الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثامنة : قال : ( أعطيناك ) ولم يقل أعطينا الرسول أو النبي أو العالم أو المطيع ؛ لأنه لو قال ذلك لأشعر أن تلك العطية وقعت معللة بذلك الوصف ، فلما قال : ( أعطيناك ) علم أن تلك العطية غير معللة بعلة أصلا بل هي محض الاختيار والمشيئة ، كما قال : ( نحن قسمنا ) [ الزخرف : 32 ] ، ( الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ) [ الحج : 75 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة التاسعة : قال أولا : ( إنا أعطيناك ) ثم قال ثانيا : ( فصل لربك وانحر ) وهذا يدل على أن إعطاءه للتوفيق والإرشاد سابق على طاعاتنا ، وكيف لا يكون كذلك وإعطاؤه إيانا صفته ، وطاعتنا له صفتنا ، وصفة الخلق لا تكون مؤثرة في صفة الخالق إنما المؤثر هو صفة الخالق في صفة الخلق ، ولهذا نقل عن الواسطي أنه قال : لا أعبد ربا يرضيه طاعتي ويسخطه معصيتي ، ومعناه أن رضاه وسخطه قديمان وطاعتي ومعصيتي محدثتان والمحدث لا أثر له في قديم ، بل رضاه عن العبد هو الذي حمله على طاعته فيما لا يزال ، وكذا القول في السخط والمعصية .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة العاشرة : قال : ( أعطيناك الكوثر ) ولم يقل : آتيناك الكوثر ، والسبب فيه أمران :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الإيتاء يحتمل أن يكون واجبا وأن يكون تفضلا ، وأما الإعطاء فإنه بالتفضل أشبه فقوله : ( إنا أعطيناك الكوثر ) يعني : هذه الخيرات الكثيرة وهي الإسلام والقرآن والنبوة والذكر الجميل في الدنيا والآخرة ، محض التفضل منا إليك وليس منه شيء على سبيل الاستحقاق والوجوب ، وفيه بشارة من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن الكريم إذا شرع في التربية على سبيل التفضل ، فالظاهر أنه لا يبطلها ، بل كان كل يوم يزيد فيها الثاني : أن ما يكون سبب الاستحقاق ، فإنه يتقدر بقدر الاستحقاق ، وفعل العبد متناه ، فيكون الاستحقاق الحاصل بسببه متناهيا ، أما التفضل فإنه نتيجة كرم الله غير متناه ، فيكون تفضله أيضا غير متناه ، فلما دل قوله : ( أعطيناك ) على أنه تفضل لا استحقاق أشعر ذلك بالدوام والتزايد أبدا . فإن قيل : أليس قال : ( سبعا من المثاني والقرآن ) [ الحجر : 87 ] ؟ قلنا : الجواب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الإعطاء يوجب التمليك ، [ ص: 116 ] والملك سبب الاختصاص ، والدليل عليه أنه لما قال سليمان : ( هب لي ملكا ) [ ص : 35 ] فقال : ( هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك ) [ ص : 39 ] ولهذا السبب من حمل الكوثر على الحوض قال : الأمة تكون أضيافا له ، أما الإيتاء فإنه لا يفيد الملك ، فلهذا قال في القرآن : ( آتيناك ) [ الحجر : 87 ] فإنه لا يجوز للنبي أن يكتم شيئا منه .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الشركة في القرآن شركة في العلوم ولا عيب فيها ، أما الشركة في النهر ، فهي شركة في الأعيان وهي عيب .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : في بيان أن الإعطاء أليق بهذا المقام من الإيتاء ، هو أن الإعطاء يستعمل في القليل والكثير ، قال الله تعالى : ( وأعطى قليلا وأكدى ) [ النجم : 34 ] أما الإيتاء ، فلا يستعمل إلا في الشيء العظيم ، قال الله تعالى : ( وآتاه الله الملك ) [ البقرة : 252 ] ( ولقد آتينا داود منا فضلا ) [ سبأ : 10 ] والأتي السيل المنصب ، إذا ثبت هذا فقوله : ( إنا أعطيناك الكوثر ) يفيد تعظيم حال محمد صلى الله عليه وسلم من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : يعني : هذا الحوض كالشيء القليل الحقير بالنسبة إلى ما هو مدخر لك من الدرجات العالية والمراتب الشريفة ، فهو يتضمن البشارة بأشياء هي أعظم من هذا المذكور .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن الكوثر إشارة إلى الماء ، كأنه تعالى يقول : الماء في الدنيا دون الطعام ، فإذا كان نعيم الماء كوثرا ، فكيف سائر النعيم ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن نعيم الماء إعطاء ونعيم الجنة إيتاء .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : كأنه تعالى يقول : هذا الذي أعطيتك ، وإن كان كوثرا لكنه في حقك إعطاء لا إيتاء ؛ لأنه دون حقك ، وفي العادة أن المهدي إذا كان عظيما فالهدية وإن كانت عظيمة ، إلا أنه يقال : إنها حقيرة أي هي حقيرة بالنسبة إلى عظمة المهدى له فكذا ههنا .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أن نقول : إنما قال فيما أعطاه من الكوثر أعطيناك ؛ لأنه دنيا ، والقرآن إيتاء لأنه دين .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : كأنه يقول : جميع ما نلت مني عطية وإن كانت كوثرا إلا أن الأعظم من ذلك الكوثر أن تبقى مظفرا وخصمك أبتر ، فإنا أعطيناك بالتقدمة هذا الكوثر ، أما الذكر الباقي والظفر على العدو فلا يحسن إعطاؤه إلا بعد التقدمة بطاعة تحصل منك : ( فصل لربك وانحر ) أي فاعبد لي وسل الظفر بعد العبادة فإني أوجبت على كرمي أن بعد كل فريضة دعوة مستجابة ، كذا روي في الحديث المسند ، فحينئذ أستجيب فيصير خصمك أبتر وهو الإيتاء ، فهذا ما يخطر بالبال في تفسير قوله تعالى : ( إنا أعطيناك ) أما الكوثر فهو في اللغة فوعل من الكثرة وهو المفرط في الكثرة ، قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر ، بم آب ابنكم ؟ قالت : آب بكوثر ، أي بالعدد الكثير ، ويقال للرجل الكثير العطاء : كوثر ، قال الكميت :


