ، والجنة والنار ، والظلمة والضوء ، واللوح والقلم ، والملائكة والشياطين ، والعرش والكرسي ، والوعد والوعيد ، والرجاء والخوف ، والمقصود منه بيان أن كل ما سوى الحق زوج ، ويدل على أن كل شيء مبتلى بضده ونقيضه ، وأن الفرد الأحد الحق هو الله سبحانه .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الرابعة : من صفات القرآن قوله : ( تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ) [ الزمر : 23 ] ، وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية