الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( ولا تصح الجمعة إلا بأربعين نفسا ; لما روى جابر رضي الله عنه قال { مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما ، وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وأضحى وفطرا } ومن شرط العدد أن يكونوا رجالا أحرارا [ عقلاء ] مقيمين في الموضع ، فأما النساء والعبيد والمسافرون فلا تنعقد بهم الجمعة ; لأنه لا تجب عليهم الجمعة ، فلا تنعقد بهم كالصبيان ، وهل تنعقد بمقيمين غير مستوطنين ؟ فيه وجهان ، قال أبو علي بن أبي هريرة : تنعقد بهم ; لأنه تلزمهم الجمعة فانعقدت بهم كالمستوطنين ، وقال أبو إسحاق : لا تنعقد ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم { خرج إلى عرفات ومعه أهل مكة ، وهم في ذلك الموضع مقيمون غير مستوطنين } فلو انعقدت بهم الجمعة لأقامها ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث جابر ضعيف رواه البيهقي وغيره بإسناد ضعيف وضعفوه ، قال البيهقي : هو حديث لا يحتج بمثله وقول المصنف ( أن يكونوا رجالا ) يعني بالغين عقلاء .

                                      واحتجاجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل الجمعة بعرفات لا يصح ; لأنها ليست محل استيطان ، بل هو [ ص: 369 ] قضاء لا ينافيه ، ولأن الحاضرين هناك كلهم ليسوا مقيمين هناك ، والجمعة تسقط بالسفر القصير بالاتفاق ، وإنما التعليل الصحيح أنه ليس مستوطنا ، والاستيطان شرط هكذا نقل القاضي أبو الطيب أن أبا إسحاق صاحب هذا الوجه علله بهذا .

                                      ( أما حكم الفصل ) فلا تصح الجمعة إلا بأربعين رجلا بالغين عقلاء أحرارا مستوطنين القرية أو البلدة التي يصلى فيها الجمعة لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفا إلا سفر حاجة ، فإن انتقلوا عنه شتاء وسكنوه صيفا أو عكسه فليسوا مستوطنين ولا تنعقد بهم بالاتفاق ، وهذا الذي ذكرناه من اشتراط أربعين هو المعروف من مذهب الشافعي والمنصوص في كتبه ، وقطع به جمهور الأصحاب ، ومعناه أربعون بالإمام فيكونون تسعة وثلاثين مأموما .

                                      ونقل ابن القاص في التلخيص قولا للشافعي قديما : أنها تنعقد بثلاثة : إمام ومأمومين ، هكذا حكاه عن الأصحاب ، والذي هو موجود في التلخيص ثلاثة مع الإمام ، ثم إن هذا القول الذي حكاه غريب أنكره جمهور الأصحاب وغلطوه فيه .

                                      قال القفال في شرح التلخيص : هذا القول غلط لم يذكره الشافعي قط ولا أعرفه ، وإنما هو مذهب أبي حنيفة .

                                      وقال الشيخ أبو علي السنجي في شرح التلخيص : أنكر عامة أصحابنا هذا القول وقالوا : لا يعرف هذا للشافعي .

                                      قال : ومنهم من سلم نقله ، وحكى أصحابنا الخراسانيون وجها ضعيفا أنه يشترط أن يكون الإمام زائدا على الأربعين ، حكاه جماعة من العراقيين أيضا ، منهم صاحب الحاوي والدارمي والشاشي .

                                      قال صاحب الحاوي : هو قول أبي علي ابن أبي هريرة حكاه الروياني قولا قديما .

                                      وأما قول المصنف ( هل تنعقد بمقيمين غير مستوطنين ؟ ) فيه وجهان مشهوران : أصحهما : لا تنعقد ، اتفقوا على تصحيحه ، ممن صححه المحاملي وإمام الحرمين والبغوي والمتولي وآخرون ، وسيأتي إن شاء الله - تعالى - في الفرع الآتي بيان محل الوجهين .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : الناس في الجمعة ستة أقسام : ( أحدها ) : من تلزمه وتنعقد به ; وهو الذكر الحر البالغ العاقل المستوطن الذي لا عذر له ( الثاني ) : من تنعقد به ولا تلزمه ، وهو المريض والممرض ، ومن في طريقه [ ص: 370 ] مطر ونحوهم من المعذورين .

                                      ولنا قول شاذ ضعيف جدا : أنها لا تنعقد بالمريض حكاه الرافعي ( الثالث ) : من لا تلزمه ولا تنعقد به ولا تصح منه ، وهو المجنون والمغمى عليه .

                                      ( الرابع ) : من تلزمه ولا تنعقد به وتصح منه وهو المميز والعبد والمسافر والمرأة والخنثى .

                                      ( الخامس ) : من تلزمه ولا تصح منه وهو المرتد .

                                      ( السادس ) من تلزمه وتصح منه ، وفي انعقادها به خلاف ، وهو المقيم غير المستوطن ففيه الوجهان المذكوران في الكتاب ( أصحهما ) : لا تنعقد به .

                                      ثم أطلق جماعة الوجهين في كل مقيم لا يترخص ، وصرح جماعة بأن الوجهين جاريان في المسافر الذي نوى إقامة أربعة أيام ، وهو ظاهر كلام المصنف وغيره ، قال الرافعي : هما جاريان فيمن نوى إقامة يخرج بها عن كونه مسافرا قصيرة كانت أو طويلة وشذ البغوي فقال : الوجهان فيمن طال مقامه وفي عزمه الرجوع إلى وطنه كالمتفقه والتاجر ، قال : فإن نوى إقامة أربعة أيام يعني ونحوها من الإقامة القليلة لم تنعقد به وجها واحدا ، والمشهور : طرد الخلاف في الجميع ، وأما أهل " الخيام والقرى الذين يبلغهم نداء البلد وينقصون عن أربعين فقطع البغوي بأنها لا تنعقد بهم ; لأنهم ليسوا مقيمين في بلد الجمعة بخلاف المقيم بنية الرجوع إلى وطنه ، وطرد المتولي فيهم الوجهين والأول أظهر .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في العدد الذي يشترط لانعقاد الجمعة قد ذكرنا أن مذهبنا اشتراط أربعين ، وبه قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وأحمد وإسحاق ، وهو رواية عن عمر بن عبد العزيز وعنه رواية باشتراط خمسين ، وقال ربيعة : تنعقد باثني عشر ، وقال أبو حنيفة والثوري والليث ومحمد : تنعقد بأربعة أحدهم الإمام - وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي ثور واختاره .

                                      وحكى غيره عن الأوزاعي وأبي يوسف انعقادها بثلاثة أحدهم الإمام .

                                      وقال الحسن بن صالح وداود : تنعقد باثنين أحدهما الإمام ، وهو معنى ما حكاه ابن المنذر عن مكحول ، وقال مالك : لا يشترط عدد معين ، بل يشترط جماعة تسكن بهم قرية ، ويقع بينهم البيع [ ص: 371 ] والشراء ، ولا يحصل بثلاثة وأربعة ونحوهم ، وحكى الدارمي عن القاشاني أنها تنعقد بواحد منفرد ، والقاشاني لا يعتد به في الإجماع ، وقد نقلوا الإجماع أنه لا بد من عدد واختلفوا في قدره كما ذكرنا .

                                      واحتج لربيعة بحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يخطب قائما يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا } واحتج للباقين بحديث عن أم عبد الله الدوسية قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الجمعة واجبة على كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة } رواه الدارقطني وضعف طرقه كلها ، وبأنهم جماعة فأشبه الأربعين .

                                      واحتج لمن شرط خمسين بحديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { في الخمسين جمعة } .

                                      وليس فيما دون ذلك ، رواه الدارقطني بإسناد فيه ضعيفان " .

                                      واحتج أصحابنا بحديث جابر المذكور في الكتاب ولكنه ضعيف كما سبق ، وبأحاديث بمعناه لكنها ضعيفة وأقرب ما يحتج به ما احتج البيهقي والأصحاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال { أول من جمع بنا في المدينة سعد بن زرارة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في نقيع الخضمات قلت : كم كنتم ؟ قال : أربعون رجلا } حديث حسن رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة قال البيهقي وغيره : وهو [ ص: 372 ] صحيح ، النقيع هنا بالنون ذكره الخطابي والحازمي وغيرهما ، والخضمات - بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين - قال الشيخ أبو حامد في تعليقه : قال أحمد بن حنبل : نقيع الخضمات قرية لبني بياضة بقرب المدينة على ميل من منازل بني سلمة وقال أصحابنا : وجه الدلالة منه أن يقال : أجمعت الأمة على اشتراط العدد ، والأصل الظهر فلا تصح الجمعة إلا بعدد ثبت فيه التوقيف ، وقد ثبت جوازها بأربعين ، فلا يجوز بأقل منه إلا بدليل صريح ، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { صلوا كما رأيتموني أصلي } ولم تثبت صلاته لها بأقل من أربعين .

                                      وأما حديث انفضاضهم فلم يبق إلا اثنا عشر وليس فيه أنه ابتدأ الصلاة باثني عشر بل يحتمل أنهم عادوا هم أو غيرهم فحضروا أركان الخطبة والصلاة وجاء في روايات مسلم " انفضوا في الخطبة " وفي رواية للبخاري .

                                      انفضوا في الصلاة ، وهي محمولة على الخطبة جمعا بين الروايات .

                                      ويكون المراد بالصلاة الخطبة ; لأن منتظر الصلاة في صلاة .

                                      وقد جاء في رواية للدارقطني والبيهقي أنهم انفضوا فلم يبق إلا أربعون رجلا والمشهور في الروايات اثنا عشر .

                                      ( فرع ) إذا كان في القرية أربعون من أهل الكمال صحت جمعتهم في قريتهم ولزمتهم سواء كان فيها سوق ونهر أم لا - وبه - قال مالك وأحمد وإسحاق وجمهور العلماء ، وحكاه الشيخ أبو حامد عن عمر وابنه ، وابن عباس رضي الله عنهم وقال أبو حنيفة والثوري : لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع .

                                      وحكى ابن المنذر نحوه عن علي بن أبي طالب والحسن البصري وابن سيرين والنخعي واحتج لهم بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم { لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر } واحتج أصحابنا بحديث ابن عباس قال { إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين } رواه البخاري .

                                      وبحديث عبد الرحمن [ ص: 373 ] بن كعب بن مالك المذكور في الفرع قبله ، وأما الحديث الذي احتجوا به فضعيف متفق على ضعفه ، وهو موقوف على علي رضي الله عنه بإسناد ضعيف منقطع .

                                      ( فرع ) لا تصح الجمعة عندنا إلا في أبنية يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة ، ولا تصح في الصحراء ، وبه قال مالك وآخرون ، وقال أبو حنيفة وأحمد : يجوز إقامتها لأهل المصر في الصحراء كالعيد .

                                      واحتج أصحابنا بما احتج به المصنف أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفعلوها في الصحراء مع تطاول الأزمان وتكرر فعلها بخلاف العيد .

                                      وقد قال صلى الله عليه وسلم { صلوا كما رأيتموني أصلي } .

                                      ( فرع ) لا تنعقد الجمعة عندنا بالعبيد ولا المسافرين ، وبه قال الجمهور ، وقال أبو حنيفة : تنعقد .




                                      الخدمات العلمية