الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وهل هو مؤقت أم لا ؟ فيه قولان قال في القديم : غير مؤقت لما روى أبي بن عمارة رضي الله عنه قال : { قلت يا رسول الله أمسح على الخف ؟ قال : نعم ، قلت : يوما ؟ قال : ويومين ، قلت : وثلاثة ؟ قال : نعم وما شئت } [ ص: 506 ] وروي : " وما بدا لك " وروي : " حتى بلغ سبعا قال : نعم وما بدا لك " ولأنه مسح بالماء فلم يتوقت كالمسح على الجبائر ، ورجع عنه قبل أن يخرج إلى مصر ، وقال : يمسح المقيم يوما وليلة ، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن لما روى علي رضي الله عنه : { أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة } ولأن الحاجة لا تدعو إلى أكثر من ذلك فلم تجز الزيادة عليه ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما حديث علي فصحيح رواه مسلم وأما حديث أبي بن عمارة فرواه أبو داود ، والدارقطني والبيهقي وغيرهم من أهل السنن واتفقوا على أنه ضعيف مضطرب لا يحتج به ، وعمارة بكسر العين وضمها وجهان مشهوران ، ممن ذكرهما من أئمة هذا الفن أبو عمر بن عبد البر في كتابه الاستيعاب والبيهقي في السنن ومن المتأخرين الحافظ عبد الغني المقدسي وآخرون ، واتفقوا على أن الكسر أفصح وأشهر ، ولم يذكر ابن ماكولا وآخرون غير الكسر ، رواه البيهقي عن أبي عبيد القاسم بن سلام وخالفهم ابن عبد البر فقال الضم هو قول الأكثرين ، قالوا : وليس في الأسماء عمارة بكسر العين غيره ، وقد بسطت بيانه في تهذيب الأسماء . وقوله : { وما بدا لك } هو بألف ساكنة قال أهل اللغة يقال : بدا له في هذا الأمر بداء بالمد أي : حدث له رأي لم يكن ، ويقال : رجل له بدوات والبداء محال على الله تعالى بخلاف النسخ . وأما قوله : لأنه مسح بالماء فلم يتوقت ، فاحتراز من التيمم ، وقوله كالمسح على الجبائر ، معناه أنه لا يتوقت قولا واحدا وبهذا قطع العراقيون وفيه خلاف ضعيف ذكره الخراسانيون سنوضحه في باب التيمم إن شاء الله تعالى .

                                      ( أما حكم المسألة ) : فاتفق أصحابنا على أن المذهب الصحيح توقيت المسح ، وأن القديم في ترك التوقيت ضعيف واه جدا ، ولم يذكره كثيرون من الأصحاب فعلى القديم لا يتوقت المسح بالأيام ، لكن لو أجنب وجب النزع ، كذا نقله ابن القاص في التلخيص عن القديم ونقله أيضا القفال في [ ص: 507 ] شرحه وصاحبا الشامل والبحر ولا تفريع على هذا القديم ، وإنما تتفرع المسائل في هذا الباب وغيره على أن المسح مؤقت فعلى هذا للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن وللمقيم يوم وليلة بلا خلاف . قال أصحابنا : وله أن يصلي في مدة المسح ما شاء من الصلوات فرائض الوقت والقضاء والنذر والتطوع بلا خلاف ، قال أصحابنا : فأكثر ما يمكن المقيم أن يصلي بالمسح من فرائض الوقت سبع صلوات إذا جمع الصلاتين في المطر ، فإن لم يحدث في نصف اليوم الأول في أول الوقت ويصلي ، ثم في اليوم الثاني والثالث والرابع مسح وصلى في أول الوقت ، هذا مذهبنا . وحكى ابن المنذر عن الشعبي وأبي ثور ، وإسحاق وسليمان بن داود أنه لا يصلي بالمسح إلا خمس صلوات إن كان مقيما وإن كان مسافرا فخمس عشرة وحكاه أصحابنا عن داود ، وهذا مذهب باطل والأحاديث الصحيحة في التوقيت بالزمان ترده والله أعلم .

                                      ( فرع ) : المراد بالمسافر الذي يمسح ثلاثة أيام ولياليهن المسافر سفرا طويلا ، وهو السفر الذي تقصر فيه الصلاة وهو ثمانية وأربعون ميلا بالهاشمي ، وقدره بالمراحل مرحلتان قاصدتان كما سيأتي بيانه واضحا في باب صلاة المسافر إن شاء الله تعالى ، وهذا الذي ذكرناه من أن المسح ثلاثة أيام لا يكون إلا في سفر تقصر فيه الصلاة متفق عليه ، فمن الأصحاب من بينه هنا ، ومنهم من بينه في باب التيمم ومنهم من بينه في باب استقبال القبلة عند ذكرهم التنفل على الراحلة في السفر وجمهورهم بينوه في باب صلاة المسافر ، وخالفهم المصنف فلم يبينه في موضع من هذه المذكورات ، وبينه في ثلاثة مواضع غيرها من المهذب .

                                      ( أحدها ) مسألة نقل الزكاة في باب قسم الصدقات ( والثاني ) في سفر أحد الأبوين بالولد في باب الحضانة ( والثالث ) في مسألة تغريب الزاني ، فبين في هذه المواضع الثلاثة أن مسح الخف ثلاثة أيام إنما يجوز في سفر طويل ، قال أصحابنا : الرخص المتعلقة بالسفر ثمان : ثلاث تختص بالطويل وهي القصر والفطر في رمضان ، ومسح الخف ثلاثة أيام ، وثنتان تجوزان في الطويل والقصير وهما : ترك الجمعة وأكل الميتة ، وثلاث في اختصاصها بالطويل قولان وهي الجمع بين الصلاتين [ ص: 508 ] وإسقاط الفرض بالتيمم وجواز التنفل على الراحلة والأصح اختصاص الجمع بالسفر الطويل دون الآخرين ، وسيأتي إيضاح كل ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى ، ويأتي قريبا بيان صحة قول الأصحاب أكل الميتة من رخص السفر قال الشيخ أبو حامد في تعليقه في باب استقبال القبلة : " السفر القصير الذي يبيح التنفل على الراحلة والتيمم وغيرهما هو مثل أن يخرج إلى ضيعة له مسيرة ميل أو نحوه " هذا لفظه وكذا قال غيره ( فرع ) : في مذاهب السلف في توقيت مسح الخف قد ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا والذي عليه العمل والتفريع أنه مؤقت للمسافر ثلاثة أيام بلياليها وللمقيم يوم وليلة ، وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد وأصحابهما وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم .

                                      قال أبو عيسى الترمذي : التوقيت ثلاثا للمسافر ويوما وليلة للمقيم هو قول عامة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وقال الخطابي : التوقيت قول عامة الفقهاء ، قال ابن المنذر : وممن قال بالتوقيت عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبو زيد الأنصاري وشريح وعطاء والثوري وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق وحكاه أصحابنا أيضا عن الحسن بن صالح والأوزاعي وأبي ثور . وقالت طائفة : لا توقيت ويمسح ما شاء . حكاه أصحابنا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن والشعبي وربيعة والليث وأكثر أصحاب مالك وهو المشهور عن مالك ، وفي رواية عنه أنه مؤقت ، وفي رواية مؤقت للحاضر دون المسافر ، قال ابن المنذر : وقال سعيد بن جبير : يمسح من غدوه إلى الليل . واحتج من قال لا توقيت بما ذكره المصنف من حديث أبي بن عمارة والقياس على الجبيرة وبحديث إبراهيم النخعي عن أبي عبد الله الجدلي عن خزيمة بن ثابت قال { جعل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ولو استزدناه لزادنا } ، يعني : المسح على الخفين للمسافر ، وبحديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليصل فيهما وليمسح عليهما ثم لا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة } وبحديث عقبة بن عامر قال : " خرجت من الشام إلى المدينة يوم الجمعة فدخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : متى أولجت خفيك في رجليك ؟ قلت : يوم الجمعة قال [ ص: 509 ] فهل نزعتهما ؟ قلت : لا قال : أصبت السنة " وفي رواية قال : " لبستهما يوم الجمعة واليوم يوم الجمعة ثمان قال . أصبت السنة " رواه البيهقي وغيره وعن ابن عمر أنه كان لا يوقت في الخفين وقتا .

                                      واحتج أصحابنا والجمهور بأحاديث كثيرة صحيحة في التوقيت منها حديث علي المذكور في الكتاب رواه مسلم وبحديث صفوان بن عسال السابق وهو صحيح كما بيناه ، وبحديث أبي بكرة : { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسح على الخفين فقال : للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة } وهو حديث حسن قال البيهقي قال الترمذي قال البخاري : هو حديث حسن .

                                      وبحديث خزيمة بن ثابت قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين : للمسافر ثلاث وللمقيم يوم } حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وغيرهما قال الترمذي : حديث حسن صحيح . وبحديث عوف بن مالك الأشجعي : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في غزوة تبوك بالمسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، وللمقيم يوم وليلة } قال البيهقي : قال الترمذي : قال البخاري : ( هذا الحديث حسن ) والأحاديث في التوقيت كثيرة . وأما الجواب عن احتجاج الأولين بحديث أبي بن عمارة فهو أنه ضعيف بالاتفاق كما سبق بيانه ولو صح لكان محمولا على جواز المسح أبدا بشرط مراعاة التوقيت ، لأنه إنما سأل عن جواز المسح لا عن توقيته فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم { الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين } فإن معناه أن له التيمم مرة بعد أخرى وإن بلغت مدة عدم الماء عشر سنين ، وليس معناه أن مسحة واحدة تكفيه عشر سنين ، فكذا هنا . والجواب عن حديث خزيمة أنه ضعيف بالاتفاق ، وضعفه من وجهين ( أحدهما ) أنه مضطرب ( والثاني ) أنه منقطع قال شعبة : لم يسمع إبراهيم من أبي عبد الله الجدلي قال البخاري : ولا يعرف للجدلي سماع من خزيمة قال البيهقي : قال الترمذي : سألت البخاري عن هذا الحديث فقال : لا يصح . ولو صح لم تكن فيه دلالة لأنه ظن أن لو استزاده لزاده ، [ ص: 510 ] والأحكام لا تثبت بهذا . وأما حديث أنس فضعيف رواه البيهقي وأشار إلى تضعيفه ، وأما الرواية عن عمر فرواها البيهقي ثم قال : قد روينا عن عمر التوقيت فإما أن يكون رجع إليه حين بلغه التوقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم وإما أن يكون قوله الموافق للسنة الصحيحة المشهورة أولى ، المروي عن ابن عمر يجاب عنه بهذين الجوابين والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية