الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وأما صوم التطوع فإنه يجوز بنية قبل الزوال ، وقال المزني : لا يجوز إلا بنية من الليل كالفرض ، والدليل على جوازه ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أصبح اليوم عندكم شيء تطعمون ؟ فقالت : لا ، فقال : إني إذن صائم } ويخالف الفرض ; لأن النفل أخف من الفرض ، والدليل عليه أنه يجوز ترك الصيام واستقبال القبلة في النفل مع القدرة ، ولا يجوز في الفرض ، وهل يجوز بنية بعد الزوال ؟ وفيه قولان : روى حرملة أنه يجوز ; لأنه جزء من النهار ، فجازت نية النفل فيه ، كالنصف الأول ( وقال ) في القديم والجديد : لا يجوز ; لأن النية لم تصحب معظم العبادة فأشبه إذا نوى مع غروب الشمس ، ويخالف النصف الأول ، فإن النية هناك صحبت معظم العبادة ومعظم الشيء يجوز أن يقوم مقام كل الشيء ، ولهذا لو أدرك معظم الركعة مع الإمام جعل مدركا للركعة ، ولو أدرك دون المعظم لم يجعل مدركا لها ، فإن صام التطوع بنية من النهار فهل يكون صائما من أول النهار أم من وقت النية ؟ فيه وجهان . قال أبو إسحاق : يكون صائما من وقت النية ، لأن ما قبل النية لم يوجد فيه قصد القربة ، فلم يجعل صائما فيه ، وقال أكثر أصحابنا : إنه صائم من أول النهار لأنه لو كان صائما من وقت النية لم يضره الأكل قبلها ) .

                                      [ ص: 306 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 306 ] الشرح ) حديث عائشة رضي الله عنها صحيح رواه مسلم ولفظه قالت : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم : يا عائشة ، هل عندكم شيء ؟ فقلت يا رسول الله ما عندنا شيء ، قال : فإني صائم } هذا لفظ مسلم ، وفي رواية النسائي قال صلى الله عليه وسلم : { إذن أصوم } ( وقوله ) صلى الله عليه وسلم : { إذن أصوم } معناه أبتدئ نية الصيام ، هذا مقتضاه ، وسأذكر باقي الأحاديث الواردة بمعناه في فرع مذاهب العلماء ، إن شاء الله تعالى .

                                      ( أما الأحكام ) فقال الشافعي والأصحاب : يصح صوم النفل بنية من النهار قبل الزوال ، وشذ عن الأصحاب المزني وأبو يحيى البلخي فقالا : لا يصح إلا بنية من الليل ، وهذا شاذ ضعيف ، ودليل المذهب والوجه في الكتاب ، وهل تصح بنية بعد الزوال ؟ فيه قولان ( أصحهما ) باتفاق الأصحاب ، وهو نصه في معظم كتبه الجديدة ، وفي القديم : لا يصح ونص في كتابين من الجديد على صحته ، نص عليه في حرملة ، وفي كتاب اختلاف علي وابن مسعود رضي الله عنهما وهو من جملة كتب الأم ، قال أصحابنا : وعلى هذا يصح في جميع ساعات النهار ، وفي آخر ساعة ، لكن يشترط أن لا يتصل غروب الشمس بالنية ، بل يبقى بينهما زمن ولو أدنى لحظة ، صرح به البندنيجي وغيره ، ثم إذا نوى قبل الزوال أو بعده وصححناه ، فهل هو صائم من وقت النية فقط ، ولا يحسب له ثواب ما قبله ؟ أم من طلوع الفجر ويثاب من طلوع الفجر ؟ فيه وجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما ( أصحهما ) عند الأصحاب من طلوع الفجر .

                                      ونقله المصنف والجمهور عن أكثر أصحابنا المتقدمين ، قال الماوردي والمحاملي في كتابيه المجموع والتجريد والمتولي : الوجه القائل : يثاب من حين النية ، هو قول أبي إسحاق المروزي ، واتفقوا على تضعيفه ، قال الماوردي والقاضي أبو الطيب في المجرد : هو غلط ; لأن الصوم لا يتبعض ، قالوا وقوله " لأنه لم يقصد العبادة قبل النية " لا أثر له ، فقد يدرك بعض العبادة ويثاب كالمسبوق يدرك الإمام راكعا فيحصل له ثواب جميع الركعة باتفاق الأصحاب وبهذا ردوا على أبي إسحاق ، والله أعلم .

                                      [ ص: 307 ] وقد سبق في باب نية الوضوء الفرق بين هذه المسألة ومن نوى الوضوء عند غسل الوجه ولم ينو قبله ، فإنه يثاب على المضمضة والاستنشاق وغسل الكفين ; لأن الوضوء ينفصل بعضه عن بعض ولو حذفت هذه المذكورات منه صح بخلاف الصوم ، والله أعلم ، قال أصحابنا : فإن قلنا : يثاب من طلوع الفجر ، اشترطت جميع شروط الصوم من أول النهار ، فإن كان أكل أو جامع أو فعل غير ذلك من المنافيات لم يصح صومه ، وإن قلنا : يثاب من أول النية ففي اشتراط خلو أول النهار عن الأكل والجماع وغيرهما وجهان مشهوران في الطريقتين ( أصحهما ) الاشتراط ، وبه قطع المصنف وآخرون وهو المنصوص ( والثاني ) لا يشترط ، فلو كان أكل أو جامع أو فعل غير ذلك من المنفيات ثم نوى صح صومه ويثاب من حين النية ، وهذا الوجه محكي عن أبي العباس بن سريج ، ومحمد بن جرير الطبري ، والشيخ أبي زيد المروزي .

                                      وحكاه أبو علي الطبري في الإفصاح والقاضي أبو الطيب في المجرد وجها مخرجا ، قالا : والمخرج له هو محمد بن جرير الطبري ، وحكاه المتولي : عن جماعة من الصحابة طلحة وأبي أيوب وأبي الدرداء وأبي هريرة رضي الله عنهم ، وما أظنه صحيحا عنهم ، فإن قلنا بالمذهب أن الإمساك من أول النهار شرط ، فلو كان أول النهار كافرا أو مجنونا أو حائضا ثم زال ذلك في أثناء النهار ونوى صوم التطوع ففي صحته وجهان مشهوران في كتب الخراسانيين ( أصحهما ) لا يصح صومه ، لأنه لم يكن أهلا للصوم ، والله تعالى أعلم ، قال الشيخ أبو محمد الجويني في السلسلة : الوجهان في وقت ثواب الصائم هنا ، مبنيان على القولين فيمن نذر صوم يوم قدوم زيد فقدم نحوه وهو صائم هل يجزئه عن نذره ؟ إن قلنا : يجزئه حصل له الثواب هنا من طلوع الفجر ، وإلا فمن وقت النية ، والله تعالى أعلم ، .




                                      الخدمات العلمية