                                                                                                                                                                                                                                            وأنت كثير يا ابن مروان طيب وكان أبوك ابن الفضائل كوثرا



                                                                                                                                                                                                                                            ويقال للغبار إذا سطع وكثر كوثر هذا معنى الكوثر في اللغة ، واختلف المفسرون فيه على وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو المشهور والمستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة ، روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رأيت نهرا في الجنة حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا أنا بمسك أذفر ، فقلت : ما هذا ؟ قيل : الكوثر الذي أعطاك الله ) وفي رواية أنس : أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل ، فيه طيور خضر لها أعناق كأعناق البخت من أكل من ذلك الطير وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان ، ولعله إنما سمي ذلك النهر كوثرا إما لأنه أكثر أنهار الجنة ماء وخيرا ، أو لأنه انفجر منه أنهار الجنة ، كما روي أنه ما في الجنة بستان إلا وفيه من الكوثر نهر جار ، أو لكثرة الذين يشربون منها ، أو لكثرة ما فيها من المنافع على ما قال عليه السلام : إنه نهر وعدنيه ربي فيه خير كثير

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أنه حوض والأخبار فيه مشهورة ووجه التوفيق بين هذا القول ، والقول الأول أن يقال : لعل النهر ينصب في الحوض أو لعل الأنهار إنما تسيل من ذلك [ ص: 117 ] الحوض فيكون ذلك الحوض كالمنبع

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : الكوثر أولاده قالوا : لأن هذه السورة إنما نزلت ردا على من عابه عليه السلام بعدم الأولاد ، فالمعنى أنه يعطيه نسلا يبقون على مر الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت ، ثم العالم ممتلئ منهم ، ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به ، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الرابع : الكوثر علماء أمته وهو لعمري الخير الكثير ؛ لأنهم كأنبياء بني إسرائيل ، وهم يحبون ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشرون آثار دينه وأعلام شرعه ، ووجه التشبيه أن الأنبياء كانوا متفقين على أصول معرفة الله مختلفين في الشريعة رحمة على الخلق ليصل كل أحد إلى ما هو صلاحه ، كذا علماء أمته متفقون بأسرهم على أصول شرعه ، لكنهم مختلفون في فروع الشريعة رحمة على الخلق ، ثم الفضيلة من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أنه يروى أنه يجاء يوم القيامة بكل نبي ويتبعه أمته فربما يجيء الرسول ومعه الرجل والرجلان ، ويجاء بكل عالم من علماء أمته ومعه الألوف الكثيرة فيجتمعون عند الرسول فربما يزيد عدد متبعي بعض العلماء على عدد متبعي ألف من الأنبياء .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : أنهم كانوا مصيبين لاتباعهم النصوص المأخوذة من الوحي ، وعلماء هذه الأمة يكونون مصيبين مع كد الاستنباط والاجتهاد ، أو على قول البعض : إن كان بعضهم مخطئا لكن المخطئ يكون أيضا مأجورا

                                                                                                                                                                                                                                            القول الخامس : الكوثر هي النبوة ، ولا شك أنها الخير الكثير ؛ لأنها المنزلة التي هي ثانية الربوبية ؛ ولهذا قال : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) [ النساء : 80 ] وهو شطر الإيمان بل هي كالغصن في معرفة الله تعالى ؛ لأن معرفة النبوة لا بد وأن يتقدمها معرفة ذات الله وعلمه وقدرته وحكمته ، ثم إذا حصلت معرفة النبوة فحينئذ يستفاد منها معرفة بقية الصفات كالسمع والبصر والصفات الخيرية ، والوجدانية على قول بعضهم ، تم لرسولنا الحظ الأوفر من هذه المنقبة ؛ لأنه المذكور قبل سائر الأنبياء والمبعوث بعدهم ، ثم هو مبعوث إلى الثقلين ، وهو الذي يحشر قبل كل الأنبياء ، ولا يجوز ورود الشرع على نسخه ، وفضائله أكثر من أن تعد وتحصى ، ولنذكر ههنا قليلا منها ، فنقول :

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية