الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 196 ] باب المواقيت قال المصنف رحمه الله تعالى ( ميقات أهل المدينة ذو الحليفة ، وميقات أهل الشام الجحفة ، وميقات أهل نجد قرن ، وميقات أهل اليمن يلملم ، لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ، وأهل الشام من الجحفة ، وأهل نجد من قرن } قال ابن عمر رضي الله عنهما : { وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يهل أهل اليمن من يلملم وأهل الشام من الجحفة } ( وأما ) أهل العراق فميقاتهم ذات عرق ، وهل هو منصوص عليه ؟ أو مجتهد فيه ؟ قال الشافعي رحمه الله في الأم : هو غير منصوص عليه ووجهه ما روي عن ابن عمر قال { : لما فتح المصران أتوا عمر رضي الله عنه قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرن ، وإنا إذا أردنا أن نأتي قرن شق علينا ، قال : فانظروا حذوها من طريقكم قال : فحد لهم ذات عرق } ومن أصحابنا من قال : هو منصوص عليه ومذهبه ما ثبتت به السنة ، والدليل عليه ما روى جابر بن عبد الله قال { : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يهل أهل المشرق من ذات عرق } وروت عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق } قال الشافعي رحمه الله : ولو أهل أهل المشرق من العقيق كان أحب إلي ; لأنه روي عن ابن عباس قال : { وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق } ولأنه أبعد من ذات عرق فكان أفضل ) . .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث ابن عمر الأول رواه البخاري ومسلم من طرق هكذا ، وروياه من رواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم { وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم ، قال : هن لهن ولكل من أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة } " هذا لفظ رواية البخاري ومسلم وفي رواية لهما : [ ص: 197 ] { فمن كان دونهن فمهله من أهله ، وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها } ( وأما ) حديث ابن عمر الثاني : { لما فتح المصران } إلخ فرواه البخاري في صحيحه .

                                      ( وأما ) حديث جابر في ذات عرق فضعيف ، رواه مسلم في صحيحه ، لكنه قال في روايته عن أبي الزبير أنه { سمع جابرا يسأل عن المهل فقال : سمعت أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : مهل أهل العراق من ذات عرق } فهذا إسناد صحيح ، لكنه لم يجزم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا يثبت رفعه بمجرد هذا ، ورواه ابن ماجه من رواية إبراهيم بن يزيد الجوزي - بضم الجيم المعجمة - بإسناده عن جابر مرفوعا بغير شك لكن الجوزي ضعيف لا يحتج بروايته ، ورواه الإمام أحمد في مسنده عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك أيضا ، لكنه من رواية الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف . وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم { وقت لأهل العراق ذات عرق } رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم بإسناد صحيح ، لكن نقل ابن عدي أن أحمد بن حنبل أنكر على أفلح بن حميد روايته هذه ، وانفراده به أنه ثقة وعن ابن عباس قال { : وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق } رواه أبو داود والترمذي وقال : حديث [ ص: 198 ] حسن ، وليس كما قال ، فإنه من رواية يزيد بن زياد وهو ضعيف باتفاق المحدثين . وعن الحارث بن عمرو السهمي الصحابي رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق } رواه أبو داود

                                      عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه وقت لأهل المشرق ذات عرق } رواه الشافعي والبيهقي بإسناد حسن . وعن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، وعطاء من كبار التابعين ، وقد قدمنا في مقدمة هذا الشرح أن مذهب الشافعي الاحتجاج بمرسل كبار التابعين إذا اعتضد بأحد أربعة أمور ( منها ) أن يقول به بعض الصحابة أو أكثر العلماء ، وهذا قد اتفق على العمل به الصحابة ومن بعدهم ، قال البيهقي : هذا هو الصحيح من رواية عطاء أنه رواه مرسلا ، قال : قد رواه الحجاج بن أرطاة عن عطاء وغيره متصلا ، والحجاج ظاهر الضعف ، فهذا ما يتعلق بأحاديث الباب .

                                      ( وأما ) ألقاب الفصل وألفاظه ، ( فقوله ) ذو الحليفة هو - بضم الحاء المهملة وبالفاء - وهو موضع معروف بقرب المدينة بينه وبينها نحو ستة أميال ، وقيل : غير ذلك ، وبينه وبين مكة نحو عشر مراحل فهو أبعد المواقيت من مكة ( وأما ) الجحفة فبجيم مضمومة ثم حاء مهملة ساكنة - ويقال لها : مهيعة - بفتح الميم والياء مع سكون الهاء بينهما - وهي قرية كبيرة بين مكة والمدينة على نحو ثلاث مراحل من مكة سميت جحفة ; لأن السيل جحفها في الزمن الماضي .

                                      ( وأما ) يلملم - بفتح الياء المثناة تحت ، واللامين - وقيل له : ألملم - بفتح الهمزة - وحكي صرفه وترك صرفه وهو على مرحلتين من مكة ( وأما ) قرن - فبفتح القاف وإسكان الراء - بلا خلاف بين أهل الحديث واللغة والتواريخ وغيرهم ، وهو جبل بينه وبين مكة مرحلتان ، ويقال له : قرن المبارك ( وأما ) قول الجوهري : إنه بفتح الراء وأن [ ص: 199 ] أويسا القرني منسوب إليه فغلط باتفاق العلماء ، فقد اتفقوا على أنه غلط فيه في شيئين فتح رائه ونسبة أويس إليه وإنما هو منسوب رضي الله عنه إلى قرن قبيلة من مراد بلا خلاف بين أهل المعرفة ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أويس بن عامر من مراد ثم من قرن } ( وقوله ) صلى الله عليه وسلم : " يهل " معناه يحرم برفع الصوت .

                                      ( وأما ) ذات عرق - فبكسر العين المهملة - وهي قرية على مرحلتين من مكة ، وقد خربت .

                                      ( وأما ) العقيق فقال الإمام أبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة : يقال لكل مسيل ماء شقه السيل فأنهره ووسعه عقيق ، قال : وفي بلاد العرب أربعة أعقة وهي أودية عادية ( منها ) عقيق يدفق ماؤه في غور تهامة ، وهو الذي ذكره الشافعي فقال : لو أهلوا من العقيق كان أحب إلي ( وقوله ) : لما فتح المصران - يعني البصرة والكوفة - ومعنى فتحا نشآ أو أنشئا ، فإنهما أنشئا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهما مدينتان إسلاميتان ، وقد أوضحتهما في تهذيب اللغات . أما الأحكام فقد قال ابن المنذر وغيره : أجمع العلماء على هذه المواقيت . قال أصحابنا : ميقات الحج والعمرة زماني ومكاني ( أما ) الزماني فسبق بيانه واضحا في الباب الذي قبل هذا ( وأما ) المكاني فالناس فيه ضربان : ( أحدهما ) المقيم بمكة مكيا كان أو غيره ، وفي ميقات الحج في حقه وجهان ، وغيره قولان : ( أصحهما ) نفس مكة ، وهو ما كان داخلا منها ، ( والثاني ) مكة وسائر الحرم ، وقال البندنيجي : دليل الأصح حديث ابن عباس السابق لأن مكة والحرم في الحرمة سواء على الصحيح ، فعلى الأول لو فارق بنيان مكة وأحرم في الحرم فهو مسيء يلزمه الدم إن لم يعد ، كمجاوزة سائر المواقيت ، وعلى الثاني حيث أحرم في الحرم لا إساءة . [ ص: 200 ] أما ) إذا أحرم خارج الحرم فمسيء بلا خلاف ، فيأثم ويلزمه الدم إلا أن يعود قبل الوقوف بعرفات إلى مكة على الأصح أو إلى الحرم على الثاني .

                                      قال أصحابنا : ويجوز الإحرام من كل موضع من مكة بلا خلاف ، لعموم حديث ابن عباس ، وفي الأفضل قولان ، وقيل : وجهان : ( أحدهما ) أن يتهيأ للإحرام ويحرم من المسجد قريبا من الكعبة ، إما تحت الميزاب وإما في غيره ( وأصحهما ) أن الأفضل أن يحرم من باب داره ، ويأتي المسجد محرما ، وبه قطع البغوي وغيره لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : { ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ } ( وأما ) الميقات الزماني للمكي فهو كغيره ، لكن يستحب له الإحرام بالحج يوم التروية ، وهو الثامن من ذي الحجة ، وقد سبق بيانه واضحا في الباب قبل .

                                      ( الضرب الثاني ) غير المكي وهو صنفان : ( أحدهما ) من مسكنه بين الميقات ومكة ، فميقاته القرية التي يسكنها أو الحلة التي ينزلها البدوي ، فإن أحرم بعد مجاوزتها إلى مكة فمسيء بلا خلاف ، ودليله حديث ابن عباس ( الصنف الثاني ) من مسكنه فوق الميقات الشرعي ، ويسمى هذا الأفقي بضم الهمزة وفتحها - فيجب عليه الإحرام من ميقات بلده ، والمواقيت الشرعية خمسة : ( أحدها ) ذو الحليفة وهو ميقات من توجه من المدينة ( والثاني ) الجحفة ميقات المتوجهين من الشام ومصر والمغرب ، هكذا قال الأصحاب ، وأهمل المصنف ذكر مصر والمغرب مع أنه ذكر مصر في التنبيه ( الثالث ) يلملم ميقات المتوجهين ، من اليمن ( الرابع ) قرن ميقات المتوجهين من نجد اليمن ونجد الحجاز ، هكذا قاله الشافعي في المختصر والأصحاب ، [ ص: 201 ] ولم ينبه المصنف على إيضاحه ( الخامس ) ذات عرق ميقات المتوجهين من العراق وخراسان .

                                      قال أصحابنا : والمراد بقولنا : ميقات اليمن يلملم ، أي ميقات تهامة اليمن لا كل اليمن ، فإن اليمن تشمل نجدا وتهامة ، قال أصحابنا وغيرهم : والأربعة الأولى من هذه الخمسة نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خلاف ، وهذا مجمع عليه للأحاديث ، وفي ذات عرق وجهان ذكرهما المصنف وسائر الأصحاب : ( أحدهما ) وهو نص الشافعي في الأم كما ذكره المصنف وغيره ، أنه مجتهد فيه ، اجتهد فيه عمر رضي الله عنه لحديث ابن عمر السابق : { لما فتح المصران } ( والثاني ) وهو الصحيح عند جمهور أصحابنا أنه منصوص عليه من النبي صلى الله عليه وسلم وممن صرح بتصحيحه الشيخ أبو حامد في تعليقه ، والمحاملي في كتابيه المجموع والتجريد ، وصاحب الحاوي ، واختاره القاضي أبو الطيب في تعليقه وصاحب الشامل وغيرهما ، قال الرافعي : وإليه ميل الأكثرين . ورجح جماعة كونه مجتهدا فيه ، منهم القاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهما ، وقطع به الغزالي في الوسيط ، قال إمام الحرمين : الصحيح أن عمر وقته قياسا على قرن ويلملم ، قال : والذي عليه التعويل أنه باجتهاد عمر وذكر القاضي أبو الطيب في تعليقه أن قول الشافعي قد اختلف في ذات عرق ، فقال في موضع : هو منصوص عليه ، وفي موضع ليس منصوصا عليه ، وممن قال : إنه مجتهد فيه من السلف طاوس وابن سيرين وأبو الشعثاء جابر بن زيد . وحكاه البيهقي وغيره عنهم ، وممن قال من السلف : إنه منصوص عليه ، عطاء بن أبي رباح وغيره . وحكاه ابن الصباغ عن أحمد وأصحاب أبي حنيفة .

                                      ( واحتج ) من قال : إنه مجتهد فيه بحديث ابن عمر : " لما فتح المصران " ( واحتج ) القائلون بأنه منصوص عليه بالأحاديث السابقة فيه [ ص: 202 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة ، فمجموعها يقوي بعضه بعضا ، ويصير الحديث حسنا ، ويحتج به ، ويحمل تحديد عمر رضي الله عنه باجتهاده على أنه لم يبلغه تحديد النبي صلى الله عليه وسلم فحدده باجتهاده فوافق النص ، وكذا قال الشافعي في أحد نصيه السابقين : إنه مجتهد فيه ، لعدم ثبوت الحديث عنده ، وقد اجتمعت طرقه عند غيره فقوي وصار حسنا ، والله أعلم .

                                      قال الشافعي في المختصر والمصنف وسائر الأصحاب : لو أحرم أهل المشرق من العقيق كان أفضل ، وهو واد وراء ذات عرق مما يلي المشرق ، وقال أصحابنا : والاعتماد في ذلك على ما في العقيق من الاحتياط ، قيل : وفيه سلامة من التباس وقع في ذات عرق لأن ذات عرق قرية خربت وحول بناؤها إلى جهة مكة ، فالاحتياط الإحرام قبل موضع بنائها الآن ، قالوا : ويجب على من أتى من جهة العراق أن يتحرى ويطلب آثار القرية العتيقة . ويحرم حين ينتهي إليها ، قال الشافعي : ومن علاماتها المقابر القديمة ، فإذا انتهى إليها أحرم ، واستأنس المصنف والأصحاب في ذلك مع ما ذكرناه من الاحتياط بحديث توقيت العقيق السابق ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : أعيان ، هذه المواقيت لا تشترط ، بل الواجب عينها أو حذوها ، قالوا : ويستحب أن يحرم من أول الميقات ، وهو الطرف الأبعد من مكة حتى لا يمر بشيء مما يسمى ميقاتا غير محرم ، قال أصحابنا : ولو أحرم من الطرف الأقرب إلى مكة جاز بلا خلاف لحصول الاسم .

                                      ( فرع ) قال أصحابنا : الاعتبار في هذه المواقيت الخمسة بتلك المواضع لا باسم القرية والبناء ، فلو خرب بعضها ونقلت عمارته إلى موضع آخر قريب منه وسمي باسم الأول لم يتغير الحكم ، بل الاعتبار بموضع الأول .




                                      الخدمات العلمية