الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويستحب طلب ليلة القدر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه } ويطلب ذلك في ليالي الوتر من العشر الأخير من شهر رمضان لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { التمسوها في العشر الأخير في كل وتر } . قال الشافعي رحمه الله تعالى : والذي يشبه أن يكون ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين ، والدليل عليه ما روى أبو سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أريت هذه الليلة ثم أنسيتها ، ورأيتني أسجد في صبيحتها في ماء وطين ، قال أبو سعيد : فانصرف علينا وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين في صبيحة يوم إحدى وعشرين } وروى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني أسجد في ماء وطين فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أثر الماء والطين على جبهته } قال الشافعي : ولا أحب ترك طلبها فيها كلها ، قال أصحابنا : إذا قال لامرأته : أنت طالق ليلة القدر ، فإن كان في رمضان قبل مضي ليلة من ليالي العشر حكم بالطلاق من الليلة الأخيرة من الشهر ، وإن كان قد مضت ليلة وقع الطلاق في السنة الثانية في مثل تلك الليلة التي قال فيها ذلك ، والمستحب أن يقول فيها : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني ، لما روي { أن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ماذا أقول ؟ قال تقولين : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني } ) .

                                      [ ص: 488 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 488 ] الشرح ) حديث أبي هريرة وأبي سعيد الأول ، وحديثه الثاني رواها كلها البخاري ومسلم ، وحديث عبد الله بن أنيس رواه مسلم ، وهو أنيس - بضم الهمزة - وحديث عائشة رواه أحمد بن حنبل والترمذي والنسائي وابن ماجه وآخرون ، قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح ، وسيأتي فرع مستقل في ذكر جملة من الأحاديث الصحيحة الواردة في ليلة القدر إن شاء الله تعالى ، ومعنى قيامها إيمانا أي تصديقا بأنها حق وطاعة ، واحتسابا أي طلبا لرضى الله تعالى وثوابه لا للرياء ونحوه ، وسبق في مسألة صوم يوم عرفة بيان الذنوب التي تغفر وبيان الأحاديث الصحيحة في ذلك ، الواردة فيه .

                                      ( أما أحكام الفصل ) ففيه مسائل : ( إحداها ) ليلة القدر فاضلة ، قال الله تعالى : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } إلى آخر السورة ، قال أصحابنا وغيرهم : وهي أفضل ليالي السنة ، قالوا : وقول الله تعالى { ليلة القدر خير من ألف شهر } معناه خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، قال أصحابنا : لو قال لزوجته : أنت طالق في أفضل ليالي السنة طلقت ليلة القدر ويكون كمن قال : أنت طالق ليلة القدر ، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى .

                                      ( الثانية ) ليلة القدر مختصة بهذه الأمة زادها الله شرفا ، فلم تكن لمن قبلها وسميت ليلة القدر أي ليلة الحكم والفصل ، هذا هو الصحيح المشهور ، قال الماوردي وابن الصباغ وآخرون ( وقيل ) لعظم قدرها . قال أصحابنا كلهم : وهي التي ( { فيها يفرق كل أمر حكيم } ) هذا هو الصواب ، وبه قال جمهور العلماء ، وقال بعض المفسرين هي ليلة نصف شعبان ، وهذا خطأ ; لقوله تعالى { إنا أنزلناه في ليلة مباركة ، إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم } وقال تعالى { إنا أنزلناه في ليلة القدر } فهذا بيان الآية الأولى ، ومعناه أنه [ ص: 489 ] يكتب للملائكة فيها ما يعمل في تلك السنة ، ويبين لهم ما يكون فيها من الأرزاق والآجال وغير ذلك مما سيقع في تلك السنة ، ويأمرهم الله تعالى بفعل ما هو من وظيفتهم ، وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وتقديره له ، وهذا الذي ذكرناه أولا من كون ليلة القدر مختصة بهذه الأمة ولم تكن لمن قبلها هو الصحيح المشهور الذي قطع به أصحابنا كلهم ، وجماهير العلماء ، وقال صاحب العدة من أصحابنا : اختلف الناس هل كانت ليلة القدر للأمم السالفة ، قال : والأصح أنها لم تكن إلا لهذه الأمة ، ثم استدل بالحديث المشهور في سبب نزول السورة .

                                      ( الثالثة ) ليلة القدر باقية إلى يوم القيامة ، ويستحب طلبها والاجتهاد في إدراكها . وقد سبق في آخر الباب الذي قبل هذا { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في طلبها في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيره وأنه كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأخير أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر } وهذان الحديثان في الصحيحين ومذهب الشافعي وجمهور أصحابنا أنها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان مبهمة علينا ، ولكنها في ليلة معينة في نفس الأمر لا تنتقل عنها ولا تزال في تلك الليلة إلى يوم القيامة ، وكل ليالي العشر الأواخر محتملة لها لكن ليالي الوتر أرجاها وأرجى الوتر عند الشافعي ليلة الحادي والعشرين ، ومال الشافعي في موضع إلى ثلاثة وعشرين .

                                      وقال البندنيجي : مذهب الشافعي أن أرجاها عنده ليلة إحدى وعشرين : وقال في القديم : ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين فهما أرجى لياليها عنده وبعدهما ليلة سبع وعشرين ، هذا هو المشهور في المذهب أنها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان ، وقال إمامان جليلان من أصحابنا ، وهما المزني وصاحبه أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة : إنها متنقلة في ليالي العشر ، تنتقل في بعض السنين إلى ليلة وفي بعضها إلى غيرها جمعا بين الأحاديث ، وهذا هو الظاهر المختار ، لتعارض الأحاديث الصحيحة في ذلك كما سنوضحه إن شاء الله تعالى ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها . [ ص: 490 ] قال المحاملي في التجريد وصاحب التنبيه وغيرهما : تطلب في جميع شهر رمضان وحكاه الغزالي في الوجيز وجها ، وادعى المحاملي أنه مذهب الشافعي فقال في كتابه التجريد : مذهب الشافعي أن ليلة القدر تلتمس في جميع شهر رمضان ، وآكده العشر الأواخر منه وآكد العشر ليالي الوتر ، هذا لفظه في التجريد ، وسيأتي في الأحاديث ما يدل لها وما يدل لقول جمهور الأصحاب إن شاء الله تعالى ، قال أصحابنا : وصفة هذه الليلة وعلامتها أنها ليلة طلقة لا حارة ولا باردة ، وأن الشمس تطلع صبيحتها بيضاء ليس لها كثير شعاع وفيها حديث بهذه الصفة ، سنذكره إن شاء الله تعالى .

                                      ( فإن قيل ) : فأي فائدة لمعرفة صفتها بعد فواتها ، فإنها تنقضي بمطلع الفجر ؟ ( فالجواب ) من وجهين : ( أحدهما ) أنه يستحب أن يكون اجتهاده في يومها الذي بعدها كاجتهاده فيها كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى .

                                      ( والثاني ) أن المشهور في المذهب أنها لا تنتقل ، فإذا عرفت ليلتها في سنة انتفع به في الاجتهاد فيها في السنة الآتية وما بعدها .

                                      ( الرابعة ) يسن الإكثار من الصلاة فيها والدعاء والاجتهاد في ذلك وغيره من العبادات فيها ; لقوله صلى الله عليه وسلم : { من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه } ; ولحديث عائشة في الدعاء وهما صحيحان سبق ، بيانهما ويستحب الدعاء فيها بما في حديث عائشة كما ذكره المصنف والأصحاب ، ويستحب إحياؤها بالعبادة إلى مطلع الفجر ، قال الله تعالى : { سلام هي حتى مطلع الفجر } قال أصحابنا : معناه أنها سلام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ، كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى . قال الروياني في البحر : قال الشافعي في القديم : من شهد العشاء والفجر ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها ، قال الروياني : قال الشافعي في القديم : أستحب أن يكون اجتهاده في يومها كاجتهاده في [ ص: 491 ] ليلتها ، هذا نص في القديم ولا يعرف له في الجديد نص يخالفه ، وقد قدمنا في مقدمة الشرح أن ما نص عليه في القديم ولم يتعرض له في الجديد بما يخالفه ولا بما يوافقه فهو مذهبه بلا خلاف ، والله أعلم . .



                                      ( الخامسة ) قال أصحابنا : إذا قال لزوجته : أنت طالق ليلة القدر ، أو لعبده : أنت حر ليلة القدر ، فإن قاله قبل رمضان أو فيه قبل انقضاء ليلة الحادي والعشرين من رمضان طلقت المرأة وعتق العبد في أول جزء من الليلة الأخيرة من الشهر ; لأنه قد مرت عليهما ليلة القدر ، في إحدى ليالي العشر ، وإن قال ذلك بعد مضي ليالي العشر طلقت وعتق العبد في السنة الثانية في أول جزء من الليلة التي قبل تمامه ، سواء أكان قاله في الليل أم في النهار ، لأنه قد مرت بهما ليلة القدر ، هكذا تحقيق المسألة ، وهكذا صرح بها المحققون . وأما قول المصنف ومن وافقه : طلقت في مثل تلك الليلة من السنة الثانية ، ففيه تساهل ; لأنه يتأخر الطلاق ليلة عن محل وقوعه : وكذا قول صاحب التتمة ومن وافقه أنه إن قاله قبل مضي شيء من العشر الأواخر عتق وطلقت في آخر يوم . هذا ليس بصحيح ; لأنه لا يتوقف إلى آخر يوم ، بل يقع في أول جزء من الليلة الأخيرة ، ولأنه يصدق عليه أنه وقع في ليلة القدر . وقد قال أصحابنا : لو قال : أنت طالق يوم الجمعة أو ليلة الجمعة ، طلقت في أول جزء من ذلك لوجود الاسم ، ومثل قول صاحب التتمة قول الرافعي : طلقت بانقضاء ليالي العشر ، وهو تساهل أيضا ، وصوابه أو جزء من الليلة الأخيرة ، هكذا نقل المصنف المسألة عن الأصحاب ، ووافقه الجمهور على هذا التفصيل ، وهو تفريع منهم على المذهب المشهور أن ليلة القدر معينة في العشر الأواخر لا تنتقل بل هي في ليلة بعينها كل سنة .

                                      وقال القاضي أبو الطيب في المجرد ، وصاحب الشامل وغيرهما : إن علق الطلاق والعتق قبل مضي ليلة من العشر الأواخر من رمضان طلقت في أول الليلة الأخيرة من رمضان وعتق ، وإن علقه بعد مضي ليلة من العشر الأواخر لم يقع الطلاق والعتق إلا في الليلة الأخيرة من رمضان في السنة الثانية ، وهذا صحيح على القول بانتقالها لاحتمال [ ص: 492 ] أنها كانت في السنة الأولى في الليلة الماضية ، وتكون في السنة الثانية في الليلة الأخيرة ، وكأن القاضي أبا الطيب وموافقيه فرعوا على انتقالها مع أن المذهب عندهم تعيينها ، ويحتمل أنهم قالوا ذلك مطلقا ، سواء قلنا : تتعين أو تنتقل ; لأنه ليس على تعيينها دليل قاطع ، فلا يقع الطلاق والعتق بالشك . وهذا الاحتمال يحتمل في كلام غير صاحب الشامل ، وأما هو فقال : لا يقع الطلاق إلا في آخر الشهر لجواز اختلافها ، ويمكن تأويل كلامه أيضا . وأما الغزالي فقال في الوسيط : قال الشافعي : " لو قال لزوجته في منتصف رمضان : أنت طالق ليلة القدر ، لم تطلق حتى تمضي سنة ; لأن الطلاق لا يقع بالشك " قال الرافعي وغيره : لا نعرف اعتبار مضي سنة في هذه المسألة إلا في كتب الغزالي وقوله : الطلاق لا يقع بالشك ، مسلم ولكنه يقع بالظن الغالب .

                                      قال إمام الحرمين - رحمه الله - في هذه المسألة : " الشافعي - رحمه الله - متردد في ليالي العشر ، ويميل إلى بعضها ميلا لطيفا " قال : وانحصارها في العشر ثابت عنده بالظن القوي ، وإن لم يكن مقطوعا ، قال : والطلاق يناط وقوعه بالمذاهب المظنونة ، هذا كلام الإمام وهذا الذي نسبه الرافعي وموافقه إلى الغزالي من الانفراد بما قاله ليس كما قالوه بل هو موافق لما قدمناه عن المحاملي وصاحب التنبيه أنه يطلب ليلة القدر في جميع رمضان ، ولكن المذهب ما سبق عن الجمهور في مسألة الطلاق والعتق ، وهو تفريع على المذهب في انحصارها في العشر الأواخر ، وتعينها في ليلة . .



                                      ( فرع ) ذكر الشافعي والأصحاب هنا تفسيرا مختصرا لسورة ليلة القدر ، ومن أحسنهم له ذكرا القاضي أبو الطيب في المجرد . قالوا : قوله تعالى { إنا أنزلناه } أي القرآن ، فعاد الضمير إلى معلوم معهود قالوا : أنزل الله تعالى القرآن ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة واحدة ، ثم أنزله من السماء الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم نجوما آية وآيتين والآيات والسورة على ما علم الله تعالى من المصالح والحكمة في ذلك . قالوا : وقوله تعالى { ليلة القدر خير من ألف شهر } معناه العبادة فيها أفضل من العبادة في ألف شهر ، ليس فيها ليلة القدر ، قال القاضي أبو الطيب : قال ابن عباس : معناه [ ص: 493 ] العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر بصيام نهارها وقيام ليلها ليس فيها ليلة القدر ، وقوله تعالى : { تنزل الملائكة والروح } أي جبريل عليه السلام { بإذن ربهم } أي بأمره { من كل أمر سلام } أي يسلمون على المؤمنين ، قال ابن عباس يسلمون على كل مؤمن إلا مدمن خمر أو مصر على معصية أو كاهن أو مشاحن ، فمن أصابه السلام غفر له ما تقدم . وقوله تعالى : { حتى مطلع الفجر } قال القاضي أبو الطيب وغيره : معناه أنها سلام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر . .



                                      فرع في مذاهب العلماء في مسائل في ليلة القدر . وقد جمعها القاضي الإمام أبو الفضل عياض السبتي المالكي في شرح صحيح مسلم ، فاستوعبها وأتقنها ، ومختصر ما حكاه أنه قال : " أجمع من يعتد به من العلماء المتقدمين والمتأخرين على أن ليلة القدر باقية دائمة إلى يوم القيامة ، للأحاديث الصريحة الصحيحة في الأمر بطلبها ، قال : وشذ قوم فقالوا : رفعت " وكذا حكى أصحابنا هذا القول عن قوم ، ولم يسمهم الجمهور وسماهم صاحب التتمة فقال : هو قول الروافض وتعلقوا بقوله صلى الله عليه وسلم : { حين تلاحى رجلان فرفعت } وهو حديث صحيح ، كما سنوضحه في فرع الأحاديث إن شاء الله تعالى ، وهذا القول الذي اخترعه هؤلاء الشاذون غلط ظاهر وغباوة بينة ، لأن آخر الحديث يرد عليهم ، لأنه صلى الله عليه وسلم قال : { فرفعت وعسى أن تكون خيرا لكم ، التمسوها في السبع والتسع } هكذا هو في أول صحيح البخاري ، وفيه التصريح بأن المراد برفعها علمه بعينها ذلك الوقت ، ولو كان المراد رفع وجودها ، لم يأمر بالتماسها . قال القاضي عياض : وعلى مذهب الجماعة اختلفوا في محلها فقيل : هي متنقلة ، تكون في سنة في ليلة وفي سنة في ليلة أخرى وبهذا يجمع بين الأحاديث ويقال : كل حديث جاء بأحد أوقاتها فلا تعارض فيها . قال : ونحو هذا قول مالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وغيرهم ، قالوا : وإنما تنتقل في العشر الأواخر من رمضان ، قال : وقيل [ ص: 494 ] في كله ، وقيل : إنها معينة لا تنتقل أبدا ، بل هي ليلة معينة في جميع السنين لا تفارقها ، وعلى هذا قيل : هي في السنة كلها .

                                      وهو قول ابن مسعود وأبي حنيفة وصاحبيه [ وقيل : بل كل رمضان خاصة ، وهو قول ابن عمر وجماعة ] وقيل : بل في العشر الأوسط والأواخر ، وقيل : في العشر الأواخر ، وقيل : تختص بأوتار العشر الأواخر ، وقيل : بأشفاعها ، كما ثبت في حديث أبي سعيد الذي سنوضحه إن شاء الله تعالى . وقيل : بل في ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين ، وهو قول ابن عباس . وقيل : تطلب في أول ليلة سبع عشرة أو إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين ، وهو محكي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما . وقيل : ليلة ثلاث وعشرين ، وهو قول كثير من الصحابة وغيرهم ، وقيل ليلة أربع وعشرين ، وهو محكي عن بلال وابن مسعود والحسن وقتادة رضي الله عنهم وقيل : ليلة سبع وعشرين ، وهو قول جماعة من الصحابة ، منهم أبي وابن عباس والحسن وقتادة رضي الله عنهم ، وقيل : ليلة سبع عشرة ، وهو قول زيد بن أرقم وحكي عن ابن مسعود أيضا ، وقيل تسع عشرة ، وحكي عن علي وابن مسعود أيضا ، وحكي عن علي أيضا ، وقيل : آخر ليلة من الشهر ، هذا آخر ما حكاه القاضي عياض رحمه الله ، وذكر غير القاضي هذه الاختلافات مفرقة .

                                      وأما قول صاحب الحاوي : لا خلاف بين العلماء أن ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان فلا يقبل ، فإن الخلاف في غيره مشهور ، ومذهب أبي حنيفة وغيره كما سبق ، وأما قول صاحب الحلية : إن أكثر العلماء قالوا : إنها ليلة سبع وعشرين فمخالف لنقل الجمهور .

                                      ( فرع ) اعلم أن ليلة القدر يراها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة من رمضان ، كما تظاهرت عليه الأحاديث وأخبار الصالحين بها ، ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصر ، وأما قول القاضي عياض عن المهلب بن أبي صفرة الفقيه المالكي لا تمكن رؤيتها حقيقة فغلط فاحش نبهت عليه لئلا يغتر به .

                                      ( فرع ) قال صاحب الحاوي : يستحب لمن رأى ليلة القدر [ ص: 495 ] أن يكتمها ويدعوا بإخلاص ونية وصحة يقين بما أحب من دين ودنيا ، ويكون أكثر دعائه للدين والآخرة .

                                      ( فرع ) قال صاحب العدة : قال القفال : قوله صلى الله عليه وسلم { أريت هذه الليلة ثم أنسيتها } ليس معناه أنه رأى الملائكة والأنوار عيانا ثم أنسي في أي ليلة رأى ذلك ، لأن مثل هذا قلما ينسى ، وإنما معناه أنه قيل له : ليلة القدر كذا وكذا ، ثم أنسي كيف قيل له .

                                      فرع في بيان جملة من الأحاديث الواردة في ليلة القدر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه } رواه البخاري ومسلم . وعن ابن عمر { أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرى رؤياكم قد توطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر } رواه البخاري ومسلم . وعن عائشة قالت : " { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول : تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان } رواه البخاري ومسلم ، ولفظه للبخاري . وفي رواية للبخاري { تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان } وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر ، في تاسعه تبقى ، في سابعه تبقى ، في خامسه تبقى } رواه البخاري .

                                      وعن عبادة بن الصامت قال : { خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين ، فقال : خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت ، وعسى أن يكون خير لكم ، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة } رواه البخاري ، وقد سبق بيان أن معناه رفع بيان عينها ولا رفع وجودها ، فإنه لو رفع وجودها [ ص: 496 ] لم يأمر بطلبها ، قال العلماء ومعنى " عسى أن يكون خيرا لكم " أي لترعبوا في طلبها والاجتهاد في كل الليالي . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أريت ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها في العشر العوابر } " رواه مسلم - العوابر البواقي - وعن أبي سعيد الخدري قال : { اعتكفنا مع النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان ، فخرج صبيحة عشرين فخطبنا وقال : إني أريت ليلة القدر ثم أنسيتها - أو نسيتها - فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر ، فإني رأيت أني أسجد في ماء وطين ، فمن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجع فرجعنا وما نرى في السماء قزعة ، فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد ، وكان من جريد النخل ، وأقيمت الصلاة ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين ، حتى رأيت أثر الطين في جبهته } رواه البخاري بلفظه ومسلم بمعناه . وعن أبي سعيد أيضا { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف في العشر الأول من رمضان ، ثم اعتكف في العشر الأوسط ، ثم كلم الناس فقال : إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة ، ثم اعتكفت العشر الأوسط ، ثم أتيت فقيل لي : إنها في العشر الأواخر فمن أحب أن يعتكف فليعتكف ، فاعتكف الناس معه وقال : إني أريتها ليلة وتر ، وإني أسجد في صبيحتها في ماء وطين فأصبح ليلة إحدى وعشرين وقد قام إلى الصبح فمطرت السماء فوكف المسجد فأبصرت الطين والماء ، وإذا هي ليلة إحدى وعشرين } رواه مسلم .

                                      وعن عبد الله بن أنيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " { أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين ، فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف . وأثر الماء والطين على جبهته وأنفه ، وكان عبد الله بن أنيس يقول : ثلاث وعشرين } رواه مسلم . [ ص: 497 ] وعن أبي عبد الله عبد الرحمن بن الصنابحي رضي الله عنه قال : " خرجنا من اليمن مهاجرين فقدمنا الجحفة ضحى ، فأقبل راكب فقلت له الخبر ، فقال : دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من خمس ( قلت ) ما سبقك إلا بخمس ، هل سمعت في ليلة القدر شيئا ، قال : أخبرني بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أول السبع من العشر الأواخر " رواه البخاري . وعن أبي سعيد الخدري قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ليلة القدر ليلة أربع وعشرين } رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ( وقيل ) إنه جيد ولم أره وعن زر بن حبيش قال : " سألت أبي بن كعب فقلت : إن أخاك ابن مسعود يقول : من يقم الحول يصب ليلة القدر ، فقال : رحمه الله ، أراد أن لا يتكل الناس ، أما إنه قد علم أنها في رمضان ، وأنها في العشر الأواخر ، وأنها ليلة سبع وعشرين ، ثم حلف أن لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين ، فقلت : بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر ؟ قال : بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها } رواه مسلم ، وفي رواية لمسلم { والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها ، هي ليلة سبع وعشرين } وفي رواية أبي داود بإسناد صحيح { قلت يا أبا المنذر إني علمت ذلك ؟ فقال : بالآية التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لزر : ما الآية ، قال تصبح الشمس صبيحة تلك الليلة مثل الطست ليس لها شعاع حتى ترتفع } .

                                      وعن معاوية بن أبي سفيان { عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر قال : ليلة سبع وعشرين } رواه أبو داود بإسناد صحيح .

                                      وعن موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر فقال : هي في كل رمضان } رواه أبو داود هكذا بإسناد صحيح وقال : رواه سفيان وشعبة عن أبي إسحاق موقوفا على ابن عمر لم يرفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا كلام أبي داود ، وهذا الحديث [ ص: 498 ] صحيح ، وقد سبق أن الحديث إذا روي مرفوعا وموقوفا فالصحيح الحكم برفعه ; لأنها رواية ثقة .

                                      وعن عيسى بن عبد الله بن أنيس الجهني عن أبيه قال : { قلت يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها وأنا أصلي بحمد الله ، فمرني بليلة أنزلها إلى هذا المسجد ، فقال : انزل ليلة ثلاث وعشرين ، فقيل لابنه : كيف كان أبوك يصنع ؟ قال : كان يدخل المسجد إذا صلى العصر فلا يخرج منه لحاجته حتى يصلي الصبح ، فإذا صلى الصبح وجد دابته على باب المسجد ، فجلس عليها فلحق بباديته } رواه أبو داود بإسناد جيد ولم يضعفه . وعن أبي سعيد قال : { اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له ، ثم أبينت له أنها في العشر الأواخر ثم خرج على الناس فقال : يا أيها الناس إنها كانت أبينت لي ليلة القدر ، وإني خرجت لأخبركم ، فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان فنسيتها ، فالتمسوها في العشر الأواخر التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة ، قلت : يا أبا سعيد ، إنكم أعلم بالعدد منا ، قال : أجل أحق بذلك منكم ، قلت : ما التاسعة والسابعة والخامسة ؟ قال : فإذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها ثنتان وعشرون فهي التاسعة ، فإذا مضى ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة ، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة } رواه مسلم .

                                      وعن ابن مسعود قال : " { قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : اطلبوها في ليلة سبع عشرة من رمضان ، وليلة إحدى وعشرين ، وليلة ثلاث وعشرين ثم سكت } رواه أبو داود ولم يضعفه ، وإسناده صحيح إلا رجلا واحدا وهو حكيم بن سيف الرقي ، فقال فيه أبو حاتم : هو شيخ صدوق يكتب حديثه ، ولا يحتج به ، ليس بالمتقن . وعن مالك بن مرثد عن أبيه قال : " قلت لأبي ذر : { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر ، قال : أنا كنت أسأل الناس عنها يعني أشد الناس مسألة عنها ، فقلت : يا رسول الله أخبرني عن [ ص: 499 ] ليلة القدر ، أفي رمضان أو في غيره ؟ فقال : لا ، بل في شهر رمضان ، فقلت : يا نبي الله أتكون مع الأنبياء ما كانوا ، فإذا قبضوا ورفعوا رفعت معهم أو هي إلى يوم القيامة ؟ قال : لا ، بل هي إلى يوم القيامة ، قلت : فأخبرني في أي شهر رمضان هي ؟ قال التمسوها في العشر الأواخر والعشر الأول ثم حدث نبي الله صلى الله عليه وسلم وحدث فاهتبلت غفلته فقلت : يا نبي الله ، أخبرني في أي العشر هي ؟ قال : التمسوها في العشر الأواخر ، ولا تسألني عن شيء بعد هذا ، ثم حدث وحدث فاهتبلت غفلته ، فقلت : يا رسول الله ، أقسمت عليك بحقي لتحدثني في أي العشر هي ، فغضب علي رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا ما غضب مثله قبل ولا بعد ، ثم قال : التمسوها في السبع الأواخر ، ولا تسألني عن شيء بعد } رواه البيهقي بإسناد ضعيف . وعن أبي هريرة قال : { تذاكرنا ليلة القدر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيكم يذكر حين طلع القمر وهو مثل شق جفنة ؟ } رواه مسلم ، وقال البيهقي : قيل : إن ذلك إنما يكون لثلاث وعشرين ، وعن جابر بن عبد الله قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني { رأيت ليلة القدر فأنسيتها ، وهي في العشر الأواخر من لياليها ، وهي ليلة طلقة بلجة لا حارة ولا باردة ، كأن الذي فيها قمر ولا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها } رواه أبو بكر بن أحمد بن عمر بن أبي عاصم النبيل في كتابه . .




                                      الخدمات العلمية