الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( فإن أحرم بالعدد ثم انفضوا عنه ففيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) : إن نقص العدد عن أربعين لم تنعقد الجمعة ; لأنه شرط في الجمعة فشرط في جميعها كالوقت ( والثاني ) : إن بقي معه اثنان أتم الجمعة ; لأنهم يصيرون ثلاثة وذلك جمع مطلق فأشبه الأربعين ( والثالث ) : إن بقي معه واحد أتم الجمعة ; لأن الاثنين جمعة ، وخرج المزني قولين آخرين : ( أحدهما ) : إن بقي وحده جاز أن يتم الجمعة كما قال الشافعي في إمام يحرم بالجمعة ثم أحدث : إنهم يتمون صلاتهم وحدانا ركعتين ( والثاني ) : أنه إن كان صلى ركعة ثم انفضوا أتم الجمعة ، وإن انفضوا قبل الركعة لم يتم الجمعة كما قال في المسبوق : إذا أدرك مع الإمام ركعة أتم الجمعة وإن لم يدرك ركعة أتم الظهر .

                                      فمن أصحابنا من أثبت القولين ، وحكى في المسألة خمسة أقوال ، ومنهم من لم يثبتهما فقال : إذا أحدث الإمام يبنون على صلاتهم ; لأن الاستخلاف لا يجوز على هذا القول ، فيبنون على صلاتهم على حكم الجماعة مع الإمام ، وههنا أن الإمام لا تتعلق صلاته بصلاة من خلفه ، وأما المسبوق فإنه يبني على جمعة تمت بشروطها وههنا لم يتم جمعة فيبني الإمام عليها ) .

                                      [ ص: 374 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 374 ] الشرح ) الانفضاض : التفرق والذهاب ، ومنه سميت الفضة ، وحاصل ما ذكره المصنف في انفضاضهم عن الإمام في صلاة الجمعة طريقان : ( أحدهما ) : فيه ثلاثة أقوال ، وهي المنصوصة ، ولم يثبتوا المخرجين ( وأصحهما ) : وأشهرهما فيه خمسة أقوال بإثبات المخرجين ، وقد ذكر المصنف دلائلها ( أصحها ) : باتفاق الأصحاب تبطل الجمعة ; لأن العدد شرط ، فشرط في جميعها ، فعلى هذا لو أحرم الإمام وتباطأ المقتدون ثم أحرموا ، فإن تأخر إحرامهم عن ركوعه فلا جمعة لهم ولا له ، وإن لم يتأخر عن ركوعه ، قال القفال : تصح الجمعة ، وقال الشيخ أبو محمد الجويني : يشترط أن لا يطول الفصل بين إحرامه وإحرامهم وقال إمام الحرمين : الشرط أن يتمكنوا من قراءة الفاتحة ، فإن حصل ذلك لم يضر الفصل ، وصحح الغزالي هذا .

                                      ( والقول الثاني ) : إن بقي اثنان مع الإمام أتم الجمعة .

                                      وإلا بطلت .

                                      ( والثالث ) : إن بقي معه واحد لم تبطل ، وهذه الثلاثة منصوصة ، الأولان في الجديد ، والأخير في القديم ، وهل يشترط في الاثنين والواحد صفة الكمال المعتبر في الجمعة ؟ فيه وجهان حكاهما صاحب الحاوي ( أصحهما ) : يشترط ; لأنها صلاة جمعة ( والثاني ) : لا يشترط حتى لو بقي معه صبيان أو عبدان أو امرأتان أو مسافران أو صبي أو عبد أو امرأة إذا اعتبرنا واحدا كفى وأتم الجميع ; لأن هذا القول يكتفي باسم الجمعة أو الجماعة وهي حاصلة بها وقال إمام الحرمين : الظاهر الاشتراط ، قال : ولصاحب التقريب احتمال أنه لا يشترط قال : وهذا مزيف لا يعتد به .

                                      ( والقول الرابع ) : المخرج لا تبطل ، وإن بقي وحده .

                                      ( والخامس ) : إن انفضوا في الركعة الأولى بطلت الجمعة ، وإن انفضوا بعدها لم تبطل الجمعة بل يتمها الإمام وحده ، وكذا من معه إن بقي معه أحد .

                                      هذا حكم الانفضاض في نفس صلاة الجمعة .

                                      واعلم أن الأربعين شرط لصحة الخطبتين ، فيشترط سماعهم الآن كما سنوضحه إن شاء الله - تعالى - فلو حضر العدد ثم انفضوا قبل افتتاح الخطبة لم يجز افتتاحها حتى يجتمع لها أربعون كاملون وإن انفضوا في أثناء الخطبة [ ص: 375 ] لم يعتد بالركن المفعول في غيبتهم بلا خلاف ، بخلاف الانفضاض في الصلاة ، فإن فيه الأقوال الخمسة .

                                      وفرق الأصحاب بأن كل واحد يصلي لنفسه فسومح بنقص العدد على قول ، والخطيب لا يخطب لنفسه ، إنما الغرض إسماعهم ، فما جرى ولا مستمع لم يحصل فيه الغرض فلم تصح ، ثم إن عادوا قبل طول الفصل بنى على خطبته ، وإن عادوا بعده فقولان مشهوران في كتب الخراسانيين ، قال : ويعبر عنهما بأن الموالاة في الخطبة واجبة أم لا ؟ الأصح أنها واجبة فيجب الاستئناف .

                                      ( والثاني ) : غير واجبة فيبني ، وبنى جماعة منهم القولين على أن الخطبتين بدل من الركعتين فيجب الاستئناف أم لا ؟ فلا يجب ، قالوا : ولا فرق بين فوات الموالاة لعذر وغيره فيما ذكرناه ولو لم يعد الأولون وجاء غيرهم وجب استئناف الخطبتين قصر الفصل أم طال بلا خلاف .

                                      أما إذا انفضوا بعد فراغ الخطبة - فإن عادوا قبل طول الفصل - صلى الجمعة بتلك الخطبة بلا خلاف ، وقد ذكره المصنف بعد هذا بقليل ، وإن عادوا بعد طول الفصل ففيه خلاف مبني على اشتراط الموالاة بين الخطبة والصلاة ، وفيه قولان مشهوران ( أصحهما ) : وهو الجديد الاشتراط ، فعلى هذا لا تجوز صلاة الجمعة بتلك الخطبة ( والثاني ) : لا يشترط فعلى هذا يصلي بها ، وهل تجب إعادة الخطبة وصلاة الجمعة أم لا ؟ قال المزني في المختصر : قال الشافعي : أحببت أن يبتدئ الخطبة ثم يصلي الجمعة فإن لم يفعل صلى بهم الظهر ، واختلف أصحابنا في معنى كلامه هذا على ثلاثة أو أنه حكاها المصنف بعد هذا والأصحاب ، وهي مشهورة ( أصحها ) : وبه قال ابن سريج والقفال وأكثر أصحابنا : تجب إعادة الخطبة ثم يصلي بهم الجمعة لتمكنه من ذلك قالوا : ولفظ الشافعي إنما هو ( أوجبت ) ولكنه صحف .

                                      ومنهم من تأوله وقال : أراد بأحببت : أوجبت ، قالوا : وقوله صلى بهم الظهر محمول على ما إذا ضاق الوقت ( والوجه الثاني ) : وبه قال أبو إسحاق المروزي : لا تجب إعادة الخطبة لكن تستحب وتجب صلاة الجمعة .

                                      أما وجوب الجمعة فلقدرته عليها ، وإنما لم تجب الخطبة ; لأنه لا يؤمن انفضاضهم ثانيا ، فصار ذلك عذرا في سقوطها .

                                      ( الثالث ) : وبه قال أبو علي الطبري في الإفصاح : لا تجب إعادة الخطبة [ ص: 376 ] ولا تجب الجمعة أيضا ، لكن يستحبان عملا بظاهر نصه ، وهذا الثالث هو الأصح عند صاحبي الحاوي والمستظهري ; قالا : وهو قول أكثر أصحابنا .

                                      قال صاحب الحاوي : وقول ابن سريج وإن كان له وجه فقول أبي علي أظهر .

                                      قال : وقد أخطأ أبو العباس في تخطئته المزني ; لأن البويطي والربيع والزعفراني نقلوه هكذا عن الشافعي فقالوا : قال أحببت ، ولم ينقل عنه أحد أوجبت ، فعلم أن المزني لم يخطئ في نقله وإنما أخطأ أبو العباس في تأويله .

                                      هذا كلام صاحب الحاوي وخالفه الأكثرون كما قدمناه .

                                      قال المحاملي في المجموع وصاحب العدة والشيخ نصر وغيرهم : هذا الوجه الثالث ضعيف قالوا : وهو أضعف الأوجه ، وهو كما قالوا ; لأنه متمكن من الخطبة والصلاة ، ولا يلتفت إلى احتمال انفضاضهم ثانيا ، فإنه احتمال ضعيف نادر قال أصحابنا ، فإن أعيدت الخطبة وصليت الجمعة فلا إثم على واحد وإن لم تعد وأوجبنا إعادتها أثموا كلهم ، وإن لم نوجب إعادتها أثم المنفضون دون الإمام والباقين .

                                      قال الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ وسائر الأصحاب : الاعتبار في طول الفصل بالعرف فما عد طويلا فطويل ، وإلا فقصير .

                                      وحكى الشيخ أبو حامد في تعليقه والمصنف بعد هذا وسائر الأصحاب عن أبي إسحاق المروزي تفريعا على الوجه الذي قاله هنا أنه لو صلوا الظهر وتركوا الجمعة جاز بناء على أصله إذا اجتمع أهل بلد على ترك الجمعة ثم صلوا الظهر جاز ، وقد سبق بيان قوله : وأن الصحيح خلافه ، والله أعلم .

                                      قال أصحابنا : وسواء طال الفصل والخطيب ساكت أو مستمر في الخطبة ، ثم أعاد ما جرى من أركانها في حال غيبتهم حين عادوا ، أما إذا أحرم بالجمعة بالعدد المشروط وأحرموا ثم حضر أربعون آخرون وأحرموا بها ثم انفض الأولون ، فقال الأصحاب : لا يضر بل يتم الجمعة سواء كان اللاحقون سمعوا الخطبة أم لا ، قال إمام الحرمين : ولا يمتنع عندي أن يقال يشترط بقاء أربعين سمعوا الخطبة أما إذا انفضوا بعد الإحرام ثم حضر أربعون متصلون بهم ، فقال الغزالي : يستمر صحة الجمعة بشرط أن يكون اللاحقون سمعوا الخطبة .

                                      ( فرع ) أجمع العلماء على أن الجمعة لا تصح من منفرد ، وأن [ ص: 377 ] الجماعة شرط لصحتها ، وهو مراد المصنف بقوله : ( ولا تصح إلا بأربعين ) أي في جماعة ; ولو صرح به لكان أحسن .

                                      قال أصحابنا : وشروط الجمعة هنا كشروطها في سائر الصلوات ، ويشترط هنا أمور زائدة سبق بيانها .

                                      وهو كونهم أربعين كاملين ، ووقوعها في خطة البلد وفي الوقت ، وسبقت فروع كثيرة ومسائل مهمة تتعلق بصفات الإمام والمأمومين في الجمعة في أول باب صفة الأئمة .

                                      قال الشافعي والأصحاب : ولا يشترط لصحة الجمعة حضور السلطان ، ولا إذنه فيها ، وحكى صاحب البيان قولا قديما أنه لا تصح إلا خلف السلطان أو من أذن له ، وهو شاذ باطل ، والمعروف في المذهب ما سبق .




                                      الخدمات العلمية