الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 121 ] المسألة الثالثة : اعلم أن الحج على ثلاثة أقسام : الإفراد ، والقران ، والتمتع ، فالإفراد أن يحج ثم بعد الفراغ منه يعتمر من أدنى الحل ، أو يعتمر قبل أشهر ، ثم يحج في تلك السنة ، والقران أن يحرم بالحج والعمرة معا في أشهر الحج بأن ينويهما بقلبه ، وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ، ثم قبل الطواف أدخل عليها الحج يصير قرانا ، والتمتع هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بأعمالها ثم يحج في هذه السنة ، وإنما سمي تمتعا لأنه يستمتع بمحظورات الإحرام بعد التحلل عن العمرة قبل أن يحرم بالحج .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : اختلف الناس في الأفضل من هذه الثلاثة فقال الشافعي - رضي الله عنه - أفضلها الإفراد ثم التمتع ثم القران ، وقال في اختلاف الحديث : التمتع أفضل من الإفراد ، وبه قال مالك رضي الله عنه ، وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه : القران أفضل ، ثم الإفراد ، ثم التمتع ، وهو قول المزني وأبي إسحاق والمروزي من أصحابنا ، وقال أبو يوسف ومحمد : القران أفضل ، ثم التمتع ، ثم الإفراد ، حجة الشافعي - رضي الله عنه - في أن الإفراد أفضل من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : التمسك بقوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) والاستدلال به من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الآية اقتضت عطف العمرة على الحج ، والعطف يستدعي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ، والمغايرة لا تحصل إلا عند الإفراد ، فأما عند القران فالموجود شيء واحد ، وهو حج وعمرة ، وذلك مانع من صحة العطف .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قوله : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) يقتضي الإفراد ، بدليل أنه تعالى قال : ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) والقارن يلزمه هديان عند الحصر ، وأيضا أنه تعالى أوجب على الخلق عند الأداء فدية واحدة ، والقارن يلزمه فديتان عند الحصر .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : هذه الآية تدل على وجوب الإتمام ، والإتمام لا يحصل إلا عند الإفراد ويدل عليه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن السفر مقصود في الحج ، بدليل أن من أوصى بأن يحج عنه فإنه يحج من وطنه ، ولولا أن السفر مقصود في الحج لكان يحج عنه من أدنى المواقيت ، ويدل عليه أيضا أنهم قالوا لو نذر أن يحج ماشيا وحج راكبا يلزمه دم ، فثبت أن السفر مقصود والقران يقتضي تقليل السفر ، لأن بسببه يصير السفران سفرا واحدا ، فثبت أن الإتمام لا يحصل إلا بالإفراد .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن الحج لا معنى له إلا زيارة بقاع مكرمة ، ومشاهد مشرفة ، والحاج زائر الله ، والله تعالى مزوره ، ولا شك أنه كلما كانت الزيارة والخدمة أكثر كان موقعها عند المخدوم أعظم ، وعند القران تنقلب الزيارتان زيارة واحدة ، بل الحق أن جملة أنواع الطاعات في الحج وفي العمرة تكرر عند الإفراد ، وتصير واحدة عند القران ، فثبت أن الإفراد أقرب إلى التمام ، فكان الإفراد إن لم يكن واجبا عليكم بحكم هذه الآية فلا أقل من كونه أفضل .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية : في بيان أن الإفراد أفضل : أن الإفراد يقتضي كونه آتيا بالحج مرة ، ثم بالعمرة بعد ذلك ، فتكون الأعمال الشاقة في الإفراد أكثر فوجب أن يكون أفضل لقوله عليه السلام : " أفضل الأعمال أحمزها " أي أشقها .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : أنه - عليه السلام - كان مفردا فوجب أن يكون الإفراد أفضل ، أما قولنا : إنه كان مفردا فاعلم أن الصحابة اختلفت رواياتهم في هذا المعنى ، فروى مسلم في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفرد بالحج ، وروى جابر وابن عمر أنه أفرد ، وأما أنس فقد روي عنه أنه قال : كنت واقفا عند [ ص: 122 ] جران ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، فكان لعابها يسيل على كتفي ، فسمعته يقول " لبيك بحج وعمرة معا " ، ثم الشافعي - رضي الله عنه - رجح رواية عائشة - رضي الله عنها - وجابر وابن عمر على رواية أنس من وجوه .

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : بحال الرواة ، أما عائشة فلأنها كانت عالمة ، ومع علمها كانت أشد الناس التصاقا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأشد الناس وقوفا على أحواله ، وأما جابر فإنه كان أقدم صحبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - من أنس ، وإن أنسا كان صغيرا في ذلك الوقت قبل العلم ، وأما ابن عمر فإنه كان مع فقهه أقرب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غيره ، لأن أخته حفصة كانت زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن عدم القران متأكد بالاستصحاب .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن الإفراد يقتضي تكثير العبادة ، والقران يقتضي تقليلها ، فكان إلحاق الإفراد بالنبي - عليه الصلاة والسلام - أولى ، وإذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مفردا وجب أن يكون الإفراد أفضل ؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان يختار الأفضل لنفسه ، ولأنه قال : " خذوا عني مناسككم " أي تعلموا مني .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الرابعة : أن الإفراد يقتضي تكثير العبادة ، والقران يقتضي تقليلها ، فكان الأول أولى ، لأن المقصود من خلق الجن والإنس هو العبادة ، وكل ما كان أفضى إلى تكثير العبادة كان أفضل .

                                                                                                                                                                                                                                            حجة أبي حنيفة - رضي الله عنه - من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الأولى : التمسك بقوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) ، وهذا اللفظ يحتمل أن يكون المراد إيجاب كل واحد منهما ، أو يكون المراد منه إيجاب الجمع بينهما على سبيل التمام ، فلو حملناه على الأول لا يفيد الثاني ، ولو حملناه على الثاني أفاد الأول ، فكان الثاني أكثر فائدة ، فوجب حمل اللفظ عليه ، لأن الأولى حمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية : أن القران جمع بين النسكين فوجب أن يكون أفضل من الإتيان بنسك واحد .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : أن في القران مسارعة إلى النسكين ، وفي الإفراد ترك مسارعة إلى أحد النسكين فوجب أن يكون القران أفضل لقوله : ( وسارعوا ) [ آل عمران : 133 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الأول : أنا بينا أن هذه الآية تدل من ثلاثة أوجه دلالة ما هو أكثر فائدة على الإفراد ، وأما ما ذكرتموه فمجرد حسن ظن ؛ حيث قلتم : حمل اللفظ على ما هو أكثر فائدة أولى وإذا كان كذلك كان الترجيح لقولنا .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الثاني والثالث : أن كل ما يفعله القارن يفعله المفرد أيضا ، إلا أن القران كان حيلة في إسقاط الطاعة فينتهي الأمر فيه أن يكون مرخصا فيه ، فأما أن يكون أفضل فلا ، وبالجملة فالشافعي - رضي الله عنه - لا يقول إن الحجة المفردة بلا عمرة أفضل من الحجة المقرونة ، لكنه يقول : من أتى بالحج في وقته ثم بالعمرة في وقتها فمجموع هذين الأمرين أفضل من الإتيان بالحجة المقرونة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية