الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن دخل في الصوم ونوى الخروج منه بطل صومه ، لأن النية شرط في جميعه ، فإذا قطعها في أثنائه بقي الباقي بغير نية فبطل ، وإذا بطل البعض بطل الجميع ، لأنه لم ينفرد بعضه عن بعض ، ومن أصحابنا من قال : لا يبطل ; لأنه عبادة تتعلق الكفارة بجنسها ، فلم تبطل بنية الخروج كالحج ، والأول أظهر ، لأن الحج لا يخرج منه بما يفسده ، والصوم يخرج منه بما يفسده فكان كالصلاة ) .

                                      [ ص: 315 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قوله وتتعلق الكفارة بجنسها احتراز من الصلاة ( وقوله ) يخرج من الصوم بما يفسده ولا يخرج من الحج بما يفسده معناه أنه إذا أبطل الصوم بالأكل أو غيره صار خارجا منه ، فلو جامع بعده في هذا اليوم لا كفارة عليه ، وإن كان آثما بهذا الجماع لأنه كان [ ص: 313 ] يجب عليه إمساك بقية النهار ، ولكن وجوب الإمساك لحرمة اليوم ، والكفارة إنما تجب على من أفسد الصوم بالجماع ، وهذا لم يفسد بجماعه صوما .

                                      ( وأما ) الحج فإذا أفسد بالجماع لم يخرج منه بالإفساد ، بل حكم إحرامه باق وإن كان عليه القضاء ، فلو قتل بعد صيدا أو تطيب أو لبس أو فعل غير ذلك من محظورات الإحرام لزمته الفدية ، لكونه لم يخرج منه ، بل هو محرم كما كان فهذا مراد المصنف بالفرق بينهما ، وهما مفترقان في الخروج وعدمه ، ومتفقان في وجوب المضي في فاسدهما ، ( وأما حكم المسألة ) فإذا دخل في صوم ثم نوى قطعه ، فهل يبطل ؟ فيه وجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما ( أصحهما ) عند المصنف والبغوي وآخرين بطلانه ( وأصحهما ) عند الأكثرين : لا يبطل ، وقد سبق بيانه في أوائل باب صفة الصلاة ، وذكرنا هناك ما يبطل بنية الخروج ، وما لا يبطل ، وما اختلفوا فيه ، وسبق أيضا في باب نية الوضوء ، هذا إذا جزم بنية الخروج في الحال فلو تردد في الخروج منه أو علق الخروج على دخول زيد مثلا ، فالمذهب - وبه قطع الأكثرون - لا يبطل وجها واحدا ، ( والثاني ) على الوجهين فيمن جزم بالخروج ، فإن قلنا في التعليق : إنه لا يبطل فدخل زيد في أثناء النهار هل يبطل ؟ فيه وجهان ( الصحيح ) لا يبطل حكاهما جماعة منهم البغوي في باب صفة الصلاة ، وجزم الماوردي بأنه لو نوى أنه سيفطر بعد ساعة لم يبطل صومه ، ومتى نوى الخروج من الصوم بأكل أو جماع ونحوهما وقلنا : إنه يبطل ، فالمشهور بطلانه في الحال ، وحكى الماوردي وجهين ( أحدهما ) هذا ( والثاني ) لا يبطل حتى يمضي زمان إمكان الأكل والجماع وهذا غريب ضعيف ، والله أعلم .

                                      ولو كان صائما عن نذر فنوى قلبه إلى كفارة أو عكسه ، قال إمام الحرمين والمتولي والأصحاب : لا يحصل له الذي انتقل إليه بلا [ ص: 314 ] خلاف ، وأما الذي كان فيه ، فإن قلنا : إن نية الخروج لا تبطله بقي على ما كان ولا أثر لما جرى ، وإن قلنا : تبطله ، فهل يبطل ؟ أم ينقلب نفلا ؟ فيه خلاف كما سبق في نظائره ، فيمن نوى قلب صلاة الظهر عصرا وشبهه . وقد سبق إيضاح هذا وأشباهه في أول صفة الصلاة ، قال المتولي وغيره : وهذا الوجه في انقلابه نفلا هو فيما إذا كان في غير رمضان ، وإلا فرمضان لا يقع فيه نفل أصلا كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .



                                      فرع في مسائل تتعلق بنية الصوم : ( إحداها ) إذا نوت الحائض صوم الغد قبل انقطاع دم حيضها ثم انقطع في الليل ، قال المتولي والبغوي وآخرون من أصحابنا : إن كانت مبتدأة يتم لها في الليل أكثر الحيض ، أو معتادة عادتها أكثر الحيض ، وهي تتم في الليل صح صومها بلا خلاف ، لأنا نقطع بأن نهارها كله طهر ، وإن كانت عادتها دون أكثره ويتم بالليل فوجهان ( أصحهما ) تصح نيتها وصومها ; لأن الظاهر استمرار عادتها ، فقد بنت نيتها على أصل ، وإن لم يكن لها عادة أو كانت ولا يتم أكثر الحيض في الليل ، أو كانت لها عادات مختلفة لم يصح ، لأنها لم تجزم ولا بنت على أصل ولا أمارة ، .



                                      ( الثانية ) قال المتولي : لو تسحر ليقوى على الصوم أو عزم في أول الليل أن يتسحر في آخره ليقوى على الصوم لم يكن هذا نية ; لأنه لم يوجد قصد الشروع في العبادة ، وقال الرافعي : قال القاضي أبو المكارم في العدة : لو قال في الليل : أتسحر لأقوى على الصوم ، لم يكف هذا في النية ، قال : ونقل بعضهم عن نوادر الأحكام لأبي العباس الروياني أنه لو قال : أتسحر للصوم أو أشرب لدفع العطش نهارا أو امتنع من الأكل والشرب والجماع مخافة الفجر كان ذلك نية للصوم ، قال الرافعي : وهذا هو الحق إن خطر بباله الصوم بالصفات المعتبرة ، لأنه إذا تسحر ليصوم صوم كذا فقد قصده ، .



                                      [ ص: 315 ] ( الثالثة ) لو عقب النية بقوله : إن شاء الله بقلبه أو بلسانه ، فإن قصد التبرك أو وقوع الصوم وبقاء الحياة إلى تمامه بمشيئة الله تعالى لم يضره ، وإن قصد تعليقه والشك لم يصح صومه هذا هو المذهب ، وبه قطع المحققون منهم المتولي والرافعي وقال الماوردي : إن قال : أصوم غدا إن شاء زيد ، لم يصح صومه وإن شاء زيد ، لأنه لم يجزم النية ، وإن قال : إن شاء الله تعالى فوجهان ( الصحيح ) لا يصح صومه كقوله : إن شاء زيد ; لأنه استثناء وشأنه أن يوقع ما نطق به ( والثاني ) يصح صومه هذا كلام الماوردي ، وجمع صاحب البيان كلام الأصحاب في المسألة فقال : لو قال : أصوم غدا إن شاء الله تعالى ، فثلاثة أوجه : ( أحدها ) وهو قول القاضي أبو الطيب يصح ، لأن الأمور بمشيئة الله تعالى .

                                      ( والثاني ) لا يصح ، وهو قول الصيمري لأن الاستثناء يبطل حكم ما اتصل به .

                                      ( والثالث ) وهو قول ابن الصباغ : إن قصد الشك في فعله لم يصح ، وإن قصد أن ذلك موقوف على مشيئة الله وتوفيقه وتمكينه صح ، وهذا هو الصحيح وهو التفصيل السابق ، .



                                      ( الرابعة ) إذا نسي نية الصوم في رمضان حتى مطلع الفجر لم يصح صومه بلا خلاف عندنا ، لأن شرط النية الليل ، ويلزمه إمساك النهار ، ويجب قضاؤه ; لأنه لم يصمه ، ويستحب أن ينوي في أول نهاره الصوم عن رمضان ، لأن ذلك يجزئ عند أبي حنيفة فيحتاط بالنية .



                                      ( الخامسة ) إذا نوى وشك ، هل كانت نيته قبل الفجر أو بعده ؟ فقد قطع الصيمري وصاحبه الماوردي وصاحب البيان بأنه لا يصح صومه ; لأن الأصل عدم النية ، ويحتمل أن يجيء فيه وجه ، لأن الأصل بقاء الليل ، كمن شك هل أدرك ركوع الإمام أم لا ؟ فإن في حصول الركعة له خلافا سبق في موضعه ، الأصح أنها لا تحصل ، ولو نوى ثم شك هل طلع الفجر أم لا ؟ أجزأه وصح صومه بلا خلاف ، صرح به صاحب البيان ، قال هو والصيمري : ولو أصبح شاكا في أنه نوى أم لا ؟ لم يصح صومه .



                                      ( السادسة ) قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى : يتعين رمضان لصوم رمضان ، فلا يصح فيه غيره ، فلو نوى فيه الحاضر [ ص: 316 ] أو المسافر أو المريض صوم كفارة أو نذر أو قضاء أو تطوع أو أطلق نية الصوم لم تصح نيته ، ولا يصح صومه ، لا عما نواه ، ولا عن رمضان ، هكذا نص عليه وقطع به الأصحاب في الطرق إلا إمام الحرمين ، فقال : لو أصبح في يوم من رمضان غير ناو ، فنوى التطوع قبل الزوال ، قال الجماهير : لا يصح . وقال أبو إسحاق المروزي : يصح ، قال الإمام : فعلى قياسه يجوز للمسافر التطوع به والمذهب ما سبق ، واحتج له المتولي أن التشبه بالصائمين واجب عليه ، فلا ينعقد جنس تلك العبادة مع قيام فرض التشبه ، كما لو أفسد الحج ثم أراد أن يحرم إحراما آخر صحيحا لم ينعقد ; لأنه يلزم المضي في فاسده ، والله أعلم .



                                      ( السابعة ) قال المتولي في آخر المسألة السادسة من مسائل النية : لو نوى في الليل ثم قطع النية قبل الفجر سقط حكمها ; لأن ترك النية ضد للنية بخلاف ما لو أكل بعد النية لا تبطل ، لأن الأكل ليس ضدها .



                                      ( الثامنة ) قال المتولي : لو نوى صوم القضاء والكفارة بعد الفجر ، فإن كان في رمضان لم ينعقد له صوم أصلا ، لأن رمضان لا يقبل غيره كما سبق ، ولم ينو رمضان من الليل ، وإن كان في غير رمضان لم ينعقد القضاء والكفارة ; لأن شرطهما نية الليل ، وهل ينعقد نفلا ؟ فيه وجهان بناء على القولين فيمن نوى الظهر قبل الزوال ، وقد سبقت المسألة مع نظائرها في أول صفة الصلاة .



                                      ( التاسعة ) قال الصيمري وصاحب البيان حكاية عنه : لو علم أن عليه صوما واجبا لا يدري هل هو من رمضان ؟ أو نذر أو كفارة ، فنوى صوما واجبا أجزأه ، كمن نسي صلاة من الخمس لا يعرف عينها ، فإنه يصلي الخمس ويجزئه عما عليه ويعذر في عدم جزم النية للضرورة .



                                      ( العاشرة ) قال الصيمري وصاحب البيان حكاية عنه : لو قال : أصوم غدا إن شاء زيد أو نشطت لم تصح لعدم الجزم ، وإن قال : [ ص: 317 ] ما كنت صحيحا مقيما أجزأه ، لأنه يجوز له الفطر لو مرض أو سافر قبل الفجر .



                                      ( الحادية عشرة ) لو شك في نهار رمضان ، هل نوى من الليل ؟ ثم تذكر بعد مضي أكثر النهار أنه نوى ، صح صومه بلا خلاف ، صرح به القاضي حسين في الفتاوى والبغوي وآخرون ، وقاسه البغوي على ما لو شك المصلي في النية ثم تذكر قبل إحداث ركن .



                                      ( الثانية عشرة ) إذا كان عليه قضاء اليوم الأول من رمضان فصام ونوى قضاء اليوم الثاني ، ففي إجزائه وجهان مشهوران ، حكاهما البغوي وآخرون ، وجزم المتولي بأنه لا يجزئ ، قال : وكذا لو كان عليه قضاء يوم من رمضان سنة فنوى قضاءه من صوم [ أيام ] أخرى غلطا لا يجزئه ، كما لو كان عليه كفارة قتل قتل فأعتق بنية كفارة ظهار لا يجزئه ، وإن كان لو أطلق النية عن واجبه في الموضعين أجزأه ، وقد ذكر المصنف هذه المسألة في آخر هذا الباب ، لكنه ذكر الوجهين احتمالين له ، فكأنه لم ير النقل فيها .



                                      ( الثالثة عشرة ) في مسائل جمعها الدارمي هنا مما يتعلق بالنية على شك ، وذكر المسائل السابقة قريبا إذا نوى يوم الثلاثين من شعبان أو الثلاثين من رمضان صوم الغد فحكمه ما سبق ، قال : ولو كان متطهرا وشك في الحدث فتوضأ وقال : إن كنت محدثا فهذا لرفعه وإلا فتبرد لم يجزئه ، ولو تيقن الحدث وشك في الطهارة فقال ذلك أجزأه عملا بالأصل في المسألتين ، ولو شك في دخول وقت صلاة فنوى إن كانت دخلت فعنها وإلا فنافلة لم يجزئه ، وإن كان عليه صلاة وشك في أدائها فقال : أصلي عنها إن كانت وإلا فنافلة فكانت أجزأه ، ولو قال : نويتها إن كانت أو نافلة لم يجزئه إن كانت كما سبق نظيره في الصوم . ولو أخرج دراهم ونوى : هذه زكاة مالي إن كنت كسبت نصابا أو نافلة ، أو قال : وإلا فهي نافلة لم يجزئه في الحالين ، لأن الأصل عدم الكسب ، ولو أحرم في يوم الثلاثين من رمضان وهو شاك فقال : إن كان من رمضان فإحرامي بعمرة ، [ ص: 318 ] وإن كان من شوال فهو حج ، فكان من شوال كان حجا صحيحا ، ولو أحرم بالصلاة في آخر وقت الجمعة فقال : إن كان وقت الجمعة باقيا فجمعة وإلا فظهر ، فبان بقاؤه ففي صحة الجمعة وجهان ، والله أعلم .



                                      فرع في مذاهب العلماء في نية الصوم . مذهبنا أنه لا يصح صوم إلا بنية ، سواء الصوم الواجب من رمضان وغيره والتطوع ، وبه قال العلماء كافة إلا عطاء ومجاهدا وزفر فإنهم قالوا : إن كان الصوم متعينا بأن يكون صحيحا مقيما في شهر رمضان فلا يفتقر إلى نية ، قال الماوردي : فأما صوم النذر والكفارة فيشترط له النية بإجماع المسلمين ، واحتج لعطاء وموافقيه بأن رمضان مستحق الصوم يمنع غيره من الوقوع فيه فلم يفتقر إلى نية ، واحتج أصحابنا بحديث { إنما الأعمال بالنيات } وبحديث حفصة السابق ، وقياسا على الصلاة والحج ، ولأن الصوم هو الإمساك لغة وشرعا ، ولا يتميز الشرعي عن اللغوي إلا بالنية فوجب التمييز .

                                      ( والجواب ) عما ذكروه أنه منتقض بالصلاة إذا لم يبق من وقتها إلا قدر الفرض فإن هذا الزمان مستحق لفعلها ، ويمنع من إيقاع غيرها فيه ، وتجب فيها النية بالإجماع ، وقد يجيبون عن هذا بأن ذلك الزمان وإن كان لا يجوز فيه صلاة أخرى لكن لو فعلت انعقدت ، وقد ينازع في انعقادها ; لأنها محرمة ، وقد سبق أن الصلاة التي لا سبب لها لو فعلت في وقت النهي لا تنعقد على الأصح ، والله تعالى أعلم .



                                      فرع في مذاهبهم في نية صوم رمضان ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يصح إلا بالنية من الليل ، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وداود وجماهير العلماء من السلف والخلف ، وقال [ ص: 319 ] أبو حنيفة : يصح بنية قبل الزوال قال : وكذا النذر المعين ووافقنا على صوم القضاء والكفارة أنهما لا يصحان إلا بنية من الليل ، واحتج له بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم { بعث يوم عاشوراء إلى أهل العوالي وهي القرى التي حول المدينة أن يصوموا يومهم ذلك } قالوا : وكان صوم عاشوراء واجبا - ثم نسخ - وقياسا على صوم النفل ، واحتج أصحابنا بحديث حفصة وحديث عائشة رضي الله عنهما { لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل } وهما صحيحان سبق بيانهما ، وبالقياس على صوم الكفارة والقضاء ، وأجاب أصحابنا عن حديث عاشوراء بجوابين ( أحدهما ) أنه لم يكن واجبا وإنما كان تطوعا متأكدا شديد التأكيد . وهذا هو الصحيح عند أصحابنا ( والثاني ) أنه لو سلمنا أنه كان فرضا فكان ابتداء فرضه عليهم من حين بلغهم ولم يخاطبوا بما قبله كأهل قباء في استقبال الكعبة فإن استقبالها بلغهم في أثناء الصلاة فاستداروا وهم فيها من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة وأجزأتهم صلاتهم ، حيث لم يبلغهم الحكم إلا حينئذ ، وإن كان الحكم باستقبال الكعبة قد سبق قبل هذا في حق غيرهم ، ويصير هذا كمن أصبح بلا نية ثم نذر في أثناء النهار صوم ذلك اليوم ، وأجاب الماوردي بجواب ثالث وهو أنه لو كان عاشوراء واجبا فقد نسخ بإجماع العلماء ، وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب ، وإذا نسخ حكم شيء لم يجز أن يلحق به غيره ، وأما الجواب عن قياسهم على التطوع فالفرق ظاهر ، لأن التطوع مبني على التخفيف ولأنه ثبت الحديث الصحيح فيه وثبت حديث حفصة وعائشة رضي الله عنهما فوجب الجمع بين ذلك كله ، وهو حاصل بما ذكرناه أن حديث التبييت في الصوم الواجب وغيره في صوم التطوع ، والله أعلم .



                                      فرع في مذاهبهم في النية لكل يوم من كل صوم مذهبنا أن كل يوم يفتقر إلى نية ، سواء نية صوم رمضان والقضاء والكفارة والنذر والتطوع ، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق [ ص: 320 ] بن راهويه وداود وابن المنذر والجمهور ، وقال مالك : إذا نوى في أول ليلة من رمضان صوم جميعه كفاه لجميعه ، ولا يحتاج إلى النية لكل يوم ، وعن أحمد وإسحاق روايتان ( أصحهما ) كمذهبنا ( والثانية ) كمالك ، واحتج لمالك بأنه عبادة واحدة فكفته نية واحدة ، كالحج وركعات الصلاة ، واحتج أصحابنا بأن كل يوم عبادة مستقلة لا يرتبط بعضه ببعض ولا يفسد بفساد بعض ، بخلاف الحج وركعات الصلاة .



                                      فرع في مذاهبهم في تعيين النية مذهبنا أن صوم رمضان وغيره من الصوم الواجب لا يصح إلا بتعيين النية ، وفي اشتراط نية الفريضة وجهان ( أصحهما ) لا يشترط ، وبه قال أبو علي بن أبي هريرة ( والثاني ) يشترط ، قال أبو إسحاق المروزي ، وبوجوب التعيين قال مالك وأحمد وإسحاق وداود والجمهور ، وأوجب هؤلاء الأربعة نية الفريضة ، وقال أبو حنيفة : لا يجب تعيين النية في صوم رمضان ، فلو نوى فيه صوما واجبا أو صوما مطلقا أو تطوعا وقع عن رمضان إن كان مقيما ، وكذا صوم النذر المتعين في زمان معين قال : فلو كان مسافرا ونوى فرضا آخر وقع عن ذلك الفرض ، وإن نوى تطوعا فهل يقع تطوعا كما نوى ؟ أم يقع عن رمضان ؟ فيه روايتان ، واحتج أبو حنيفة بالقياس على الحج ، واحتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم : { وإنما لكل امرئ ما نوى } وبالقياس على صوم القضاء ، وأجابوا عن الحج بأن مبناه على التوسعة ، ولهذا لا يخرج منه بالإفساد ويصح تعليقه على إحرام كإحرام غيره ، والله أعلم .



                                      [ ص: 321 ] فرع في مذاهبهم فيمن أصبح في رمضان بلا نية ثم جامع قبل الزوال قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد والجمهور : لا كفارة عليه لكن يأثم ، وقال أبو يوسف : عليه كفارة ، قال : ولو جامع بعد الزوال فلا كفارة والأكل عنده كالجماع في هذا ، قال : لأن صومه قبل الزوال مراعى ، حتى لو نواه صح عنده فإذا أكل أو جامع فقد أسقط المراعاة ، فكأنه أفسد الصوم بخلاف ما بعد الزوال فإنه لا يصح نية رمضان فيه بالإجماع ، ودليلنا أن الكفارة تجب لإفساد الصوم بالجماع ، وهذا ليس بصائم .



                                      فرع في مذاهبهم في نية صوم التطوع ذكرنا أن مذهبنا صحته بنية قبل الزوال ، وبه قال علي بن أبي طالب وابن مسعود وحذيفة بن اليمان وطلحة وأبو أيوب الأنصاري وابن عباس وأبو حنيفة وأحمد وآخرون ، وقال ابن عمر وأبو الشعثاء جابر بن زيد التابعي ومالك وزفر وداود لا يصح إلا بنية من الليل ، وبه قال المزني وأبو يحيى البلخي من أصحابنا ، ونقل ابن المنذر عن مالك أنه استثنى من يسرد الصوم فصحح نيته في النهار ، واحتج لهم بعموم حديثي عائشة وحفصة { لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل } ، واحتج أصحابنا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت : { دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : هل عندكم شيء ؟ قلنا : لا ، قال : فإني إذن صائم } رواه مسلم . وفي رواية قال : { إذن أصوم } رواه البيهقي ، وقال : هذا إسناد صحيح والجواب عن حديث تبييت النية أنه عام فنخصه بما ذكرناه جمعا بين الأحاديث وروى الشافعي والبيهقي بالإسناد الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه أنه بدا له الصوم بعد ما زالت الشمس فصام ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية