الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وآكد هذه السنن الراتبة مع الفرائض سنة الفجر والوتر ; لأنه ورد فيهما ما لم يرد في غيرهما ، وأيهما أفضل ؟ فيه قولان قال في الجديد . الوتر أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم { إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم ، وهي الوتر } وقال صلى الله عليه وسلم { من لم يوتر فليس منا } ولأنه مختلف في وجوبه ، وسنة الفجر مجمع على كونها سنة ، فكان الوتر آكد ، وقال في القديم : سنة الفجر آكد ، لقوله صلى الله عليه وسلم { صلوها ولو طردتكم الخيل } ولأنها محصورة لا تحتمل الزيادة والنقصان فهي بالفرائض أشبه من الوتر )

                                      [ ص: 522 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 522 ] الشرح ) الحديثان الأولان سبق بيانهما في مسائل الوتر ، وأما حديث سنة الفجر فرواه أبو داود في سننه من رواية أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تدعوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل } وفي إسناده من اختلف في توثيقه ، ولم يضعفه أبو داود وعن عائشة رضي الله عنها قالت { لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر } رواه البخاري ومسلم وعنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها } رواه مسلم ، وعنها { ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من النوافل أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر } رواه مسلم . ( أما حكم المسألة ) قال أصحابنا : أفضل النوافل التي لا تسن لها الجماعة السنن الراتبة مع الفرائض ، وأفضل الرواتب الوتر وسنة الفجر ، وأيهما أفضل ؟ فيه قولان ( الجديد ) الصحيح الوتر أفضل ( والقديم ) أن سنة الفجر أفضل ، وقد ذكر المصنف دليلهما ، وحكى صاحب البيان والرافعي وجها أنهما سواء في الفضيلة فإذا قلنا بالجديد ، فالذي قطع به المصنف والجمهور أن سنة الفجر تلي الوتر في الفضيلة للأحاديث التي ذكرتها ، وفيه وجه حكاه الرافعي عن أبي إسحاق المروزي أن صلاة الليل أفضل من سنة الفجر ، وهذا الوجه قوي ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل } وفي رواية لمسلم أيضا " الصلاة في جوف الليل " ثم أفضل الصلوات بعد الرواتب والتراويح : الضحى ، ثم ما يتعلق بفعل كركعتي الطواف إذا لم نوجبهما ، وركعتي الإحرام ، وتحية المسجد ، ثم سنة الوضوء . وأما قول المصنف : وسنة الفجر مجمع على كونها سنة فكذا يقوله أصحابنا ، وقد نقل القاضي عياض عن الحسن البصري أنه أوجبها للأحاديث ، وحكاه بعض أصحابنا عن بعض الحنفية والله أعلم .



                                      ( فرع ) في مسائل تتعلق بالسنن الراتبة .

                                      ( إحداها ) قد سبق أنه إذا صلى أربعا قبل الظهر أو بعدها أو قبل العصر يستحب أن يكون بتسليمتين وتجوز بتسليمة بتشهد وبتشهدين فإذا [ ص: 523 ] صلى أربعا بتسليمتين ينوي بكل ركعتين ، ركعتين من سنة الظهر ، وإذا صلاها بتسليمة وتشهدين فقد سبق في باب صفة الصلاة خلاف في أنه هل يسن قراءة السورة في الأخيرتين ؟ كالخلاف في الفريضة .



                                      ( الثانية ) يستحب تخفيف سنة الفجر ، وقد سبق في باب صفة الصلاة في فصل قراءة السورة أنه يسن أن يقرأ فيهما بعد الفاتحة : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا } الآية ، وفي الثانية : { قل يا أهل الكتاب تعالوا } الآية أو : { قل يا أيها الكافرون } ، { وقل هو الله أحد } وذكرنا هناك أحاديث صحيحة في هذا ومما يستدل به أنه يستحب تخفيفها حديث عائشة رضي الله عنها قالت { كان النبي صلى الله عليه وسلم يخفف الركعتين اللتين قبل صلاة الصبح حتى إني لأقول : هل قرأ بأم الكتاب ؟ } رواه البخاري ومسلم وعنها قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتي الفجر إذا سمع الأذان ويخففهما } رواه البخاري ومسلم .



                                      ( الثالثة ) السنة أن يضطجع على شقه الأيمن بعد صلاة سنة الفجر ويصليها في أول الوقت ، ولا يترك الاضطجاع ما أمكنه ، فإن تعذر عليه فصل بينهما وبين الفريضة بكلام ، ودليل تقديمها حديث عائشة السابق في المسألة قبلها ، ودليل الاضطجاع أحاديث صحيحة منها حديث عائشة رضي الله عنها قالت { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن } رواه البخاري وعنها قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فذكرت صلاة الليل ثم قالت : فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة } رواه مسلم .

                                      وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا صلى أحدكم الركعتين قبل الصبح فليضطجع على يمينه فقال له مروان بن الحكم : أما يجزي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع على يمينه ؟ قال : لا } حديث صحيح رواه أبو داود [ ص: 524 ] بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، ورواه الترمذي مختصرا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه } قال الترمذي : حديث حسن صحيح .

                                      وعن عائشة رضي الله عنها قالت { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع } رواه البخاري ومسلم ، وقولها : ( حدثني وإلا اضطجع ) يحتمل وجهين ( أحدهما ) أن يكون صلى الله عليه وسلم يضطجع يسيرا ويحدثها وإلا فيضطجع كثيرا ( والثاني ) أنه صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات القليلة كان يترك الاضطجاع ، بيانا لكونه ليس بواجب كما كان يترك كثيرا من المختارات في بعض الأوقات بيانا للجواز كالوضوء مرة مرة ونظائره ، ولا يلزم من هذا أن يكون الاضطجاع وتركه سواء ، ولا بد من أحد هذين التأويلين للجمع بين هذه الرواية وروايات عائشة السابقة ، وحديث أبي هريرة المصرح بالأمر بالاضطجاع ، والله أعلم .

                                      وقد نقل القاضي عياض في شرح مسلم استحباب الاضطجاع بعد سنة الفجر عن الشافعي وأصحابه ثم أنكره عليهم ، وقال : قال مالك وجمهور العلماء وجماعة من الصحابة : ليس هو سنة بل سموه بدعة ، واستدل بأن أحاديث عائشة في بعضها الاضطجاع قبل ركعتي الفجر بعد صلاة الليل ، وفي بعضها بعد ركعتي الفجر . وفي حديث ابن عباس قبل ركعتي الفجر فدل على أنه لم يكن مقصوده ، وهذا الذي قاله مردود بحديث أبي هريرة الصريح في الأمر بها ، وكونه صلى الله عليه وسلم اضطجع في بعض الأوقات أو أكثرها أو كلها بعد صلاة الليل لا يمنع أن يضطجع أيضا بعد ركعتي الفجر ، وقد صح اضطجاعه بعدهما وأمره به فتعين المصير إليه ويكون سنة وتركه يجوز جمعا بين الأدلة . وقال البيهقي في السنن الكبير : أشار الشافعي إلى أن المراد بهذا الاضطجاع الفصل بين النافلة والفريضة فيحصل بالاضطجاع والتحدث أو التحول من ذلك المكان أو نحو ذلك ولا يتعين الاضطجاع ، هذا ما نقله البيهقي والمختار الاضطجاع لظاهر حديث أبي هريرة وأما ما رواه البيهقي عن ابن [ ص: 525 ] عمر أنه قال : هي بدعة فإسناده ضعيف ; ولأنه نفي فوجب تقديم الإثبات عليه والله أعلم .



                                      ( الرابعة ) يستحب عندنا وعند أكثر العلماء فعل السنن الراتبة في السفر لكنها في الحضر آكد وسنوضح المسألة بفروعها ودليلها ومذاهب العلماء فيها في باب صلاة المسافرين إن شاء الله تعالى ، ومما تقدم الاستدلال به حديث أبي قتادة رضي الله عنه الطويل المشتمل على معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجمل من الفوائد والأحكام والآداب قال فيه { إنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فناموا عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس فساروا حتى ارتفعت الشمس ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم أذن بلال بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم } رواه مسلم ، وظاهره أن الركعتين هما سنة الصبح .



                                      ( الخامسة ) من واظب على ترك الراتبة أو تسبيحات الركوع والسجود ردت شهادته لتهاونه بالدين ، وقد ذكر أصحابنا المسألة في كتاب الشهادات ، وسنوضحها هناك إن شاء الله تعالى بدلائلها




                                      الخدمات العلمية