الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( فأما إذا دخل [ عليه ] وقت الصلاة وتمكن من فعلها ثم سافر فإن له أن يقصر .

                                      وقال المزني : لا يجوز ووافقه عليه أبو العباس لأن السفر يؤثر في الصلاة كما يؤثر في الحيض ، ثم لو طرأ الحيض بعد الوجوب والقدرة على فعلها لم يؤثر ، فكذا السفر ، والمذهب الأول ، لأن الاعتبار في صفة الصلاة بحال الأداء لا بحال الوجوب .

                                      والدليل عليه أنه لو دخل عليه وقت الظهر وهو عبد فلم يصل حتى عتق صار فرضه الجمعة ، وهذا في حال الأداء مسافر فوجب أن يقصر ، ويخالف الحيض لأنه يؤثر في إسقاط الفرض فلو أثر ما طرأ منه بعد القدرة على الأداء أفضى إلى إسقاط الفرض بعد الوجوب والقدرة ، والسفر يؤثر في العدد فلا يفضي إلى إسقاط الفرض بعد الوجوب ، ولأن الحائض تفعل القضاء ، والقضاء يتعلق بالوجوب والقدرة عليه ، والمسافر يفعل الأداء ، وكيفية الأداء تعتبر بحال الأداء والأداء في حال السفر ، وإن سافر بعدما ضاق وقت [ ص: 247 ] الصلاة جاز له أن يقصر ، وقال أبو الطيب بن سلمة لا يقصر ; لأنه تعين عليه صلاة حضر فلا يجوز له القصر ، والمذهب الأول ; لما ذكرناه مع المزني وأبي العباس وقوله : إنه تعينت عليه صلاة حضر يبطل بالعبد إذا عتق في وقت الظهر ، وإن سافر وقد بقي من الوقت أقل من قدر الصلاة فإن قلنا : إنه مؤد لجميع الصلاة - جاز له القصر ، وإن قلنا : إنه مؤد لما فعله في الوقت قاض لما يفعله بعد الوقت لم يجز القصر ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) إذا سافر في أثناء الوقت ، وقد مضى من الوقت ما يمكن فعل الصلاة فيه ، نص الشافعي أن له قصرها ، ونص فيما إذا أدركت من أول الوقت قدر الإمكان ثم حاضت أنه يلزمها القضاء وكذا سائر أصحاب الأعذار ، وللأصحاب طريقان ، قال ابن سريج : في كل واحدة من المسألتين قولان بالنقل والتخريج ( أحدهما ) : يجب الإتمام على المسافر وتجب الصلاة على الحائض ( والثاني ) : لا صلاة عليها وله القصر ، وقال جمهور الأصحاب بظاهر النصين ، فأوجبوا الصلاة عليها وجوزوا القصر ، وفرقوا بما ذكره المصنف وإن سافر بعد ضيق الوقت بحيث بقي قدر الصلاة قصر على المذهب ، وقال ابن سلمة : لا يقصر .

                                      ودليلهما في الكتاب ، وإذا جمعت الصورتان قيل : فيهما ثلاثة أوجه : ( الصحيح ) : القصر ( والثاني ) : الإتمام ( والثالث ) : إن ضاق الوقت أتم وإلا قصر ، وإن سافر وقد بقي دون قدر الصلاة فإن قلنا : كلها أداء قصر وإلا فلا ، ولو مضى من الوقت دون قدر الصلاة ثم سافر قال إمام الحرمين : ينبغي أن يمتنع القصر - إن قلنا : يمتنع لو مضى زمن يسع الصلاة بخلاف ما لو حاضت ، وقد مضى زمن لا يسعها - فإنه لا يلزمها قضاء الصلاة على المذهب ، كما سبق ، قال : والفرق أن عروض السفر لا ينافي إتمام الصلاة ، وعروض الحيض ينافيه .

                                      وهذا الذي ذكره إمام الحرمين شاذ مردود ، فقد اتفق الأصحاب على أنه إذا سافر قبل أن يمضي من الوقت زمن يسع تلك الصلاة جاز له القصر بلا خلاف صرح به الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والأصحاب ، ونقل القاضي أبو الطيب إجماع المسلمين أنه يقصر قالوا : وإنما الخلاف إذا مضى قدر الصلاة قبل أن يسافر والفرق أنه إذا مضى قدرها صار في معنى من فاتته [ ص: 248 ] صلاة في الحضر ولا يوجد هذا المعنى فيمن سافر قبل مضي قدرها بكماله ، والله أعلم .

                                      ومتى سافر وقد بقي من الوقت شيء وقلنا : له القصر فلم يصلها حتى فاتت في السفر فقضاها في السفر أو الحضر بعده فهي فائتة سفر ففي جواز قصرها الخلاف السابق ، صرح به البندنيجي وغيره ، هذا مختصر حكم المسألة ، وفيها إشكال على لفظ المصنف ، فإنه نقل هنا عن المزني أنه قال : لا يجوز القصر ، وذكر قبل هذا عن المزني : إذا فاتته في الحضر فقضاها في السفر قصر ، وهذا تناقض ; لأنه إذا أباح القصر بعد فوات الوقت في الحضر ففي أثنائه أولى ، وجوابه : أن المزني لم يذكر منع القصر هنا مذهبا له ، وإنما ذكره إلزاما للشافعي فقال : قياس قول الشافعي في مسألة الحائض وما عرف من مذهبه أن الصلاة تجب بأول الوقت أنه لا يجوز القصر ، وليس المراد أن المزني يعتقد هذا ، ويدل على صحة هذا الجواب : أن المزني قال في مختصره : قال الشافعي : وإن خرج في آخر وقت الصلاة قصر وإن كان بعد الوقت لم يقصر ، قال المزني : أشبه بقوله أن يتم ; لأنه يقول في المرأة إذا حاضت ، وذكر المسألة فهذا لفظه ، وهو صريح فيما ذكرته .

                                      وأما قول المصنف ووافقه أبو العباس فمراده : أن أبا العباس خرج وجها على وفق إيراد المزني كما ذكرناه من تخريج أبي العباس من الحائض إلى المسافر وعكسه ، وقد أوضح ذلك القاضي أبو الطيب في تعليقه فقال : ذكر أبو العباس في الحائض والمسافر في أثناء الوقت ثلاثة أوجه : ( أحدها ) : له القصر ولا قضاء عليها ( والثاني ) : يلزمه الإتمام ويلزمها القضاء ( والثالث ) : له القصر ، وعليها القضاء وهو المذهب والمنصوص ، وقد ذكر صاحب البيان أن النقل عن أبي العباس متناقض ويندفع تناقضه بما ذكرته وأما قول المصنف : يبطل بالعبد إذا أعتق في وقت الظهر ، فمعناه لو أعتق يوم الجمعة ، وقد بقي من وقت الظهر أربع ركعات ، ولم يكن صلاها وأمكنت الجمعة لزمته ، وإن كان قد تعين عليه فعل الظهر .

                                      وهذا يدل على أن الاعتبار في صفة الصلاة بحال الفعل لا بتعين الفعل ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء إذا فاتته صلاة في الحضر فقضاها في السفر لزمه الإتمام عندنا وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد والجمهور ، وقال [ ص: 249 ] الحسن البصري والمزني : يقصر ، ولو فاتته في السفر فقضاها في الحضر فالأصح عندنا يلزمه الإتمام كما سبق وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق وداود .

                                      وقال مالك وأبو حنيفة : يقصر ، ولو سافر في أثناء الوقت ، وقد تمكن من تلك الصلاة فله قصرها في السفر عندنا ، وعند أبي حنيفة ومالك والجمهور وفيه التخريج السابق عن المزني وابن سريج ودليل الجميع في الكتاب




                                      الخدمات العلمية