الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال صاحب التهذيب : الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام يستحب أن يقف الإمام خلف المقام ، والقوم يقفون مستديرين بالبيت ، فإن كان بعضهم أقرب إلى البيت من الإمام جاز ، فلو امتد الصف في المسجد فإنه لا تصح صلاة من خرج عن محاذاة الكعبة ، وعند أبي حنيفة تصح ؛ لأن عنده الجهة كافية ، وهذا اختيار الشيخ الغزالي - رحمه الله - في كتاب الإحياء ، حجة الشافعي - رضي الله عنه -: القرآن ، والخبر ، والقياس ، أما القرآن فهو ظاهر هذه الآية وذلك لأنا دللنا على أن المراد من شطر المسجد الحرام جانبه ، وجانب الشيء هو الذي يكون محاذيا له وواقعا في سمته ، والدليل عليه أنه إنما يقال : إن زيدا ولى وجهه إلى جانب عمرو ، ولو قابل بوجهه وجهه ، وجعله محاذيا له ، حتى أنه لو كان وجه كل واحد منهما إلى جانب المشرق ، إلا أنه لا يكون وجه أحدهما محاذيا لوجه الآخر ، لا يقال : إنه ولى وجهه إلى جانب عمرو ، فثبت دلالة الآية على أن استقبال عين الكعبة واجب .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الخبر فما روينا أنه - عليه الصلاة والسلام - لما خرج من الكعبة ركع ركعتين في قبلة الكعبة وقال : " هذه القبلة " ، وهذه الكلمة تفيد الحصر فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة ، وكذلك سائر الأخبار التي رويناها في أن القبلة هي الكعبة ، وأما القياس فهو أن مبالغة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تعظيم الكعبة أمر بلغ مبلغ التواتر، والصلاة من أعظم شعائر الدين ، وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة بما يوجب حصول مزيد شرف الكعبة ، فوجب أن يكون مشروعا ، ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم ، وكون غيرها قبلة أمر مشكوك ، والأولى رعاية الاحتياط في الصلاة ، فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال الكعبة ، واحتج أبو حنيفة بأمور .

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : ظاهر هذه الآية وذلك لأنه تعالى أوجب على المكلف أن يولي وجهه إلى جانبه ، فمن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيه فقد أتى بما أمر به سواء كان مستقبلا للكعبة أم لا ، فوجب أن يخرج عن العهدة ، وأما الخبر فما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنه عليه الصلاة والسلام قال : " ما بين المشرق والمغرب قبلة " ، قال أصحاب الشافعي - رحمه الله تعالى - : ليس المراد من هذا الحديث أن كل ما يصدق عليه أنه بين مشرق ومغرب فهو قبلة ؛ لأن جانب القطب الشمالي يصدق عليه ذلك ، وهو بالاتفاق ليس بقبلة ، بل المراد أن الشيء الذي هو بين مشرق معين ومغرب معين قبلة ، ونحن نحمل ذلك على الذي يكون بين المشرق الشتوي وبين المغرب الصيفي فإن ذلك قبلة وذلك لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل ، والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل ، والذي بينهما هو سمت مكة ، قالوا : فهذا الحديث بأن يدل على مذهبنا أولى منه بالدلالة على مذهبكم ، أما فعل الصحابة فمن وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن أهل مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح بالمدينة مستقبلين لبيت المقدس ، مستدبرين للكعبة ؛ لأن المدينة بينهما ، فقيل لهم : ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة ، فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة ، ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم ، وسمي مسجدهم بذي القبلتين ، ومقابلة العين من المدينة إلى مكة لا تعرف إلا بأدلة هندسية يطول النظر فيها ، فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الناس من عهد [ ص: 105 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام ، ولم يحضروا قط مهندسا عند تسوية المحراب ، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القياس فمن وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : لو كان استقبال عين الكعبة واجبا إما علما أو ظنا ، وجب أن لا تصح صلاة أحد قط ؛ لأنه إذا كان محاذاة الكعبة مقدار نيف وعشرين ذراعا فمن المعلوم أن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في محاذاة هذا المقدار ، بل المعلوم أن الذي يقع منهم في محاذاة هذا القدر القليل قليل بالنسبة إلى كثير ، ومعلوم أن العبرة في أحكام الشرع بالغالب ، والنادر ملحق به ، فوجب أن لا تصح صلاة أحد منهم لا سيما وذلك الذي وقع في محاذاة الكعبة لا يمكنه أن يعرف أنه وقع في محاذاتها ، وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أن المحاذاة غير معتبرة ، فإن قيل : الدائرة وإن كانت عظيمة إلا أن جميع النقط المفروضة عليها تكون محاذية لمركز الدائرة ، فالصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة بالكعبة ، والكعبة كأنها نقطة لتلك الدائرة إلا أن الدائرة إذا صغرت صغر التقوس والانحناء في جميعها ، وإن اتسعت وعظمت لم يظهر التقوس والانحناء في كل واحد من قسميها ، بل نرى كل قطعة منها شبيها بالخط المستقيم ، فلا جرم صحت الجماعة بصف طويل في المشرق والمغرب يزيد طولها على أضعاف البيت ، والكل يسمون متوجهين إلى عين الكعبة ، قلنا : هب أن الأمر على ما ذكرتموه ولكن القطعة من الدائرة العظيمة وإن كانت شبيهة بالخط المستقيم في الحس ، إلا أنها لا بد وأن تكون منحنية في نفسها ؛ لأنها لو كانت في نفسها مستقيمة ، وكذا القول في جميع قطع تلك الدائرة ، فحينئذ تكون الدائرة مركبة من خطوط مستقيمة يتصل بعضها ببعض ، فيلزم أن تكون الدائرة إما مضلعة أو خطا مستقيما وكل ذلك محال ، فعلمنا أن كل قطعة من الدائرة الكبيرة فهي في نفسها منحنية ، فالصفوف المتصلة في أطراف العالم إنما يكون كل واحد منهم مستقبلا لعين الكعبة لو لم تكن تلك الصفوف واقعة على الخط المستقيم ، بل إذا حصل فيها ذلك الانحناء القليل ، إلا أن ذلك الانحناء القليل الذي لا يفي بإدراكه الحس البتة ، لا يمكن أن يكون في محل التكليف ، وإذا كان كذلك كان كل واحد من هؤلاء الصفوف جاهلا بأنه هل هو مستقبل لعين الكعبة أم لا ، فلو كان استقبال عين الكعبة شرطا لكان حصول هذا الشرط مجهولا لك ، والشك في حصول الشرط يقتضي الشك في حصول المشروط ، فوجب أن يبقى كل واحد من أهل هذه الصفوف شاكا في صحة صلاته ، وذلك يقتضي أن لا يخرج عن العهدة البتة ، وحيث اجتمعت الأمة على أنه ليس كذلك علمنا أن استقبال العين ليس بشرط لا علما ولا ظنا ، وهذا كلام بين .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه لو كان استقبال عين الكعبة واجبا ولا سبيل إليه إلا بالدلالة الهندسية ، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب ، فكان يلزم أن يكون تعلم الدلالة الهندسية واجبا على كل أحد ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب ، فإن قيل : عندنا استقبال عين الجهة واجب ظنا لا يقينا ، والمفتقر إلى الدلائل الهندسية هو الاستقبال يقينا لا ظنا ، قلنا : لو كان استقبال عين الكعبة واجبا لكان القادر على تحصيل اليقين لا يجوز له الاكتفاء بالظن ، والرجل قادر على تحصيل ذلك بواسطة تعلم الدلائل الهندسية فكان يجب عليه تعلم تلك الدلائل ، ولما لم يجب ذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة واجب . [ ص: 106 ] الثالث : لو كان استقبال العين واجبا إما علما أو ظنا ، ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك الظن إلا بنوع من أنواع الأمارات ، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب ، فكان يلزم أن يكون تعلم تلك الأمارات فرض عين على كل واحد من المكلفين ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال العين غير واجب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية