الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( وإن أحرم بنسك معين ثم نسيه قبل أن يأتي بنسك ففيه قولان : ( قال ) في الأم : يلزمه أن يقرن ; لأنه شك لحقه بعد الدخول في العبادة ، فيبنى فيه على اليقين كما لو شك في عدد ركعات الصلاة ، ( وقال ) في القديم : يتحرى لأنه يمكن أن يدرك بالتحري فيتحرى فيه كالقبلة ، ( فإذا قلنا ) : يقرن لزمه أن ينوي القران ، فإذا قرن أجزأه ذلك عن الحج ، وهل يجزئه عن العمرة ؟ ( إن قلنا ) : يجوز إدخال العمرة على الحج أجزأه عن العمرة أيضا ، ( وإن قلنا ) : لا يجوز ففيه وجهان : ( أحدهما ) لا يجزئه ; لأنه يجوز أن يكون أحرم بالحج وأدخل عليه العمرة فلم يصح ، وإذا شك لم يسقط الفرض ، ( والثاني ) أنه يجزئه لأن العمرة إنما لا يجوز إدخالها على الحج من غير حاجة ، وههنا به حاجة إلى إدخال العمرة على الحج والمذهب الأول ( فإن قلنا ) : إنه يجزئه عن العمرة لزمه الدم ; لأنه قارن ، ( وإن قلنا ) : لا يجزئه عن العمرة فهل يلزمه دم ؟ .

                                      فيه وجهان : ( أحدهما ) لا دم عليه ، وهو المذهب لأنا لم نحكم له بالقران فلا يلزمه دم ، ( والثاني ) يلزمه دم لجواز أن يكون قارنا فوجب عليه الدم احتياطا ، وإن نسي بعد الوقوف وقبل طواف القدوم ، فإن نوى القران وعاد قبل طواف القدوم أجزأه الحج ; لأنه إن كان حاجا أو قارنا فقد انعقد إحرامه بالحج ، وإن كان معتمرا فقد أدخل الحج [ ص: 245 ] على العمرة قبل طواف العمرة ، فصح حجه ولا يجزئه عن العمرة ; لأن إدخال العمرة على الحج لا يصح في أحد القولين ، ويصح في الآخر ما لم يقف بعرفة ، فإذا وقف بعرفة لم يصح فلم يجزئه وإن نسي بعد طواف القدوم وقبل الوقوف ( فإن قلنا ) : إن إدخال العمرة على الحج لا يجوز لم يصح له الحج ولا العمرة ; لأنه يحتمل أنه كان معتمرا فلا يصح إدخال الحج على العمرة بعد الطواف ، فلم يسقط فرض الحج مع الشك ، ولا تصح العمرة ; لأنه يحتمل أن يكون أحرم بها أو أحرم بها بعد الحج فلا يصح ، وإن قلنا : إنه يجوز إدخال العمرة على الحج لم يصح له الحج ، لجواز أن يكون أحرم بالعمرة وطاف لها ، فلا يجوز أن يدخل الحج عليها ، وتصح له العمرة ; لأنه أدخلها على الحج قبل الوقوف ، فإن أراد أن يجزئه الحج طاف وسعى لعمرته ويحلق ، ثم يحرم بالحج ويجزئه ; لأنه إن كان معتمرا فقد حل من العمرة وأحرم بالحج ، وإن كان حاجا أو قارنا فلا يضره تجديد الإحرام بالحج ، ويجب عليه دم واحد ; لأنه كان معتمرا فقد حلق في وقته وصار متمتعا ، فعليه دم التمتع دون دم الحلق ، وإن كان حاجا فقد حلق في غير وقته ، فعليه دم الحلق دون دم التمتع وإن كان قارنا فعليه دم الحلق ودم القران ، فلا يجب عليه دمان بالشك ، ومن أصحابنا من قال : يجب عليه دمان احتياطا وليس بشيء ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) إذا أحرم بنسك ، ثم نسيه وشك هل هو حج أم عمرة أم حج وعمرة ؟ فقد قال الشافعي في القديم : أحب أن يقرن ، وإن تحرى رجوت أن يجزئه . وقال في كتبه الجديدة : هو قارن . وفي المسألة طريقان حكاهما الرافعي : ( أحدهما ) القطع بجواز التحري ، وتأويل الجديد على ما إذا شك هل أحرم بأحد النسكين أم قرن ؟ ، ( والطريق الثاني ) وهو الصحيح المشهور وهو الذي اقتصر عليه المصنف والجمهور أن المسألة على قولين : ( أحدهما ) قوله القديم : يجوز التحري ويعمل بظنه ( وأصحهما ) وهو نصه في كتبه الجديدة لا يجوز التحري بل يقرن ، وهذا نص الشافعي في الأم والإملاء ، قال المحاملي : هو نصه في كتبه الجديدة والإملاء والمختصر . [ ص: 246 ] قال أصحابنا : فإذا قلنا بالقديم تحرى ، فإن غلب على ظنه أحدهما بأمارة عمل بمقتضى ذلك ، سواء كان الذي ظنه حجا أو عمرة ، قالوا : ولا يحتاج إلى نية ، بل يعمل على ما أدى إليه اجتهاده ، قال أصحابنا : وعلى هذا القديم يستحب أن لا يتحرى ، بل ينوي القران ، هكذا صرح به أصحابنا في الطريقتين ، ونص عليه الشافعي في القديم ، فإنه قال في القديم : إذا أحرم بنسك ، ثم نسيه ، فأحب أن يقرن ; لأن القران يشتمل على ما فعله ، قال : فإن تحرى رجوت أن يجزئه إن شاء الله - تعالى - ، هذا نصه ، وكذا نقله المحاملي في كتابيه والبغوي وآخرون عن القديم ، قال الشافعي والأصحاب : فإذا قلنا بالقديم فتحرى فأدى اجتهاده إلى شيء عمل بمقتضاه وأجزأه ذلك النسك ، هذا هو الصواب تفريعا على القديم ، وحكى جماعة منهم الرافعي وجها أنه لا يجزئه النسك ، بل فائدة التحري التخلص من الإحرام وهذا إسناد ضعيف جدا .

                                      أما إذا قلنا : بالجديد فللشك حالان : ( أحدهما ) أن يعرض قبل عمل شيء من أفعال الحج ، فلفظ الشافعي أنه قارن ، قال الأصحاب : معناه أنه ينوي القران ويصير نفسه قارنا ، ولا بد من نية ، هذا هو الصواب ، وبه قطع المصنف والجماهير ، وفيه قول أنه يصير قارنا بلا نية ، وهو ظاهر نص الشافعي الذي ذكرناه ، وكذا نقله المزني عن الشافعي في المختصر فقال : إذا لبى بأحدهما ثم نسيه فهو قارن ، وكذا لفظ المصنف في التنبيه فإنه قال : يصير قارنا ، وتأول الجمهور نقل المزني على أنه يصير نفسه قارنا بأن ينوي القران ، وكذا يتأول كلام المصنف في التنبيه . قال أصحابنا : ثم إذا نوى القران ، وأتى بالأعمال تحلل من إحرامه ، وبرئت ذمته من الحج بيقين وأجزأه عن حجة الإسلام ; لأنه إن كان محرما بالحج لم يضره تجديد نية العمرة بعده ، سواء قلنا : يصح إدخالها عليه أم لا ، وإن كان محرما بالعمرة ، فإدخال الحج عليها قبل الشروع في أعمالها [ ص: 247 ] جائز فثبت له الحج بلا خلاف ، ( وأما ) العمرة فإن جوزنا إدخالها على الحج أجزأته أيضا عن عمرة الإسلام وإلا فوجهان : ( أصحهما ) تجزئه ، والثاني لا تجزئه ، قال أبو إسحاق المروزي وقد ذكر المصنف دليلهما وزيف الأصحاب قول أبي إسحاق المروزي هذا ، وبالغوا في إبطاله ولم يذكره المتولي والبغوي وآخرون ( فإن قلنا ) : يجزئه العمل لزمه دم القران ، فإن لم يجده لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ، ( وإن قلنا ) : لا يجزئه الدم فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما : ( الصحيح ) لا يلزمه ، ( والثاني ) يلزمه ، ووجهه مع شدة ضعفه أن نية القران وجدت ، وهي موجبة للدم إلا أنا لم نعتد بالعمرة احتياطا للعبادة والاحتياط في الدم وجوبه ، وهذا الاستدلال أحسن من استدلال المصنف .

                                      ( واعلم ) أن قول الأصحاب : يجعل نفسه قارنا . وقول المصنف : يلزمه أن ينوي القران ليس المراد بجميعه تحتم وجوب القران ، فإنه لا يجب بلا خلاف ، وإنما الواجب نية الحج ، قال إمام الحرمين لم يذكر الشافعي رحمه الله القران على معنى أنه لا بد منه ، بل ذكره ليستفيد به الشاك التحلل مع براءة الذمة من النسكين ، قال : فلو اقتصر بعد النسيان على الإحرام بالحج وأتى بأفعاله حصل التحلل قطعا ، وتبرأ ذمته من الحج ، ولا تبرأ من العمرة لاحتمال أنه أحرم ابتداء بالحج ، وكذا قال المتولي : لو لم ينو القران ، ولكن قال : صرفت إحرامي إلى الحج حسب له الحج ; لأنه إن كان محرما بالحج فقد حدد إحراما به فلا يضره ، وإن كان محرما بالعمرة فقد أدخل الحج عليها قبل الطواف ، قال : ويستحب له أن يريق دما لاحتمال أن إحرامه كان بعمرة فيكون قارنا . قال : ولو قال : صرفت إحرامي إلى عمرة لم ينصرف إليها ، وإذا أتى بأعمالها لا تحسب له العمرة ولا يتحلل ، لاحتمال أنه محرم بحج أو قران ، أما إذا اقتصر على الإحرام بالعمرة وأتى بأعمال القران فيحصل له التحلل [ ص: 248 ] بلا شك ، وتبرأ ذمته من العمرة إن قلنا بجواز إدخالها على الحج ، وإلا فلا تبرأ منها ، ولا يبرأ من الحج على كل قول لاحتمال أنه أحرم أولا بعمرة والله أعلم .

                                      ولو لم يجدد إحراما بعد النسيان ، بل اقتصر على عمل الحج حصل التحلل ولا تبرأ ذمته من الحج ولا من العمرة لشكه فيما أتى به ولو اقتصر على عمل عمرة لم يحصل التحلل لاحتمال أنه أحرم بالحج ولم يتم أعماله والله أعلم .

                                      ( الحال الثاني ) أن يعرض الشك بعد فعل شيء من أعمال النسك ، وهو ثلاثة أضرب : ( الضرب الأول ) أن يعرض بعد الوقوف بعرفة قبل الطواف ، فيجزئه الحج ; لأنه إن كان محرما به فذاك ، وإن كان محرما بالعمرة فقد أدخله عليها قبل الطواف ، وذلك جائز ، ولا تجزئه العمرة إذا قلنا بالمذهب : إنه لا يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف وقبل الشروع في أسباب التحلل فأما إن قلنا بجواز إدخال العمرة على الحج بعد الوقوف ، وقبل الشروع في أسباب التحلل ، فيحصل له العمرة صرح به أصحابنا ، وكان ينبغي للمصنف أن يذكره لأن تقسيمه يقتضيه وقد ذكر هو فيما سبق الخلاف في جواز إدخال العمرة بعد الوقوف ، فإذا قلنا بجوازه وحصلت العمرة وجب دم القران ، وإلا ففي وجوب الدم الوجهان السابقان في الكتاب وقد شرحناهما قريبا في الحال الأول : ( أصحهما ) لا دم ، ( والثاني ) يجب والله أعلم .

                                      واعلم أن هذا الضرب مفروض فيما إذا كان وقت الوقوف باقيا عند مصيره قارنا ثم وقف مرة ثانية وإلا فيحتمل أنه إن كان محرما بالعمرة فلا يجزئه ذلك الوقوف عن الحج ، وهذا الذي ذكرته من تصوير المسألة فيما إذا كان وقت الوقوف باقيا لا بد منه ، وقد نبه عليه صاحب البيان في كتابيه البيان ومشكلات المهذب ، ونبه عليه أيضا الرافعي وآخرون ، وينكر على المصنف والمحاملي في المجموع والبغوي وغيرهم إطلاقهم المسألة من [ ص: 249 ] غير تنبيه على ما ذكرناه ، وكأنهم استغنوا عن ذكره بوضوحه ومعرفته من سياق المسألة والله أعلم .

                                      ( الضرب الثاني ) أن يعرض الشك بعد الطواف وقبل الوقوف ، فإذا نوى القران وأتى بأعمال القارن لم يجزئه الحج لاحتمال أنه كان محرما بالعمرة ، فيمتنع إدخال الحج عليها بعد الطواف ، ( وأما ) العمرة فإن قلنا بجواز إدخالها على الحج بعد الطواف أجزأته ، وإلا فلا وهو المذهب ، ثم ذكر أبو بكر بن الحداد حيلة لتحصيل الحج في هذه الصورة ، فقال : ينبغي له أن يتمم أعمال العمرة بأن يصلي ركعتي الطواف ، ثم يسعى ، ثم يحلق أو يقصر ، ثم يحرم بالحج ، ويأتي بأفعاله ، فإذا فعل هذا صح حجه وأجزأه عن حجة الإسلام ; لأنه إن كان محرما بالحج لم يضره الإحرام به ثانيا . وإن كان محرما بعمرة فقد تحلل منها وأحرم بعدها بالحج ، وصار متمتعا فأجزأه الحج ، ولا تصح عمرته ، لاحتمال أنه كان محرما بالحج ولم يدخل العمرة عليه ، إذ لم ينو القران ، هذا كلام ابن الحداد واتفق الأصحاب على أنه إذا فعل ما ذكره ابن الحداد فالحكم كما قال ابن الحداد قالوا : وكذا إن كان فقيها وفعل ما ذكره ابن الحداد باجتهاده ، فالحكم ما سبق ، وأما إذا استفتانا فهل نفتيه بذلك ؟ فيه وجهان مشهوران . ( قال ) الشيخ أبو زيد المروزي : لا نفتيه بجواز الحلق لاحتمال أنه محرم بالحج أو قارن ، فلا يجوز له الحلق قبل وقته ، هذا كلام أبي زيد وبه قال صاحب التقريب والقفال والمروزي ونقله الرافعي عن الأكثرين ، ونقله صاحب التهذيب عن أصحابنا مطلقا ، قالوا : وهذا كما لو ابتلعت دجاجة إنسان جوهرة لغيره لا يفتى صاحب الجوهرة بذبحها وأخذ الجوهرة ، ولكن لو ذبحها لم يلزمه إلا التفاوت بين قيمتها مذبوحة وحية ، قالوا : وكذا لو تقابلت دابتان لشخصين على شاهق وتعذر مرورهما لا يفتي أحدهما بإهلاك دابة الآخر ، لكن لو فعل وخلص دابته لزمه قيمة دابة صاحبه .

                                      ( والوجه الثاني ) نفتيه بما قاله ابن الحداد . [ ص: 250 ] ويجوز له الحلق ; لأنه يستباح في الحال الذي يكون حراما محققا للحاجة فاستباحه هنا . ولا يتحقق أنه محرم أولا ، فإنه محتاج إليه أيضا ليحسب له فعله وإلا فتلغوه ، وممن قال بهذا الوجه ابن الحداد والقاضي أبو الطيب الطبري وصاحب الشامل وآخرون ، ورجحه الغزالي وغيره وهو الأصح المختار ، والله أعلم .

                                      ( واعلم ) أن المصنف - رحمه الله - قال : طاف وسعى وحلق فذكر إعادة الطواف ، وهو خلاف ما قال الأصحاب وخلاف الدليل ، فإنهم لم يذكروا الطواف ، بل قالوا : يسعى ويحلق فقط ، وهذا هو الصواب ولا حاجة إلى إعادة الطواف ، فإنه قد أتى به أولا ، وقد ذكر صاحب البيان في كتابيه البيان ومشكلات المهذب ما ذكره المصنف ثم قال : وهذا الطواف لا معنى ، له ، فإنه قد طاف ، والله أعلم .

                                      قال أصحابنا : وسواء أفتيناه بما قاله ابن الحداد وموافقوه أم لا نفته به ففعله ، لزمه دم ; لأنه إن كان محرما بحج فقد حلق في غير وقته ، وإن كان بعمرة فقد تمتع ، فيريق دما عن الواجب عليه ، ولا يعين الجهة ، كما يكفر ، فإن كان معسرا لا يجد دما ولا طعاما صام عشرة أيام كصوم التمتع ، فإن كان الواجب دم التمتع فذاك ، وإن كان دم الحلق أجزأه ثلاثة أيام ، ويقع الباقي تطوعا ، ولا يعين الجهة في صوم الثلاثة ، ويجوز تعيين التمتع في صوم السبعة ، ولو اقتصر على صوم ثلاثة هل تبرأ ذمته ؟ قال الرافعي : مقتضى كلام الشيخ أبي علي أنه لا تبرأ ، وقال إمام الحرمين : يحتمل أن تبرأ ، وعبر الغزالي في الوسيط عن هذين بوجهين ، ويجزئه الصوم مع وجود الإطعام ; لأنه لا مدخل للطعام في التمتع وفدية الحلق على التخيير ، ولو أطعم هل تبرأ ذمته ؟ فيه كلام الشيخ أبي علي والإمام وهذا كله إذا استجمع الرجل شروط وجوب دم التمتع ، فإن لم يستجمعها كالمكي لم يجب الدم ; لأن دم التمتع مقصود ، والأصل عدم وجوب دم الحلق ، [ ص: 251 ] وإذا جوز أن يكون إحرامه أولا بالقران فهل يلزمه دم آخر مع الدم الذي وصفناه ؟ فيه الوجهان السابقان ( الصحيح ) لا يلزمه .

                                      ( الضرب الثالث ) أن يعرض الشك بعد الطواف والوقوف فإن أتى ببقية أعمال الحج لم يحصل له حج ولا عمرة ، ( أما ) الحج فلجواز أنه كان محرما بعمرة فلا ينفعه الوقوف ، ( وأما ) العمرة فلجواز أنه كان محرما بحج ، ولم يصح دخول العمرة عليه ، فإن نوى القران وأتى بأعمال القارن فإجزاء العمرة مبني على أنه هل يصح إدخالها على الحج بعد الوقوف ؟ قال الرافعي : وقياس المذكور في الضرب السابق أنه لو أتم أعمال العمرة وأحرم بالحج وأتى بأعماله مع الوقوف أجزأه الحج ، وعليه دم كما سبق ، ولو أتم أعمال الحج ثم أحرم بعمرة وأتى بأعمالها أجزأته العمرة ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) لو تمتع بالعمرة إلى الحج فطاف للحج طواف الإفاضة ثم بان أنه كان محدثا في طواف العمرة لم يصح طوافه ذلك ولا سعيه بعده وبان أن حلقه في غير وقته ، ويصير بإحرامه بالحج مدخلا للحج إلى العمرة قبل الطواف ، فيصير قارنا ويجزئه طوافه وسعيه في الحج عن الحج والعمرة ، وعليه دمان دم للقران ودم للحلق ، وإن بان أنه كان محدثا في طواف الحج توضأ وأعاد الطواف والسعي ، وليس عليه إلا دم التمتع إذا اجتمعت شروطه ، ولو شك في أي الطوافين كان حدثه لزمه إعادة الطواف والسعي ، فإذا أعادهما صح حجه وعمرته وعليه دم ; لأنه قارن أو متمتع وينوي بإراقته الواجب عليه ولا يعين الجهة ، وكذا لو لم يجد الدم فصام . والاحتياط أن يريق دما آخر لاحتمال أنه حالق قبل الوقت ، فلو لم يحلق في العمرة وقلنا : الحلق استباحة محظور فلا حاجة إليه ، وكذا لا يلزمه عند تبين الحدث في أطواف العمرة إلا دم واحد . ولو كانت المسألة بحالها لكن جامع بعد العمرة ثم أحرم بالحج ، فهذه المسألة تفرع [ ص: 252 ]

                                      على أصلين : ( أحدهما ) جماع الناسي ، هل يفسد النسك ويوجب الفدية كالعمد ؟ فيه قولان : ( الأصل الثاني ) إذا أفسد العمرة بجماع ثم أدخل الحج عليها هل يدخل ويصير محرما بالحج ؟ فيه وجهان سبق بيانهما في فصل القران : ( أصحهما ) عند الأكثرين يصير محرما بالحج ، وبه قال ابن سريج والشيخ أبو زيد فعلى هذا هل يكون الحج صحيحا مجزئا ؟ فيه وجهان : ( أحدهما ) نعم ، ( وأصحهما ) لا ، وعلى هذا ينعقد صحيحا ؟ أم يفسد ؟ أم ينعقد فاسدا ؟ فيه وجهان : ( أصحهما ) ينعقد فاسدا ، إذ لو انعقد صحيحا لم يفسد ، إذ لم يوجد بعد انعقاده مفسد ، وقد سبقت المسألة في القران مبسوطة .

                                      ( فإن قلنا ) : ينعقد فاسدا أو صحيحا ثم يفسد ، مضى في النسكين وقضاهما ، ( وإن قلنا ) : ينعقد صحيحا مجزئا ولا يفسد ، قضى العمرة دون الحج ، وعلى الأوجه الثلاثة يلزمه دم القران ، ولا يجب للإفساد إلا بدنة واحدة ، كذا قال الشيخ أبو علي وحكى إمام الحرمين وجهين آخرين إذا حكمنا بانعقاد حجه فاسدا : ( أحدهما ) يلزمه بدنة أخرى لفساد الحج ، ( والثاني ) يلزمه البدنة للعمرة وشاة للحج ، كما لو جامع ثم جامع ثانيا .

                                      إذا عرفت هذين الأصلين فإن قال : كان الحدث في طواف العمرة فالطواف والسعي فاسدان ، والجماع واقع قبل التحلل ، ولكن لا يعلم كونه قبل التحلل ، فهل يكون كالناسي ؟ فيه طريقان : ( أحدهما ) نعم ، وبه قطع الشيخ أبو علي ( والثاني ) لا : فإنه لم تفسد العمرة ، وبه صار قارنا ، وعليه دم للقران ودم للحلق قبل وقته إن كان حلق كما سبق ، وإن أفسدنا العمرة فعليه للإفساد بدنة وللحلق شاة ، وإذا أحرم بالحج فقد أدخله على عمرة فاسدة ، فإن لم ندخله فهو في عمرته كما كان فيتحلل منها ويقضيها وإن أدخلناه وقلنا بفساد الحج فعليه بدنة للإفساد ودم للحلق قبل وقته ، ودم للقران ، ويمضي في فاسدهما ، ثم يقضيهما ، وإن قال : كان الحدث في [ ص: 253 ] طواف الحج فعليه إعادة الطواف والسعي ، وقد صح نسكاه وليس عليه إلا دم التمتع ، فإن قال : لا أدري في أي الطوافين كان ، أخذ في كل حكم باليقين ولا يتحلل ما لم يعد الطواف والسعي ، لاحتمال أن حدثه كان في طواف الحج ولا يخرج عن عهدة الحج والعمرة إن كانا واجبين عليه ، لاحتمال كونه محدثا في طواف العمرة ، وتأثير الجماع في إفساد النسكين ولا تبرأ ذمته بالشك ، وإن كان متطوعا فلا قضاء عليه لاحتمال أن لا فساد ، وعليه دم إما للتمتع إن كان الحدث في طواف الحج ، وإما للحلق إن كان في طواف العمرة ، ولا يلزمه البدنة لاحتمال أنه لم يفسد العمرة ، لكن الاحتياط ذبح بدنة وشاة إذا جوزنا إدخال الحج على العمرة الفاسدة لاحتمال أنه صار قارنا بذلك ، والله أعلم . .




                                      الخدمات العلمية