الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( إذا بلغ الصبي حدا يعقل وهو من أهل الصلاة صحت إمامته ; لما روي عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال : " { أممت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام ابن سبع سنين } وفي الجمعة قولان .

                                      قال في الأم : لا تجوز إمامته ; لأن صلاته نافلة ، وقال في الإملاء : تجوز ; لأنه يجوز أن يكون إماما في غير الجمعة ، فجاز أن يكون إماما في الجمعة كالبالغ ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذا الحديث رواه جابر ، ثم في رواية البخاري في صحيحه ، وعمرو هذا بفتح العين ، وأبو سلمة بكسر اللام ، وسلمة صحابي وأما عمرو فاختلف في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيته إياه ، والأشهر أنه لم يسمعه ولم يره ، لكن كانت الركبان تمر بهم فيحفظ عنهم ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم فكان أحفظ قومه لذلك ، فقدموه ليصلي بهم ، [ ص: 145 ] وكنيته أبو بريد بضم الباء الموحدة وبراء ، وقيل أبو يزيد بفتح المثناة وبالزاي ، وهو من بني جرم بفتح الجيم .

                                      وقول المصنف : إذا بلغ حدا يعقل أحسن من قول من يقول : إذا بلغ سبع سنين ; لأن المراد أنه إذا كان مميزا صحت صلاته وإمامته ، والتمييز يختلف وقته باختلاف الصبيان ، فمنهم من يحصل له من سبع سنين ، ومنهم من يحصل له قبلها ومنهم من لا يميز ، وإن بلغ سبعا وعشرا وأكثر ، وأما ضبط أكثر المحدثين وقت صحة سماع الصبي وتمييزه بخمس سنين فقد ذكره المحققون ، وقالوا : الصواب يعتبر كل صبي بنفسه فقد يميز لدون خمس ، وقد يتجاوز الخمس ولا يميز وقوله " وهو من أهل الصلاة " احتراز من الصبي الكافر ، والذي لا يحسن الصلاة .

                                      ( أما حكم المسألة ) فكل صبي صحت صلاته صحت إمامته في غير الجمعة بلا خلاف عندنا ، وفي الجمعة قولان ذكر المصنف دليلهما ( أصحهما ) الصحة ، وهكذا صححه المحققون ولا يغتر بتصحيح ابن أبي عصرون خلافه ، وصورة المسألة أن يتم العدد بغيره ، ويجري القولان في عبد ومسافر صليا الظهر ، ثم أما في الجمعة ; لأن صلاتهما الثانية نافلة كالصبي .

                                      ووجه البطلان فيهما ، وفي الصبي : أن الكمال مشروط في المأمومين في الجمعة ففي الإمام أولى ، والصحيح الصحة في الجميع ; لأن صلاته صحيحة ، ومذهبنا : أنه لا يشترط اتفاق نية الإمام والمأموم ، وقد ضبط أصحابنا الخراسانيون وبعض العراقيين الكلام في إمام الجمعة ضبطا حسنا ، ولخصه الرافعي فقال : لإمام الجمعة أحوال ( أحدها ) : أن يكون عبدا أو مسافرا ، فإن تم العدد به لم تصح ، وإلا صحت على المذهب ، وقيل في صحتها وجهان : وقال البندنيجي وغيره قولان ( أصحهما ) الصحة هذا إذا صليا الجمعة ابتداء فإن كانا صليا ظهر يومهما ثم أما في الجمعة فهما متنفلان بها ، ففي صحتها خلفهما ما سنذكره إن شاء الله - تعالى - في المتنفل .

                                      ( الثاني ) : أن يكون صبيا أو متنفلا ، فإن تم به العدد لم تصح ، وإن تم دونه فقولان : ( أصحهما ) عند الأكثرين : الصحة ، وهو نصه في الإملاء ، [ ص: 146 ] ونص في الأم على أنها لا تصح قال : واتفقوا على أن الجواز في المتنفل أظهر منه في الصبي ; لأنه من أهل الفرض ولا نقص فيه .

                                      ( الثالث ) : أن يصلوا الجمعة خلف من يصلي صبحا أو عصرا فكالمتنفل .

                                      وقيل : تصح قطعا ; لأنه يصلي فرضا ، وإن صلوها خلف من يصلي الظهر تامة وهي فرضه بأن يكون له في تركه الجمعة عذر فهو كمصلي العصر ، فيكون في صحتها الطريقان ، المذهب الصحة ورجح المصنف بعد هذا البطلان وهو ضعيف ، وإن صلوها خلف مسافر نوى الظهر مقصورة فإن قلنا الجمعة ظهر مقصورة صح قطعا ، وإن قلنا : صلاة مستقلة فكمن نوى الظهر تامة فتصح على المذهب .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في صحة إمامة الصبي للبالغين قد ذكرنا أن مذهبنا صحتها ، وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وإسحاق بن راهويه وأبي ثور قال : وكرهها عطاء والشعبي ومجاهد ومالك والثوري وأصحاب الرأي ، وهو مروي عن ابن عباس وقال الأوزاعي : لا يؤم في مكتوبة إلا أن لا يكون فيهم من يحفظ شيئا من القرآن غيره ، فيؤمهم المراهق ، وقال الزهري : إن اضطروا إليه أمهم ، قال ابن المنذر : وبالجواز أقول ، وقال العبدري : قال مالك وأبو حنيفة : تصح إمامة الصبي في النفل دون الفرض ، وقال داود : لا تصح في فرض ولا نفل وقال أحمد : لا تصح في الفرض ، وفي النفل روايتان ، وقال القاضي أبو الطيب : قال أبو حنيفة ومالك والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق : لا يجوز أن يكون إماما في مكتوبة ، ويجوز في النفل ، قال : وربما قال بعض الحنفية لا تنعقد صلاته ، واحتج بحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " { رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق } رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح ، وروياه أيضا من رواية عائشة رضي الله عنها ، وعن ابن عباس من قوله " لا يؤم غلام حتى يحتلم " ولأنه غير مكلف فأشبه المجنون .

                                      واحتج أصحابنا بحديث عمرو بن سلمة الذي احتج به المصنف وبقوله صلى الله عليه وسلم { يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله } رواه مسلم ، [ ص: 147 ] وسنوضحه في موضعه قريبا إن شاء الله - تعالى .

                                      ولأن من جازت إمامته في النفل جازت في الفرض كالبالغ ، والجواب عن حديث " رفع القلم " أن المراد رفع التكليف والإيجاب لا نفي صحة الصلاة ، والدليل عليه حديث ابن عباس في الصحيحين " أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم " وحديث أنس في الصحيحين " { أنه صلى هو واليتيم خلف النبي صلى الله عليه وسلم } وحديث عمرو بن سلمة المذكور هنا ، وغيرها من الأحاديث الصحيحة ، وأما المروي عن ابن عباس فإن صح فمعارض بالمروي عن عائشة من صحة إمامة الصبيان ، وإذا اختلفت الصحابة لم يحتج ببعضهم ، ويخالف المجنون فإنه لا تصح طهارته ولا يعقل الصلاة والله أعلم .

                                      ( فرع ) ذكرنا أن الصحيح عندنا صحة صلاة الجمعة خلف المسكر ، ونقل الشيخ أبو حامد في كتاب الجمعة إجماع المسلمين عليه ، ونقل العبدري عن زفر وأحمد أنها لا تصح ، ومذهبنا : المشهور صحتها وراء العبد .

                                      وبه قال أبو حنيفة والجمهور .

                                      وقال مالك : لا تصح ، وهي رواية عن أحمد .




                                      الخدمات العلمية