الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( ويستحب أن يبسط أحسنها وأوسعها ، ثم الثاني [ ثم ] الذي يلي الميت اعتبارا بالحي فإنه يجعل أحسن ثيابه وأوسعها فوق الثياب ، وكلما فرش ثوبا نثر فيه الحنوط ثم يحمل الميت إلى الأكفان مستورا ، ويترك على الكفن مستلقيا على ظهره ، ويؤخذ قطن منزوع الحب فيجعل فيه الحنوط والكافور ويجعل بين أليتيه ، ويشد عليه كما يشد التبان . ويستحب أن يأخذ القطن ، ويجعل عليه الحنوط والكافور ويترك على الفم والمنخرين والعينين والأذنين وعلى خراج نافذ إن كان عليه ليخفي ما يظهر من رائحته ويجعل الحنوط والكافور على قطن ويترك على مواضع السجود ، لما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : " { يتتبع بالطيب مساجده } " ولأن هذه المواضع شرفت بالسجود فخصت بالطيب قال : " وأحب أن يطيب جميع بدنه بالكافور ; لأن ذلك يقوي البدن ويشده " ويستحب أن يحنط رأسه ولحيته بالكافور كما يفعل الحي إذا تطيب . قال في البويطي : " فإن حنط بالمسك فلا بأس لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 157 ] قال : { المسك من أطيب الطيب } " وهل يجب الحنوط والكافور أم لا ؟ فيه قولان : وقيل : فيه وجهان ( أحدهما ) : يجب ; لأنه جرت به العادة في الميت فكان واجبا كالكفن ( والثاني ) : أنه لا يجب كما لا يجب الطيب في حق المفلس ، وإن وجبت الكسوة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { المسك أطيب الطيب } رواه مسلم في صحيحه هكذا ، ووقع في المهذب : { من أطيب الطيب } بزيادة ( من ) والأثر المذكور عن ابن مسعود { يتتبع بالطيب مساجده } رواه البيهقي ، والحنوط - بفتح الحاء وضم النون - هذا هو المشهور ، ويقال : الحناط بكسر وهو أنواع من الطيب يخلط للميت خاصة لا يقال في غير طيب الميت حنوط قال الأزهري : يدخل في الحنوط الكافور وذريرة القصب والصندل الأحمر والأبيض ( وقوله ) كما يشد التبان هو بضم المثناة فوق وتشديد الموحدة ، وهو سراويل قصيرة صغيرة بلا تكة ( قوله ) : وعلى خراج نافذ هو بضم الخاء المعجمة ، وتخفيف الراء وهو القرحة في الجسد . ( أما الأحكام ) فقال الشافعي والأصحاب يستحب أن يبسط أوسع اللفائف وأحسنها ويذر عليها حنوط ثم يبسط الثانية عليها ويذر عليها حنوط وكافور ، وإن كفن الرجل أو المرأة في لفافة ثالثة أو رابعة كانت كالثانية في أنها دون التي قبلها وفي ذر الحنوط والكافور . واتفق الشافعي والأصحاب على استحباب الحنوط كما ذكرنا . قال صاحب الحاوي رحمه الله : هذا شيء لم يذكره غير الشافعي من الفقهاء ، وإنما اختاره الشافعي ; لئلا يسرع بلي الأكفان وليقيها من بلل يصيبها .

                                      قال المصنف والأصحاب رحمهم الله " ثم يحمل الميت مستورا فيوضع فوقها مستلقيا " واحتجوا لبسط أحسن اللفائف وأوسعها أولا بالقياس على الحي ، فإنه يجعل أجمل ثيابه فوقها ، ثم يؤخذ قطن منزوع الحب فيجعل عليه حنوط وكافور ويدس بين أليتيه حتى يتصل بحلقة الدبر فيسدها ، ليرد شيئا يتعرض للخروج . قال أصحابنا : ولا يدخله إلى داخل الحلقة . هذا هو الصحيح الذي قطع به جماهير الأصحاب في الطريقين ، وذكر البغوي [ ص: 158 ] وجهين : ( أحدهما ) : يكره الإدخال ( والثاني ) : يدخل ; لأنه إذا لم يدخل لا يمنع الخروج قال : وإنما فعل ذلك للمصلحة . وقال القاضي حسين في تعليقه : قال القفال : رأيت للشافعي رحمه الله في الجامع الكبير إدخاله ، ، وهذا نقل غريب وحكم ضعيف ، والصواب ما سبق وسبب الخلاف أن المزني نقل في المختصر عن الشافعي أنه قال يأخذ شيئا من قطن منزوع الحب فيجعل فيه الحنوط والكافور . ثم يدخل بين أليتيه إدخالا بليغا ويكثر منه ليرد شيئا - إن جاء منه عند تحريكه - ويشد عليه خرقة مشقوقة الطرف ، يأخذ أليته وعانته . ثم يشد عليه كما يشد التبان الواسع . قال المزني : لا أحب ما قال من إبلاغ الحشو . ولكن يجعل كاللوزة من القطن بين أليتيه ويجعل من تحتها قطن يضم إلى أليتيه . والشداد من فوق ذلك كالتبان يشد عليه . فإن جاء منه شيء بعد ذلك منعه ذلك أن يظهر ، فهذا أحسن في كرامته من انتهاك حرمته . هذا آخر كلام المزني .

                                      قال أصحابنا : توهم المزني من كلام الشافعي ، هذا أنه أراد إدخال القطن في الدبر قالوا : وأخطأ في توهمه . وإنما أراد الشافعي أن يبالغ في حشو القطن بين أليتيه حتى يبلغ الدبر من غير أن يدخله . وقد بين ذلك في الأم فقال حتى يبلغ الحلقة . قال بعض أصحابنا : ومما يدل على وهم المزني قول الشافعي : لرد شيء إن خرج . ولو كان مراده أن يدخل إلى داخل الدبر لقال يمنع من خروج شيء والله أعلم . قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله : ثم يشد أليتاه ويستوثق في ذلك بأن يأخذ خرقة ويشق رأسها ويجعل وسطها عند أليته وعانته ويشد فوق السرة بأن يرد ما يلي ظهره إلى سرته ، ويعطف الشقان الآخران عليه ، ولو شد شق من كل رأس على هذا الفخذ ومثله على الفخذ الآخر جاز ، وقيل يشد عليه بخيط ولا يشق طرفها والله أعلم . قال الشافعي والمصنف والأصحاب : ثم يأخذ شيئا من القطن ويضع عليه شيئا من الحنوط والكافور ، ويجعل على منافذ البدن من الأذنين والعينين والمنخرين والفم والجراحات النافذة دفعا للهوام ، ويجعل على قطن وكافور [ ص: 159 ] وترك على مواضع السجود ، وهي الجبهة والأنف ، وبطن الكفين ، والركبتان والقدمان ، هكذا قال المصنف والجمهور ، ونص عليه الشافعي في المختصر ، وفيه وجه حكاه الرافعي أنه يجعل الحنوط والكافور على نفس هذه المساجد بلا قطن ، وهو ضعيف وغريب .

                                      قال المصنف وغيره : قال الشافعي في المختصر والمصنف والأصحاب : ويستحب أن يحنط رأسه ولحيته بالكافور كما يفعل الحي إذا تطيب ، قال الشافعي ونقله المصنف والأصحاب : ولو حنط بالمسك فلا بأس لحديث أبي سعيد السابق . وروى البيهقي بإسناد حسن ، عن علي رضي الله عنه أنه كان عنده مسك فأوصى أن يحنط به وقال : هو من فضل حنوط رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي في ذلك عن ابن عمر وأنس رضي الله عنهم . قال المصنف : وهل يجب الحنوط والكافور أم لا ؟ فيه قولان : وقيل وجهان ( أحدهما ) : يجب لجريان العادة به ، فوجب كالكفن ( والثاني ) يستحب ولا يجب كما لا يجب الطيب للمفلس ، وإن وجبت كسوته .

                                      ( وقوله ) قولان : ، وقيل وجهان ، هذا من ورعه وإتقانه واعتنائه . فلم يجزم بقولين ولا وجهين : ، وسبب تردد المصنف رحمه الله في ذلك أن المحاملي قال في المجموع : ظاهر ما ذكره الشافعي في الأم والمختصر أنه واجب . وقال في موضع آخر : أنه مستحب . فالمسألة على قولين قال أصحابنا يحكون فيها وجهين : . وقال البندنيجي : قال الشافعي في الأم والقديم : كفن الميت وحنوطه ومؤنة تجهيزه من رأس ماله ليس لغرمائه ولا لورثته منع ذلك ، ثم قال الشافعي بعد هذا بسطرين : ولو لم يكن حنوط ولا كافور رجوت أن يجزئ . قال البندنيجي رحمه الله : واختلف أصحابنا في الطيب والحنوط على وجهين : . قال : والظاهر أنهما قولان : ، هذا كلامه ، والأصح أنه لا يجب ، صححه الغزالي وغيره . قال إمام الحرمين رحمه الله : ويجب القطع بهذا ، وقطع المتولي بأن الكافور لا يجب ، وإنما الوجهان في الحنوط ، وممن خص الوجهين : بالحنوط المحاملي والماوردي والغزالي ، وممن وافق المصنف في نقل الوجهين في الحنوط والكافور جميعا صاحبا المستظهري والبيان ، وسبقهم به البندنيجي كما ذكرناه .




                                      الخدمات العلمية