الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( فإن قدم المسافر وهو مفطر ، أو برأ المريض وهو مفطر ، استحب لهما إمساك بقية النهار لحرمة الوقت ، ولا يجب ذلك ; لأنهما أفطرا بعذر ، ولا يأكلان عند من لا يعرف عذرهما ; لخوف التهمة والعقوبة وإن قدم المسافر وهو صائم أو برأ المريض وهو صائم فهل لهما أن يفطرا ؟ فيه وجهان . قال أبو علي بن أبي هريرة : يجوز لهما الإفطار ; لأنه أبيح لهما الفطر من أول النهار ظاهرا وباطنا فجاز لهما الإفطار في بقية النهار ، كما لو دام السفر والمرض . وقال أبو إسحاق : لا يجوز لهما الإفطار ; لأنه زال سبب الرخصة قبل الترخص فلم يجز الترخص ، كما لو قدم المسافر وهو في الصلاة فإنه لا يجوز له القصر ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) فيه مسائل : ( إحداها ) [ إذا ] قدم المسافر أو برأ المريض وهما مفطران يستحب إمساك بقية يومه ولا يجب عندنا ، وأوجبه أبو حنيفة . دليلنا أنهما أفطرا بعذر .

                                      ( الثانية ) يستحب إذا أكلا أن لا يأكلا عند من يجهل عذرهما للعلة المذكورة .

                                      ( الثالثة ) إذا قدم المسافر وهو صائم هل له الفطر ؟ فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما : ( أحدهما ) نعم ، وبه قال ابن أبي هريرة ، ونقله الماوردي عن نصه في حرملة .

                                      ( وأصحهما ) عند القاضي أبي الطيب وجمهور الأصحاب لا يجوز ، وهو قول أبي إسحاق . وهكذا الحكم لو نوى المسافر الإقامة في بلد بحيث تنقطع رخصه ولو برأ المريض وهو صائم فطريقان ( أصحهما ) وبه قطع المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب وآخرون ، فيه الوجهان كالمسافر ( وأصحهما ) يحرم الفطر ( والثاني ) يجوز والطريق ( الثاني ) وبه قطع الفوراني وجماعة من الخراسانيين يحرم الفطر وجها واحدا . ( الرابعة ) لو قدم المسافر ولم يكن نوى من الليل صوما ولا أكل في نهاره قبل قدومه فطريقان ( أصحهما ) وبه قطع القاضي أبو الطيب في [ ص: 268 ] المجرد والدارمي والماوردي وآخرون . ونقله الماوردي عن نصه في الأم : له الأكل ; لأنه مفطر لعدم النية من الليل ، فجاز له الأكل كالمفطر بالأكل .

                                      ( والثاني ) حكاه الفوراني وغيره من الخراسانيين في وجوب الإمساك وجهان ( الصحيح ) لا يلزمه ( والثاني ) يلزمه حرمة لليوم .



                                      ( فرع ) لا يجوز للمسافر ولا للمريض أن يصوما في رمضان غيره من قضاء أو نذر أو كفارة أو تطوع ، فإن صام شيئا من ذلك لم يصح صومه لا عن رمضان ولا عما نوى ولا غيره . وهذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد وجمهور العلماء . وقال أبو حنيفة في المريض كقولنا ، وقال في المسافر : يصح ما نوى . دليلنا القياس على المريض .



                                      ( فرع ) إذا قدم المسافر في أثناء نهار [ رمضان ] وهو مفطر ، فوجد امرأته قد طهرت في أثناء النهار من حيض أو نفاس أو برأت من مرض وهي مفطرة فله وطؤها ولا كفارة عليه عندنا بلا خلاف ، وقال الأوزاعي : لا يجوز وطؤها . دليلنا أنهما مفطران فأشبه المسافرين والمريضين .



                                      ( فرع ) إذا دخل على الإنسان شهر رمضان وهو مقيم جاز له أن يسافر ويفطر هذا مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد والعلماء كافة إلا ما حكاه أصحابنا عن أبي مخلد التابعي أنه لا يسافر ، فإن سافر لزمه الصوم وحرم الفطر وعن عبيدة السلماني - بفتح العين - وسويد بن غفلة - بفتح الغين المعجمة والفاء - التابعين أنه لا يلزمه الصوم بقية الشهر ولا يمتنع السفر ; لقوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } دليلنا قوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } وفي الصحيحين { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة الفتح في رمضان مسافرا وأفطر } والآية التي احتجوا بها محمولة على من شهد كل الشهر في البلد ، وهو حقيقة الكلام ، فإن شهد بعضه لزم صوم ما شهد منه في البلد ، ولا بد من هذا التفسير للجمع بين الأدلة .



                                      [ ص: 269 ] فرع في مذاهب العلماء في السفر المجوز للفطر . ذكرنا أن مذهبنا أنه ثمانية وأربعون ميلا بالهاشمي ، وهذه المراحل مرحلتان قاصدتان وبهذا قال مالك وأحمد ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز إلا في سفر يبلغ ثلاثة أيام كما قال في القصر ، وقال قوم : يجوز كل سفر وإن قصر ، وسبقت هذه المذاهب بأدلتها في صلاة المسافر .



                                      فرع في مذاهبهم في جواز الصوم والفطر . مذهبنا جوازهما وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم . قال العبدري : وهو قول العلماء . وقالت الشيعة : لا يصح وعليه القضاء ، واختلف أصحاب داود الظاهري فقال : بعضهم يصح صومه ، وقال بعضهم : لا يصح ، وقال ابن المنذر : " كان ابن عمر وسعيد بن جبير يكرهان صوم المسافر " قال : وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : " إن صام قضاه " قال : وروي عن ابن عباس قال : " لا يجزئه الصيام " وعن عبد الرحمن بن عوف قال : " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " وحكى أصحابنا بطلان صوم المسافر عن أبي هريرة وأهل الظاهر والشيعة . واحتج هؤلاء بحديث جابر رضي الله عنه قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رجلا قد ظلل عليه ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : صائم . فقال ليس من البر الصوم في السفر } رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم { ليس البر أن تصوموا في السفر } وعن جابر أيضا { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب ، فقيل بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام ، فقال : أولئك العصاة ، أولئك العصاة } رواه مسلم . وعن أنس رضي الله عنه : قال { كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 270 ] في سفر أكثرنا ظلا صاحب الكساء ، فمنا من يقي الشمس بيده ، فسقط الصوام ، وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذهب المفطرون اليوم بالأجر } رواه البخاري ومسلم .

                                      وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته } رواه أحمد بن حنبل في مسنده وابن خزيمة في صحيحه . واحتج أصحابنا بحديث عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو قال للنبي صلى الله عليه وسلم : { أصوم في السفر ؟ قال : إن شئت فصم وإن شئت فأفطر } رواه البخاري ومسلم . وعن حمزة بن عمرو رضي الله عنه { أنه قال : يا رسول الله ، أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه } رواه مسلم . وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد ، ما فينا من صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة } رواه البخاري ومسلم . وعن أنس رضي الله عنه قال : { كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم } رواه البخاري ومسلم . وعن أبي سعيد الخدري وجابر رضي الله عنهما قالا : { سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصوم الصائم ويفطر المفطر ، ولا يعيب بعضهم على بعض } رواه مسلم .

                                      وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : { كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر ، فلا يجد الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم ، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن } رواه مسلم . وعن أبي سعيد أيضا قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من صام يوما في سبيل الله عز وجل باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا } رواه البخاري ومسلم . وعن [ ص: 271 ] ابن عباس رضي الله عنهما قال : { سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهارا ليراه الناس ، فأفطر حتى قدم مكة ، فكان ابن عباس يقول : صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر ، فمن شاء صام ومن شاء أفطر } رواه البخاري . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : { خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصمت وقصر وأتممت ، فقلت : بأبي وأمي أفطرت وصمت ، وقصرت وأتممت فقال : أحسنت يا عائشة } رواه الدارقطني ، وقال : إسناده حسن ، وقد سبق بيانه في صلاة المسافر ، وفي المسألة أحاديث كثيرة صحيحة سوى ما ذكرته . وأما الأحاديث التي احتج بها المخالفون ، فمحمولة على من يتضرر بالصوم ، وفي بعضها التصريح بذلك ، ولا بد من هذا التأويل ليجمع بين الأحاديث .

                                      ( وأما ) المنقول عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " فقال البيهقي : هو موقوف منقطع ، وروي مرفوعا وإسناده ضعيف ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) في مذاهبهم فيمن أطاق الصوم في السفر بلا ضرر ، هل الأفضل صومه رمضان ؟ أم فطره ؟ قد ذكرنا مذهبنا أن صومه أفضل وبه قال حذيفة بن اليمان وأنس بن مالك وعثمان بن أبي العاص رضي الله عنهم ، وعروة بن الزبير والأسود بن يزيد وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وسعيد بن جبير والنخعي والفضيل بن عياض ومالك وأبو حنيفة والثوري وعبد الله بن المبارك وأبو ثور وآخرون ، وقال ابن عباس وابن عمر وابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وعبد الملك بن الماجشون المالكي : الفطر أفضل ، وقال آخرون : هما سواء ، وقال مجاهد وعمر بن عبد العزيز وقتادة : الأفضل منهما هو الأيسر والأسهل عليه ، قال ابن المنذر : وبه أقول . [ ص: 272 ] واحتج لمن رجح الفطر بالأحاديث السابقة كقوله صلى الله عليه وسلم { ليس من البر الصوم في السفر } وقوله صلى الله عليه وسلم في الصائمين : { أولئك العصاة } وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ كراع الكديد } وهو - بفتح الكاف - ثم أفطر قال : وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره رواه البخاري ومسلم ، وحديث حمزة بن عمرو السابق { هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه } . واحتج أصحابنا بحديث أبي الدرداء السابق في صيام النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة وبحديث أبي سعيد السابق { كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فمنا الصائم ومنا المفطر } إلى آخره ، وهذان الحديثان هما المعتمد في المسألة ، وكذا حديث عائشة ( قصرت وأتممت ) في صيام النبي إلى آخره ، ( وأما ) الحديث المروي عن سلمة بن المحبق - بكسر الباء وفتحها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من كان في سفر على حمولة يأوي إلى شبع فليصم حيث أدركه رمضان } فهو حديث ضعيف رواه البيهقي وضعفه ، ونقل عن البخاري تضعيفه وأنه ليس بشيء وكذا الحديث المرفوع عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم { إن أفطرت فهو رخصة وإن صمت فهو أفضل } حديث منكر قاله البيهقي وإنما هو موقوف على أنس .

                                      ( والجواب ) عن الأحاديث التي احتج بها القائلون بفضل الفطر أنها محمولة على من يتضرر بالصوم ، وفي بعضها التصريح بذلك كما سبق ، ولا بد من هذا التأويل ليجمع بين الأحاديث ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية