الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن مس الخنثى المشكل فرجه أو ذكره أو مس ذلك منه غيره لم ينتقض الوضوء ، حتى يتحقق أنه مس الفرج الأصلي أو الذكر الأصلي ، ومتى جوز أن يكون الذي مسه غير الأصلي لم ينتقض الوضوء ; ولذا لو تيقنا أنه انتقض طهر أحدهما ولم نعرفه بعينه لم نوجب الوضوء على واحد منهما ، لأن الطهارة متيقنة ، ولا يزال ذلك بالشك ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) هذا الذي ذكره المصنف رحمه الله في بعضه تساهل ، فأنا أذكر المذهب على ما قاله الأصحاب واقتضته الأدلة ثم أبين وجه التساهل إن شاء الله . قال أصحابنا : إذا مس الخنثى المشكل ذكر رجل أو فرج امرأة انتقض طهر الخنثى ولا ينتقض الممسوس لاحتمال أنه مثله إلا إذا قلنا بالوجه الضعيف أن الممسوس فرجه ينتقض فينتقض هنا لأنه ملموس أو ممسوس . وأما إذا مس الخنثى المشكل فرج نفسه أو ذكر نفسه فلا ينتقض بالاتفاق لاحتمال أنه عضو زائد لكن يندب الوضوء للاحتمال . فإن مسهما معا أو مس أحدهما ثم مس الآخر انتقض بالاتفاق . وإن مس أحدهما ثم مس مرة ثانية وشك هل الممسوس ثانيا هو الأول ؟ أو الآخر ؟ لم ينتقض لاحتمال أنه الأول وإن مس أحدهما ثم صلى الظهر ثم توضأ ثم مس الآخر ثم صلى العصر فوجهان مشهوران ( أحدهما ) تلزمه إعادة الصلاتين لأن إحداهما بغير وضوء فهو كمن نسي صلاة من صلاتين ( والثاني ) لا يلزمه إعادة واحدة من الصلاتين لأن كل واحدة مفردة بحكمها وقد صلاها مستصحبا أصلا صحيحا فلا تلزمه إعادتها كمن صلى صلاتين بالاجتهاد إلى جهتين ، ويخالف من نسي صلاة من صلاتين ; لأن ذمته اشتغلت بكل واحدة من الصلاتين ، والأصل أنه لم يفعلها فتبقى ، وهنا فعلها قطعا معتمدا أصلا صحيحا ، وصححالروياني [ ص: 50 ] الوجه الأول وهو شاذ منفرد بتصحيحه ، وصحح جمهور الأصحاب الوجه الثاني وهو أنه لا إعادة . صححه الفوراني والرافعي وآخرون وقطع به القفال في شرح التلخيص والقاضي حسين في تعليقه والشيخ أبو محمد في الفروق والمتولي والبغوي وغيرهم .

                                      ولو مس أحدهما وصلى الظهر ثم مس الآخر وصلى العصر ولم يتوضأ بينهما لزمه إعادة العصر بلا خلاف ; لأنه صلاها محدثا قطعا ولا يلزمه إعادة الظهر بلا خلاف لأنها مضت على الصحة ولم يعارضها شيء . ولو مس ذكره وصلى أياما يمس فيها الذكر ثم بان أنه رجل فهل يلزمه قضاء تلك الصلوات ؟ فيه طريقان حكاهما المتولي والشاشي : ( أحدهما ) وبه قطع القاضي حسين أنه على وجهين بناء على القولين فيمن صلى إلى جهة أو جهات ثم تيقن الخطأ ( والثاني ) وهو الصحيح عند المتولي والشاشي وقطع به البغوي وهو المختار : تلزمه الإعادة بلا خلاف كمن ظن الطهارة وصلى فبان محدثا . بخلاف القبلة فإن أمرها مبني على التخفيف فيباح تركها في نافلة السفر مع القدرة ، ولا يجوز ترك الطهارة مع القدرة ; ولأن اشتباه القبلة - والخطأ فيها يكثر - بخلاف الحدث . ومتى أبحنا للخنثى الصلاة بعد مس أو لمس أو إيلاج - بناء على الأصل - ثم بان خلافه ففي وجوب الإعادة الطريقان .

                                      وكذا ينبغي أن يكون الحكم في الرجل والمرأة إذا لمساه أو مساه أو أولج فيه رجل أو أولج هو في امرأة ولم نوجب طهارة وصلى فبان الخنثى بصفة توجب الطهر ففي الإعادة الخلاف . هذا حكم مس الخنثى نفسه أو رجلا أو امرأة ، أما إذا مس رجل فرج الخنثى فلا ينتقض واحد منهما لاحتمال أنه عضو زائد ، وكذا إذا مست المرأة ذكر الخنثى فلا وضوء للاحتمال . ولو مس الرجل ذكر الخنثى انتقض وضوء الرجل ; لأن الخنثى إن كان رجلا فقد مس ذكره وإن كان امرأة فقد لمسها بلمس عضوها الزائد ، ولا ينتقض الخنثى لاحتمال أنه رجل والممسوس لا ينتقض . هكذا قاله الأصحاب . ومرادهم التفريع على المذهب وهو الممسوس لا ينتقض وأن العضو الزائد ينقض لمسه . ولو مست المرأة فرج الخنثى فهو كمس الرجل ذكر [ ص: 51 ] الخنثى فتنقض المرأة ; لأنه إن كان رجلا فقد لمسته ، وإن كان أنثى فقد مست فرجها فهي لامسة أو ماسة ولا ينتقض الخنثى بما سبق ، وإن مس الرجل أو المرأة فرجي الخنثى انتقض الماس ، وضابطه أن من مس من الخنثى ما له مثله انتقض وإلا فلا ، فينتقض الرجل بمسه ذكر الخنثى لا فرجه والمرأة عكسه .

                                      وأما إذا مس الخنثى خنثى فينظر إن مس فرجيه انتقض الماس ، وكذا لو مس فرج مشكل وذكر مشكل آخر انتقض ، لأنه مس أو لمس ، وإن مس أحد فرجي المشكل لم ينتقض ، كالواضح لاحتمال الزيادة ، ولو لمس إحدى الخنثيين فرج صاحبه ومس الآخر ذكر الأول فقد انتقض طهر أحدهما بيقين ; لأنهما إن كانا رجلين انتقض ماس الذكر أو أنثيين انتقض ماس الفرج ، أو رجلا وامرأة انتقضا جميعا ، فانتقاض أحدهما متيقن لكنه غير متعين ، والأصل في حق كل واحد الطهارة فلا تبطل بالاحتمال ، فلكل واحد أن يصلي بتلك الطهارة .

                                      هذا كله إذا لم يكن بين الخنثى وبين من مسه محرمية أو غيرها مما يمنع نقض الوضوء باللمس ، فإن كان لم يخف حكمه بتقدير أحواله ، وحيث لا ينقض في هذه الصور يستحب الوضوء لاحتمال الانتقاض ، هذا مختصر كلام الأصحاب في المسألة وفروعها .

                                      وأما قول المصنف : " أو مس ذلك منه غيره لم ينتقض حتى يتحقق أنه مس الفرج الأصلي أو الذكر الأصلي " فهذا مما ينكر عليه لأن غيره إن كان مس منه ما له مثله انتقض كما قدمناه لأنه ماس أو لامس ، ويجاب عن المصنف بأن مراده لا ينتقض بسبب المس فإن الكلام فيه . وأما إذا مس منه ما له مثله فينتقض بسبب اللمس أو المس لا بالمس على التعيين ، ولم يرد أنه لا ينتقض بكل سبب ولكن كلامه موهم . وقوله : " ومتى جوز أن يكون الذي مسه غير الأصلي لم ينتقض " ، هذا مكرر وزيادة لا حاجة إليها ; لأنه قد علم من قوله : " لم ينتقض حتى يتحقق أنه مس الأصلي " إلا أن فيه ضربا من الإيضاح والتأكيد فلهذا ذكره ، وقوله : " وكذا لو تيقنا أنه انتقض طهر أحدهما ولم نعرفه بعينه لم نوجب الوضوء على واحد منهما " مثاله مس أحد الخنثيين ذكر صاحبه ، والآخر فرج الأول وقد بيناه والله أعلم .



                                      [ ص: 52 ] فرع ) هذا أول موضع جرى فيه شيء من أحكام الخنثى في الكتاب ، ولبيان أحكامه وصفات وضوحه وأشكاله مواطن ، منها هذا الباب وباب الحجر وكتاب الفرائض وكتاب النكاح ، وللأصحاب فيه عادات مختلفة ، فبعضهم ذكره هنا ، كإمام الحرمين والغزالي وآخرين ، وبعضهم في الحجر ، وذكر المصنف منه هناك شيئا وأكثرهم ذكروه في الفرائض ، ومنهم المصنف في المهذب وبعضهم في النكاح ، ومنهم المصنف في التنبيه والبغوي ، وبعضهم أفرده بالتصنيف ، كالقاضي أبي الفتوح وغيره . وقد ذكر البغوي فيه فصلين حسنين قبيل كتاب الصداق ، وقد قدمت في الخطبة أني أقدم ما أمكن تقديمه في أول مواطنه ، فأذكر إن شاء الله تعالى معظم أحكامه مختصرة جدا ، وسأوضحها إن شاء الله تعالى في مواطنها أيضا مفصلة ، والكلام فيه يحصره فصلان : ( أحدهما ) في طريق معرفة ذكورته وأنوثته وبلوغه .

                                      ( والثاني ) في أحكامه في حال الإشكال .

                                      ( أما الفصل الأول ) ففي معرفة حاله ، قال أصحابنا : الأصل في الخنثى ما روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مولود له ما للرجال وما للنساء : " { يورث من حيث يبول } " وهذا حديث ضعيف بالاتفاق وقد بين البيهقي وغيره ضعفه والكلبي وأبو صالح ، هذان ضعيفان وليس هو أبا صالح ذكوان السمان ، الراوي في الصحيحين عن أبي هريرة ، وروي عن علي بن أبي طالب وسعيد بن المسيب مثله .

                                      واعلم أن الخنثى ضربان ( أحدهما ) وهو المشهور أن يكون له فرج المرأة وذكر الرجل ( والضرب الثاني ) أن لا يكون له واحد منهما ، بل له ثقبة يخرج منها الخارج ولا تشبه فرج واحد منهما وهذا الضرب الثاني ذكره صاحب الحاوي والبغوي والرافعي وجماعات في كتاب الفرائض . قال البغوي وحكم هذا الثاني أنه مشكل يوقف أمره حتى يبلغ فيختار لنفسه ما يميل إليه طبعه من ذكورة وأنوثة ، فإن أمنى على النساء ومال إليهن طبعه فهو رجل وإن كان عكسه فامرأة . ولا دلالة في بول هذا . وأما الضرب الأول فهو الذي فيه التفريع ، فمذهبنا أنه إما رجل وإما [ ص: 53 ] امرأة وليس قسما ثالثا ، والطريق إلى معرفة ذكورته وأنوثته من أوجه : منها : البول ، فإن بال بآلة الرجال فقط فهو رجل ، وإن بال بآلة المرأة فقط فهو امرأة ، وهذا لا خلاف فيه ، فإن كان يبول بهما جميعا نظر إن اتفقا في الخروج والانقطاع والقدر فلا دلالة فيه ، وإن اختلفا في ذلك ففيه وجهان : أحدهما : لا دلالة في البول فهو مشكل إن لم تكن علامة أخرى . والثاني : وهو الأصح أنهما إن كانا ينقطعان معا ، ويتقدم أحدهما في الابتداء فهو للمتقدم ، وإن استويا في التقدم وتأخر انقطاع أحدهما فهو للمتأخر ، وإن تقدم أحدهما وتأخر الآخر فهو للسابق على أصح الوجهين ، وقيل لا دلالة ، وإن استويا في الابتداء والانقطاع وكان أحدهما أكثر وزنا فوجهان ، أحدهما : يحكم بأكثرهما ، وهو نص الشافعي في الجامع الكبير للمزني . وهو مذهب أبي يوسف ومحمد .

                                      والثاني وهو الأصح : لا دلالة فيه ، وصححه البغوي والرافعي وغيرهما . وقطع به صاحب الحاوي في كتاب الفرائض وإمام الحرمين هنا ، وهو مذهب أبي حنيفة والأوزاعي . ولو زرق كهيئة الرجل أو رشش كعادة المرأة فوجهان ، أصحهما لا دلالة فيه . والثاني : يدل ، فعلى هذا إن زرق بهما فهو رجل ، وإن رشش بهما فامرأة ، وإن زرق بأحدهما ورشش بالآخر فلا دلالة ، ولو لم يبل من الفرجين وبال من ثقب آخر فلا دلالة في بوله ، ومنها المني والحيض ، فإن أمنى بفرج الرجل فهو رجل ، وإن أمنى بفرج المرأة أو حاض به فهو امرأة ، وشرطه في الصور الثلاث أن يكون في زمن إمكان خروج المني والحيض ، وأن يتكرر خروجه ليتأكد الظن به ولا يتوهم كونه اتفاقا . ولو أمنى بالفرجين فوجهان ، أحدهما : لا دلالة ، وأصحهما : أنه إن أمنى منهما بصفة مني الرجل فرجل ، وإن أمنى بصفة مني النساء فامرأة ، لأن الظاهر أن المني بصفة مني الرجال ينفصل من رجل وبصفة مني النساء ينفصل من امرأة ، ولو أمنى من فرج النساء بصفة مني الرجال أو من فرج الرجال بصفة مني النساء ، أو أمنى من فرج الرجال بصفة منيهم ومن فرج النساء بصفة منيهن فلا دلالة ، ولو تعارض بول وحيض فبال من فرج الرجل وحاض [ ص: 54 ] من فرج المرأة فوجهان ، أصحهما : لا دلالة للتعارض والثاني : يقدم البول لأنه دائم متكرر ، قال إمام الحرمين : كان شيخي يميل إلى البول ، قال : والوجه عندي القطع بالتعارض ، ولو تعارض المني والحيض فثلاثة أوجه ذكرها البغوي وغيره .

                                      أحدهما : وهو قول أبي إسحاق : إنه امرأة لأن الحيض مختص بالنساء والمني مشترك ، والثاني : وهو قول أبي بكر الفارسي إنه رجل ; لأن المني حقيقة وليس دم الحيض حقيقة ، والثالث : لا دلالة للتعارض وهو الأصح الأعدل ، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وصححه الرافعي ، ومنها الولادة وهي تفيد القطع بالأنوثة وتقدم على جميع العلامات المعارضة لها لأن دلالتها قطعية . قال القاضي أبو الفتوح في كتابه ( كتاب الخناثى ) لو ألقى الخنثى مضغة ، وقال القوابل : إنها مبدأ خلق آدمي حكم بأنها امرأة ، وإن شككن دام الإشكال ، قال ولو انتفخ بطنه فظهرت أمارات حمل لم يحكم بأنه امرأة حتى يتحقق الحمل .

                                      أما نبات اللحية ونهود الثدي ففيهما وجهان : ( أحدهما ) يدل النبات على الذكورة والنهود على الأنوثة ; لأن اللحية لا تكون غالبا إلا للرجال والثدي لا يكون غالبا إلا للنساء ( والثاني ) وهو الأصح لا دلالة لأن ذلك قد يختلف ، ولأنه لا خلاف أن عدم اللحية في وقته لا يدل للأنوثة ولا عدم النهود في وقته للذكورة ، فلو جاز الاستدلال بوجوده عملا بالغالب لجاز بعدمه عملا بالغالب . قال إمام الحرمين : ولا يعارض نبات اللحية والنهود شيئا من العلامات المتفق عليها ، وأما نزول اللبن من الثدي فقطع البغوي بأنه لا دلالة فيه للأنوثة ، وذكر غيره فيه وجهين الأصح لا دلالة ، وأما عدد الأضلاع ففيه وجهان ( أحدهما ) يعتبر ، فإن كانت أضلاعه من الجانب الأيسر ناقصة ضلعا فهو رجل وإن تساوت من الجانبين فامرأة ، ولم يذكر البول غيره .

                                      ( والثاني ) لا دلالة فيه وهو الصحيح وبه قطع صاحب الحاوي والأكثرون وصححه الباقون ; لأن هذا لا أصل له في الشرع ولا في كتب التشريح . [ ص: 55 ] قال إمام الحرمين : هذا الذي قيل من تفاوت الأضلاع لست أفهمه ولا أدري فرقا بين الرجال والنساء ، قال صاحب الحاوي : لا أصل لذلك ; لإجماعهم على تقديم المبال عليه ، يعني ولو كان له أصل لقدم على المبال ; لأن دلالته حسية كالولادة .

                                      قال أصحابنا : ومن العلامات شهوته ، وميله إلى النساء أو الرجال ، فإن قال : أشتهي النساء ويميل طبعي إليهن ، حكم بأنه رجل ، وإن قال : أميل إلى الرجال ، حكم بأنه امرأة ; لأن الله تعالى أجرى العادة بميل الرجل إلى المرأة والمرأة إلى الرجل . وإن قال : أميل إليهما ميلا واحدا أو لا أميل إلى واحد منهما فهو مشكل . وقال أصحابنا : وإنما نراجعه في ميله وشهوته ونقبل في ذلك قوله إذا عجزنا عن العلامات السابقة ، فأما مع واحدة منها فلا نقبل قوله ; لأن العلامة حسية وميله خفي ، قال أصحابنا : وإنما نقبل قوله في الميل بعد بلوغه وعقله كسائر أخباره ; ولأن الميل إنما يظهر بعد البلوغ . هذا هو المذهب الصحيح المشهور ، وحكى الرافعي وغيره وجها أنه يقبل قول الصبي المميز في هذا كالتخيير بين الأبوين في الحضانة ، وهذا ليس بشيء ; لأن تخييره بين الأبوين تخيير شهوة للرفق به ولا يلزمه الدوام عليه ولا يتعلق به أحكام ، بخلاف قول الخنثى فإنه إخبار . فيشترط أن يكون ممن يقبل خبره وليس موضوعا للرفق ; ولأنه يتعلق به حقوق كثيرة في النفس والمال والعبادات له وعليه وهو أيضا لازم لا يجوز الرجوع عنه . وفرع أصحابنا على إخباره فروعا : أحدها : أنه إذا بلغ وفقدت العلامات ، ووجد الميل لزمه أن يخبر به ليحكم به ويعمل عليه فإن أخره أثم وفسق . كذا قاله البغوي وغيره .

                                      الثاني : أن الإخبار إنما هو بما نجده من الميل الجبلي ، ولا يجوز الإخبار بلا ميل بلا خلاف .

                                      [ ص: 56 ] الثالث : إذا أخبر بميله إلى أحدهما عمل به ولا يقبل رجوعه عنه ، بل يلزمه الدوام عليه فلو كذبه الحس بأن يخبر أنه رجل ثم يلد بطل قوله ويحكم بأنه امرأة ، وكذا لو ظهر حمل وتبيناه ، كما لو حكمنا بأنه رجل بشيء من العلامات ثم ظهر حمل فإنا نبطل ذلك ونحكم بأنه امرأة ، وأما قول الغزالي في الوسيط " فإذا أخبر لا يقبل رجوعه إلا أن يكذبه الحس بأن يقول أنا رجل ثم يلد " فهذه العبارة مما أنكر عليه لأنه استثنى من قبول رجوعه ما إذا ولد ، فأوهم أنه يشترط في الحكم بأنوثته رجوع إليها ، وذلك غير معتبر بلا خلاف بل بمجرد العلم بالحمل يحكم بأنه أنثى وإن لم يرض ، وكلام الغزالي محمول على هذا فكأنه قال فلا يقبل رجوعه بل يجري عليه الأحكام إلا أن يكذبه الحس ، فالاستثناء راجع إلى جريان الأحكام لا إلى قبول الرجوع ، وهذا الذي ذكرناه - من منع قبول الرجوع - هو فيما عليه ، ويقبل رجوعه عما هو له قطعا ، وقد نبه عليه إمام الحرمين ، وأهمله الغزالي والرافعي وغيرهما .

                                      الرابع : إذا أخبر حكم بقوله في جميع الأحكام ، سواء ما له وما عليه ، وقال إمام الحرمين : لأن ابن عشر سنين ، لو قال : بلغت صدقناه ، لأن الإنسان أعرف بما جبل عليه .



                                      قال البغوي وغيره : حتى لو مات للخنثى قريب فأخبر بالذكورة - وإرثه بها يزيد - قبل قوله وحكم له بمقتضاه ، ولو قطع طرفه فأخبر بالذكورة وجب له دية رجل . وقال إمام الحرمين في كتاب الجنايات : " لو أقر الخنثى بعد الجناية على ذكره بأنه رجل فظاهر المذهب أنه لا يقبل إقراره لإيجاب القصاص " قال : " ومن أصحابنا من قال : يقبل ، وهذا مزيف لا أصل له والوجه القطع بأن قوله غير مقبول - بعد الجناية - إذا كان يتضمن ثبوت حق لولاه لم يثبت ، مالا كان أو قصاصا لأنه متهم " وهذا الذي ذكره الإمام ظاهر ، والخلاف في إقراره بعد الجناية ، أما قبله فمقبول في كل شيء بلا خلاف .

                                      الخامس : قد سبق أنه إنما يرجع إلى قوله إذا عجزنا عن العلامات فلو [ ص: 57 ] حكمنا بقوله ثم وجد بعض العلامات ، فالذي يقتضيه كلام الأصحاب أنه لا يبطل قوله بذلك ; لأنهم قالوا : لا يرجع عنه إلا أن يكذبه الحس ; لأنه حكم لدليل ، فلا يترك بظن مثله ، بل لا بد من دليل قاطع ، وذكر الرافعي فيه احتمالين لنفسه ( أحدهما ) هذا ، ( والثاني ) يحتمل أن يحكم بالعلامة كما لو تداعى اثنان طفلا ، وليس هناك قائف ، فانتسب بعد بلوغه إلى أحدهما ، ثم وجدنا قائفا ، فإنا نقدم القائف على إخباره والله أعلم .



                                      ( الفصل الثاني ) في أحكام الخنثى المشكل على ترتيب المهذب مختصرة جدا فإذا لم يتبين الخنثى بعلامة ولا إخباره بقي على إشكاله ، وحيث قالوا : خنثى فمرادهم المشكل وقد يطلقونه - نادرا - على الذي زال إشكاله لقرينة يعلم بها ، كقوله في التنبيه في باب الخيار في النكاح : " وإن وجد أحد الزوجين الآخر خنثى ففي ثبوت الخيار قولان ، وهذه نبذة من أحكامه " إذا توضأ الخنثى المشكل أو اغتسل أو تيمم لعجزه عن الماء بسبب إيلاج وملامسة فإن كان في موضع حكمنا بانتقاض طهارته صار الماء والتراب مستعملا . وكل موضع لم يحكم بانتقاضها للاحتمال ففي مصيره مستعملا الوجهان في المستعمل في نقل الطهارة ذكره القاضي أبو الفتوح . وفي ختانه وجهان سبقا في باب السواك ، الأصح : لا يختن ، وحكم لحيته الكثيفة كلحية المرأة في الوضوء لا في استحباب حلقها وقد سبق بيانه في الوضوء ، ولو خرج شيء من فرجيه انتقض وضوءه فإن خرج من أحدهما ، ففيه ثلاث طرق سبقت في أول هذا الباب ، ولو لمس رجلا أو امرأة أو لمسه أحدهما ، لم يوجب الوضوء على أحد منهم ، وإن مس ذكر نفسه أو فرجه أو فرج خنثى آخر ، أو ذكره لم ينتقض ، وكذا لو مس فرجه رجل ، أو ذكره امرأة - وقد سبق بيانه



                                      ولو مس إنسان ذكرا مقطوعا . وشك هل هو ذكر خنثى ؟ أو ذكر رجل قال القاضي أبو الفتوح في كتابه كتاب الخناثى : يحتمل أن لا ينتقض . قطعا للشك قال : والأصح أنه على الوجهين في ذكر الرجل المقطوع لندوره ، ولا يجزيه الاستنجاء بالحجر في قبليه على الأصح ، وقيل وجهان .



                                      ولو أولج [ ص: 58 ] في فرج أو أولج رجل في قبله لم يتعلق به حكم الوطء فلو أولج في امرأة وأولج في قبله رجل ، وجب الغسل على الخنثى ويبطل صومه وحجه لأنه إما رجل أولج ، وإما امرأة وطئت ، ولا كفارة عليه في الصوم إن قلنا : لا يجب على المرأة ، لاحتمال أنه المرأة ويستحب له إخراجها . قال البغوي : وكل موضع لا نوجب الغسل على الخنثى لا نبطل صومه ولا حجه ولا نوجب على المرأة التي أولج فيها عدة ، ولا مهر لها ولو أولج ذكره في دبر رجل ونزعه لزمهما الوضوء لأنه إن كان رجلا لزمهما الغسل وإن كان امرأة فقد لمست رجلا وخرج من دبر الرجل شيء ، فغسل أعضاء الوضوء واجب ، والزيادة مشكوك فيها والترتيب في الوضوء واجب لتصح طهارته ، وقيل لا يجب وهو غلط وسنوضحه في بابه إن شاء الله تعالى .

                                      ولو أن خنثيين أولج كل واحد في فرج صاحبه ، فلا شيء على واحد منهما ، لاحتمال زيادة الفرجين ، ولو أولج كل واحد في دبر صاحبه ، لزمهما الوضوء بالإخراج ، ولا غسل لاحتمال أنهما امرأتان ، ولو أولج أحدهما في فرج صاحبه ، والآخر في دبر الأول لزمهما الوضوء بالنزع لاحتمال أنهما امرأتان ولا غسل .



                                      وإذا أمنى الخنثى من فرجيه لزمه الغسل ، ومن أحدهما قيل : يجب ، وقيل : وجهان . قال البغوي : ولو أمنى من الذكر وحاض من الفرج وحكمنا ببلوغه وإشكاله لم يجز له ترك الصلاة والصوم لذلك الدم ، لجواز أنه رجل ، ولا يمس المصحف ولا يقرأ في غير الصلاة ، فإذا انقطع الدم اغتسل لجواز كونه امرأة ، ولو أمنى من الذكر اغتسل ولا يمس المصحف ولا يقرأ حتى يغتسل ، هكذا نقل البغوي هذه المسائل عن ابن سريج ، ثم قال : والقياس أنه لا يجب الغسل بانقطاع الدم ولا يمنع المصحف والقرآن كما لا يترك الصلاة لذلك الدم ، فإن أمنى معه وجب ، كما لا يجب الوضوء بمس أحد فرجيه ، ويجب لهما جميعا قال : وما ذكره ابن سريج احتياط . قلت : وقطع القاضي أبو الفتوح بأنه لا يجب الغسل بخروج الدم من الفرجين وإن استمر يوما وليلة لاحتمال أنه رجل ، وهذا دم فساد بخلاف المني [ ص: 59 ] من الفرجين لأنه لا يكون فاسدا ، وبول الخنثى الذي لم يأكل شيئا كالأنثى فلا يكفي نضحه على المذهب .



                                      وله حكم المرأة في الأذان والإقامة ، ولو صلى مكشوف الرأس صحت صلاته ، هكذا أطلقه البغوي وكثيرون وقال أبو الفتوح : يجب عليه ستر جميع عورة المرأة فإن كشف بعضهما مما سوى عورة الرجل أمرناه بستره ، فإن لم يفعل ، وصلى كذلك لم تلزمه الإعادة للشك ، وذكر في وجوب الإعادة وجهين ، ولا يجهر بالقراءة في الصلاة كالمرأة ولا يجافي مرفقيه عن جنبيه في الركوع والسجود كالمرأة . وقال أبو الفتوح : لا نأمره بالمجافاة ولا بتركها بل يفعل أيهما شاء ، والمختار ما قدمناه ، وإذا نابه شيء في صلاته صفق كالمرأة ، ولا يؤم رجلا ولا خنثى فإن أم نساء وقف قدامهن ، ولا جمعة عليه بالاتفاق لكن يستحب . قال أبو الفتوح : فلو صلى الظهر ، ثم بان رجلا وأمكنه إدراك الجمعة لزمه السعي إليها ، فإن لم يفعل لزمه إعادة الظهر وهذا تفريع على الصحيح أن الرجل إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة لا يجزئه ، قال : ولو صلى بهم الجمعة أو خطب أو كمل به العدد لزمهم الإعادة ، فإن لم يعيدوا حتى بان رجلا ، قال : ففي سقوط الإعادة وجهان ، الصحيح : تجب الإعادة .



                                      ويحرم عليه لبس الحرير ; لأنه أبيح للنساء للتزين للزوج وإذا مات - فإن كان له قريب من المحارم - غسله وإلا فأوجه أصحها - عند الخراسانيين - يغسله الأجانب من الرجال والنساء للضرورة واستصحابا لما كان في الصغر . والثاني : يغسله أوثق من هناك من الرجال ، أو النساء من فوق ثوب ، قاله الماوردي . والثالث : يشتري له جارية من ماله ، وإلا فمن بيت المال تغسله ، ثم تباع وهذا ضعيف بالاتفاق . والرابع : هو كرجل أو امرأة لم يحضرهما إلا أجنبية أو أجنبي وفيه وجهان . [ ص: 60 ] أحدهما ) ييمم ( والثاني ) يغسل من فوق ثوب . وهذا الرابع اختاره ابن الصباغ والمتولي والشاشي وغيرهم ، ويستحب تكفينه في خمسة أثواب كالمرأة وإذا مات محرما ، قال البغوي لا يخمر رأسه ولا وجهه ، وهذا إن أراد به أنه يستحب فهو حسن احتياطا ; لأنه إن كان رجلا وجب كشف رأسه ، وإن كان امرأة وجب كشف الوجه ، فالاحتياط كشفهما ، وإن أراد وجوب ذلك فهو مشكل ، وينبغي أن يكفي كشف أحدهما . ويقف الإمام في الصلاة عليه عند عجيزته كالمرأة ، ولو حضر جنائز قدم الإمام الرجل ثم الصبي ثم الخنثى ثم المرأة ، ولو صلى الخنثى على الميت فله حكم المرأة ، ولا يسقط به الفرض على أصح الوجهين . ويتولى حمل الميت ودفنه الرجال ، فإن فقدوا فالخناثى ثم النساء ، وحيث أوجبنا في الزكاة أنثى لم تجزئ الخنثى ، وحيث أوجبنا الذكر أجزأ الخنثى على الصحيح ، وفيه وجه لقبح صورته ويعد ناقصا .



                                      ولا يباح له حلي النساء ، وكذا لا يباح له أيضا حلي الرجال للشك في إباحته . ذكره القاضي أبو الفتوح .



                                      ، ولو كان صائما فباشر بشهوة فأمنى بأحد فرجيه أو رأى الدم يوما وليلة لم يفطر ، وإن اجتمعا أفطر وليس له الاعتكاف في مسجد بيته ، وإن جوزناه للمرأة وفيه احتمال لأبي الفتوح ، قال : ولا يبطل اعتكافه بخروج الدم من فرجه ولا يخرج من المسجد إلا أن يخاف تلويثه ، ولو أولج في دبره بطل اعتكافه ولو أولج في قبله أو أولج هو في رجل أو امرأة أو خنثى ففي بطلان اعتكافه قولان ، كالمباشرة بغير جماع



                                      قال أبو الفتوح : ولا يلزمه الحج إلا إذا كان له محرم من الرجال أو النساء كأخيه وأخواته يخرجون معه ، ولا أثر لنسوة ثقات أجنبيات فإنه لا تجوز الخلوة بهن . قال أصحابنا : وإذا أحرم فستر رأسه أو وجهه فلا فدية ، فإن سترهما وجبت ، وإن لبس المخيط وستر وجهه وجبت ، وإن لبسه وستر رأسه فلا ، لاحتمال أنه امرأة ، ويستحب ترك المخيط فإن لبسه استحبت الفدية ولا يرفع صوته بالتلبية ولا يرمل ولا يضطبع ولا يحلق بل يقصر ويمشي في كل المسعى [ ص: 61 ] ولا يسعى كالمرأة ويستحب له أن يطوف ويسعى ليلا ، كالمرأة لأنه أستر فإن طاف نهارا طاف متباعدا عن الرجال والنساء وله حكم المرأة في الذبح فالرجل أولى منه .



                                      قال البغوي : ولو أولج البائع أو المشتري في زمن الخيار أو الراهن أو المرتهن في فرج الخنثى فليس له حكم الوطء في الفسخ والإجازة وغيره ، قال : فإن اختار الأنوثة بعده تعلق بالوطء السابق الحكم ، ولو اشترى خنثى قد وضح وبان رجلا فوجده يبول بفرجيه فهو عيب لأن ذلك لاسترخاء المثانة ، وإن كان يبول بفرج الرجال فليس بعيب ، وإذا وكل في قبول نكاح أو طلاق فلم أر فيه نقلا ، وينبغي أن يكون كالمرأة للشك في أهليته ، فلو أولج فيه غاصب قهرا فلا مهر كما سبق ،



                                      ولا يدخل في الوقف على البنين ولا على البنات ، ويدخل في الوقف عليهما على الصحيح وفيه وجه ، ويدخل في الوقف على الأولاد . وليس لمن وهب لأولاده وفيهم خنثى أن يجعله كابن فلا يفضل الابن عليه وجها واحدا ، وإن كان يفضل الابن على البنت على وجه ضعيف ، ولو أوصى بعتق أحد رقيقيه دخل فيه الخنثى على الصحيح ، وفيه وجه ويورث - اليقين هو ومن معه - ويوقف ما يشك فيه . ولو قال له سيده : إن كنت ذكرا فأنت حر : قال البغوي : إن اختار الذكورة أو الأنوثة فلا ، وإن مات قبل الاختيار فكسبه لسيده ; لأن الأصل رقه ، وقيل يقرع فإن خرج سهم الحرية فهو موروث ، وإن خرج سهم الرق فهو لسيده ،



                                      ويحرم على الرجال والنساء النظر إليه إذا كان في سن يحرم النظر فيه إلى الواضح ولا تثبت له ولاية النكاح ولا ينعقد بشهادته ولا بعبارته ،



                                      ولو ثار له لبن لم تثبت به أنوثته على المذهب ، فلو رضع منه صغير يوقف في التحريم ، فإن بان أنثى حرم لبنه وإلا فلا ، وأما حضانته وكفالته بعد البلوغ فلم أر فيه نقلا ، وينبغي أن يكون كالبنت البكر حتى يجيء في جواز استقلاله وانفراده عن الأبوين إذا شاء وجهان ، .



                                      وديته دية امرأة ، فإن ادعى وارثه أنه كان رجلا صدق الجاني بيمينه ولا يتحمل الدية مع العاقلة .



                                      ولا يقتل في القتال إذا كان حربيا إلا إذا قاتل كالمرأة ، وإذا أسرناه لم يقتل إلا إذا اختار الذكورة ، ولا يسهم له في الغنيمة ويرضخ له كالمرأة . [ ص: 62 ] ولا تؤخذ منه جزية فإن اختار الذكورة بعد مضي سنة أخذت منه جزية ما مضى ولا يكون إماما ولا قاضيا ، .



                                      ولا يثبت بشهادته إلا ما يثبت بامرأة ، وشهادة خنثيين كرجل ، فهذه أطراف من مسائل الخنثى نقحتها ولخصتها مختصرة وستأتي إن شاء الله تعالى مبسوطة بأدلتها وفروعها في مواطنها ، وقل أن تراها في غير هذا الموضع هكذا والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية