الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وأما الوتر فهو سنة لما روى أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الوتر حق ، وليس بواجب ، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل } وأكثره إحدى عشرة ركعة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر فيها بواحدة } وأقله ركعة لما ذكرناه من حديث أبي أيوب ، وأدنى الكمال ثلاث ركعات يقرأ في الأولى بعد الفاتحة { سبح اسم ربك الأعلى } وفي الثانية { قل يا أيها الكافرون } وفي الثالثة { قل هو الله أحد } والمعوذتين لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ذلك . والسنة لمن أوتر بما زاد على ركعة أن يسلم من كل ركعتين ، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفصل بين الشفع والوتر } ، ولأنه يجهر في الثالثة ، ولو كانت موصولة بالركعتين لما جهر فيها كالثالثة من المغرب . ويجوز أن يجمعها بتسليمة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يسلم في ركعتي الوتر ، والسنة أن يقنت في الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : " السنة إذا انتصف الشهر من رمضان أن تلعن الكفرة في الوتر بعدما يقول سمع الله لمن حمده ، ثم يقول : اللهم قاتل الكفرة . قال أبو عبد الله الزبيري يقنت في جميع السنة لما روى أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يوتر [ ص: 506 ] بثلاث ركعات ويقنت قبل الركوع } والمذهب الأول ، وحديث أبي بن كعب غير ثابت عند أهل النقل .

                                      ومحل القنوت في الوتر بعد الرفع من الركوع ، ومن أصحابنا من قال : محله في الوتر قبل الركوع لحديث أبي بن كعب ، والصحيح هو الأول لما ذكرت من حديث عمر رضي الله عنه ولأنه في الصبح يقنت بعد الركوع فكذلك الوتر ، ووقت الوتر ما بين أن يصلي العشاء إلى طلوع الفجر الثاني ، لقوله عليه الصلاة والسلام { إن الله تعالى زادكم صلاة وهي الوتر فصلوها من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر } فإن كان ممن له تهجد فالأولى أن يؤخره حتى يصليه بعد التهجد ، وإن لم يكن له تهجد فالأولى أن يصليه بعد سنة العشاء لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من خاف منكم أن لا يستيقظ من آخر الليل فليوتر من أول الليل ثم ليرقد ، ومن طمع منكم أن يقوم من آخر الليل فليوتر آخر الليل } )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الوتر سنة عندنا بلا خلاف ، وأقله ركعة بلا خلاف ، وأدنى كماله ثلاث ركعات ، وأكمل منه خمس ثم سبع ثم تسع ثم إحدى عشرة وهي أكثره على المشهور في المذهب ، وبه قطع المصنف والأكثرون ، وفيه وجه أن أكثره ثلاث عشرة حكاه جماعة من الخراسانيين ، وجاءت فيه أحاديث صحيحة ومن قال بإحدى عشرة يتأولها على أن الراوي حسب معها سنة العشاء ، ولو زاد على ثلاث عشرة لم يجز ، ولم يصح وتره عند الجمهور ، وفيه وجه - حكاه إمام الحرمين وغيره - أنه يجوز ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله على أوجه من أعداد من الركعات ، فدل على عدم انحصاره .

                                      وأجاب الجمهور عن هذا بأن اختلاف الأعداد إنما هو فيما لم يجاوز ثلاث عشرة ، ولم ينقل مجاوزتها فدل على امتناعها ، والخلاف شبيه بالخلاف في جواز القصر فيما زاد على إقامة ثمانية عشر يوما ، وفي جواز الزيادة على انتظارين في صلاة الخوف ، وإذا أوتر بإحدى عشرة فما دونها فالأفضل أن يسلم من كل ركعتين للأحاديث الصحيحة التي سأذكرها إن شاء الله تعالى في فرع مذاهب العلماء ، فإن أراد جمعها بتشهد واحد في آخرها كلها جاز ، وإن أرادها بتشهدين وسلام واحد يجلس في الآخرة والتي قبلها جاز . وحكى الفوراني وإمام الحرمين وجها أنه لا يجوز بتشهدين ، بل يشترط الاقتصار على تشهد واحد ، وحمل هذا القائل الأحاديث الواردة بتشهدين على أنه كان يسلم في كل تشهد . قال الإمام : وهذا الوجه رديء لا تعويل عليه . وحكى الرافعي وجها عكسه أنه لا يجزئ الاقتصار على تشهد واحد ، [ ص: 507 ] وهذان الوجهان غلط ، والأحاديث الصحيحة مصرحة بإبطالهما ، والصواب جواز ذلك كما قدمناه . ولكن هل الأفضل تشهد أم تشهدان ؟ أم هما معا في الفضيلة ؟ فيه ثلاثة أوجه ، واختار الروياني تشهدا فقط ، أما إذا زاد على تشهدين وجلس في كل ركعتين واقتصر على السلام في الآخرة فوجهان حكاهما الرافعي وغيره .

                                      ( أحدهما ) يجوز ويصح وتره كما لو صلى نافلة مطلقة بتشهدات وسلام واحد فإنه يجوز على المذهب الصحيح ، كما سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى ( والثاني ) وهو الصحيح لا يجوز ذلك ; لأنه خلاف المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذا قطع إمام الحرمين وغيره .

                                      قال الإمام : والفرق بينه وبين النوافل المطلقة أن النوافل المطلقة لا حصر لركعاتها وتشهداتها بخلاف الوتر ، وإذا أراد الإتيان بثلاث ركعات ففي الأفضل أوجه ( الصحيح ) أن الأفضل أن يصليها مفصولة بسلامين لكثرة الأحاديث الصحيحة فيه ، ولكثرة العبادات فإنه تتجدد النية ودعاء التوجه والدعاء في آخر الصلاة والسلام وغير ذلك ( والثاني ) إن وصلها بتسليمة واحدة أفضل ، قاله الشيخ أبو زيد المروزي للخروج من الخلاف ، فإن أبا حنيفة رحمه الله لا يصحح المفصولة ( والثالث ) إن كان منفردا فالفصل أفضل ، وإن كان إماما فالوصل حتى تصح صلاته لكل المقتدين ( والرابع ) عكسه ، حكاه الرافعي وهل الثلاث الموصولة أفضل أم الركعة فردة ؟ فيه أوجه حكاها إمام الحرمين وغيره ( الصحيح ) أن الثلاث أفضل وبه قال القفال ( والثاني ) الفردة أفضل ، قال إمام الحرمين : وغلا هذا القائل فقال : الركعة الفردة أفضل من إحدى عشرة موصولة ( والثالث ) إن كان منفردا فالفردة أفضل ، وإن كان إماما فالثلاث الموصولة أفضل ، ثم إن الخلاف في التفضيل بين الفصل والوصل إنما هو في الوصل بثلاث أما الوصل بزيادة على ثلاث فالفصل أفضل منه بلا خلاف ، ذكره إمام الحرمين ، والله أعلم .

                                      ثم إن أوتر بركعة نوى بها الوتر ، وإن أوتر بأكثر واقتصر على تسليمة نوى الوتر أيضا ، وإذا فصل الركعتين بالسلام وسلم من كل ركعتين نوى بكل ركعتين من الوتر ، هذا هو المختار ، وله أن ينوي غير هذا مما سبق بيانه في أول صفة الصلاة .




                                      الخدمات العلمية