الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 259 ) مسألة : قال : القيء الفاحش ، والدم الفاحش والدود الفاحش يخرج من الجروح . وجملته أن الخارج من البدن من غير السبيل ينقسم قسمين : طاهرا ونجسا ; فالطاهر لا ينقض الوضوء على حال ما ، والنجس ينقض الوضوء في الجملة ، رواية واحدة . روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب وعلقمة وعطاء وقتادة والثوري وإسحاق ، وأصحاب الرأي . وكان مالك وربيعة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر ، لا يوجبون منه وضوءا ، وقال مكحول : لا وضوء إلا فيما خرج من قبل أو دبر ; لأنه خارج من غير المخرج ، مع بقاء المخرج ، فلم يتعلق به نقض الطهارة ، كالبصاق ولأنه لا نص فيه ، ولا يمكن قياسه على محل النص ، وهو الخارج من السبيلين ، لكون الحكم فيه غير معلل ولأنه لا يفترق الحال بين قليله وكثيره ، وطاهره ونجسه ; وها هنا بخلافه ، فامتنع القياس .

                                                                                                                                            ولنا : ما روى أبو الدرداء : { أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال ثوبان : صدق ، أنا صببت له وضوءه . } رواه الأثرم والترمذي ، وقال : هذا أصح شيء في هذا الباب قيل لأحمد : حديث ثوبان ثبت عندك ؟ قال : نعم . وروى الخلال بإسناده ، عن ابن جريج ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قلس أحدكم فليتوضأ " قال ابن جريج : وحدثني ابن أبي مليكة ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وأيضا فإنه قول من سمينا من الصحابة ، ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم ، فيكون إجماعا ; ولأنه خارج يلحقه حكم التطهير ، فنقض الوضوء كالخارج من السبيل . وقياسهم منقوض بما إذا انفتح مخرج دون المعدة . [ ص: 120 ]

                                                                                                                                            ( 260 ) فصل : وإنما ينتقض الوضوء بالكثير من ذلك دون اليسير ، وقال بعض أصحابنا : فيه رواية أخرى ، أن اليسير ينقض . ولا نعرف هذه الرواية ، ولم يذكرها الخلال في " جامعه " إلا في القلس ، واطرحها وقال القاضي : لا ينقض ، رواية واحدة . وهو المشهور عن الصحابة ، رضي الله عنهم . قال ابن عباس في الدم : إذا كان فاحشا فعليه الإعادة . وابن أبي أوفى بزق دما ثم قام فصلى . وابن عمر عصر بثرة فخرج دم ، وصلى ، ولم يتوضأ . قال أبو عبد الله : عدة من الصحابة تكلموا فيه وأبو هريرة كان يدخل أصابعه في أنفه ، وابن عمر عصر بثرة وابن أبي أوفى عصر دملا وابن عباس قال : إذا كان فاحشا . وجابر أدخل أصابعه في أنفه ، وابن المسيب أدخل أصابعه العشرة في أنفه ، وأخرجها متلطخة بالدم . يعني : وهو في الصلاة . وقال أبو حنيفة : إذا سال الدم ففيه الوضوء ، وإن وقف على رأس الجرح ، لم يجب ; لعموم قوله عليه السلام : { من قاء أو رعف في صلاته فليتوضأ . } ولنا ما روينا عن الصحابة ، ولم نعرف لهم مخالفا . وقد روى الدارقطني ، بإسناده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ليس الوضوء من القطرة والقطرتين } وحديثهم لا تعرف صحته ، ولم يذكره أصحاب السنن ، وقد تركوا العمل به ، فإنهم قالوا : إذا كان دون ملء الفم ، لم يجب الوضوء منه .

                                                                                                                                            ( 261 ) فصل : وظاهر مذهب أحمد أن الكثير الذي ينقض الوضوء لا حد له أكثر من أنه يكون فاحشا وقيل : يا أبا عبد الله ، ما قدر الفاحش ؟ قال : ما فحش في قلبك وقيل له : مثل أي شيء يكون الفاحش ؟ قال : قال ابن عباس : ما فحش في قلبك وقد نقل عنه أنه سئل : كم الكثير ؟ فقال : شبر في شبر وفي موضع قال : قدر الكف فاحش . وفي موضع قال : الذي يوجب الوضوء من ذلك إذا كان مقدار ما يرفعه الإنسان بأصابعه الخمس من القيح والصديد والقيء ، فلا بأس به .

                                                                                                                                            فقيل له : إن كان مقدار عشرة أصابع ؟ فرآه كثيرا . قال الخلال : والذي استقر عليه قوله في الفاحش ، أنه على قدر ما يستفحشه كل إنسان في نفسه . قال ابن عقيل : إنما يعتبر ما يفحش في نفوس أوساط الناس ، لا المتبذلين ، ولا الموسوسين ، كما رجعنا في يسير اللقطة الذي لا يجب تعريفه إلى ما لا تتبعه نفوس أوساط الناس . ونص أحمد في هذا كما حكيناه ، وذهب إلى قول ابن عباس رضي الله عنه ( 262 ) فصل : والقيح والصديد كالدم فيما ذكرنا ، وأسهل وأخف منه حكما عند أبي عبد الله لوقوع الاختلاف فيه ، فإنه روي عن ابن عمر والحسن أنهم لم يروا القيح والصديد كالدم . وقال أبو مجلز في الصديد : لا شيء ، إنما ذكر الله الدم المسفوح ، وقال الأوزاعي في قرحة سال منها كغسالة اللحم : لا وضوء فيه .

                                                                                                                                            وقال إسحاق : كل ما سوى الدم لا يوجب وضوءا . وقال مجاهد وعطاء وعروة والشعبي والزهري وقتادة والحكم والليث : القيح بمنزلة الدم . فلذلك خف حكمه عنده ، واختياره مع ذلك إلحاقه بالدم وإثبات مثل حكمه فيه ، ولكن الذي يفحش منه يكون أكثر من الذي يفحش من الدم .

                                                                                                                                            ( 263 ) فصل : والقلس كالدم ، ينقض الوضوء منه ما فحش . قال الخلال الذي أجمع عليه أصحاب أبي عبد الله عنه ، أنه إذا كان فاحشا أعاد الوضوء منه ، وقد حكي عنه فيه الوضوء إذا ملأ الفم .

                                                                                                                                            وقيل عنه [ ص: 121 ] إذا كان أقل من نصف الفم لا يتوضأ . والأول المذهب . وكذلك الحكم في الدود الخارج من الجسد ، إذا كان كثيرا نقض الوضوء ، وإن كان يسيرا ، لم ينقض ، والكثير ما فحش في النفس .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية