الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 6860 ) فصل : وإذا ادعت امرأة على إنسان أنه ضربها ، فأسقطت جنينها ، فأنكر الضرب ، فالقول قوله مع يمينه ; لأن الأصل عدم الضرب . وإن أقر بالضرب ، أو قامت به بينة ، وأنكر أن تكون أسقطت ، فالقول قوله أيضا مع يمينه لأنه لا يعلم أنها أسقطت ، ولا تلزمه اليمين على البت ; لأنها يمين على فعل الغير ، والأصل عدمه . وإن ثبت الإسقاط والضرب ببينة أو إقرار ، فادعى أنها أسقطته من غير ضربه ، نظرنا ; فإن كانت أسقطت عقيب ضربه ، فالقول قولها ; لأن الظاهر أنه منه ، لوجوده عقيب شيء يصلح أن يكون سببا له . وإن ادعى أنها ضربت نفسها ، أو شربت دواء ، أو فعل ذلك غيرها ، فحصل الإسقاط به ، فأنكرته ، فالقول قولها مع يمينها ; لأن الأصل عدم ذلك . وإن أسقطت بعد الضرب بأيام ، نظرنا ; فإن كانت متألمة إلى حين الإسقاط ، فالقول قولها ، وإن لم تكن متألمة ، فالقول قوله مع يمينه ، كما [ ص: 325 ]

                                                                                                                                            لو ضرب إنسانا فلم يبق متألما ولا ضمنا ، ومات بعد أيام . وإن اختلفا في وجود التألم ، فالقول قوله ; لأن الأصل عدمه . وإن كانت متألمة في بعض المدة ، فادعى أنها برئت ، وزال ألمها ، وأنكرت ذلك ، فالقول قولها ; لأن الأصل بقاؤه . وإن ثبت إسقاطها من الضربة ، فادعت سقوطه حيا ، وأنكرها ، فالقول قوله مع يمينه ، إلا أن تقوم لها بينة باستهلاله ; لأن الأصل عدم ذلك . وإن ثبتت حياته ، فادعت أنه لوقت يعيش مثله ، وأنكرها ، فالقول قولها مع يمينها ; لأن ذلك لا يعرف إلا من جهتها ، ولا يمكن إقامة البينة عليه ، فقبل قولها فيه ، كانقضاء عدتها ، ووجود حيضها وطهرها . وإن أقامت بينة باستهلاله ، وأقام الجاني بينة بعدم استهلاله ، قدمت بينتها ; لأنها مثبتة ، فتقدم على النافية ; لأن المثبتة معها زيادة علم . وإن ادعت أنه مات عقيب إسقاطه ، وادعى أنه عاش مدة ، فالقول قولها ; لأن الأصل عدم حياته .

                                                                                                                                            وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه ، قدمت بينة الجاني ; لأن معها زيادة علم . وإن ثبت أنه عاش مدة فادعت أنه بقي متألما حتى مات ، وأنكر ذلك ، فالقول قوله ; لأن الأصل عدم التألم . وإن أقاما بينتين ، قدمت بينتها ; لأن معها زيادة علم . ويقبل في استهلال الجنين ، وسقوطه ، وبقائه متألما ، وبقاء أمه متألمة ، قول امرأة واحدة ; لأنه مما لا يطلع عليه الرجال ، فإن الغالب أنه لا يشهد الولادة إلا النساء ، والاستهلال يتصل بها ، وهن يشهدن حال المرأة وولادتها ، وحال الطفل ، ويعرفن علله وأمراضه ، وقوته وضعفه ، دون الرجال . وإن اعترف الجاني باستهلاله ، أو ما يوجب فيه دية كاملة ، لم تحمله العاقلة ، وكانت الدية في مال الجاني ; لأن العاقلة لا تحمل اعترافا . وإن كان مما تحمل العاقلة فيه الغرة ، فعلى العاقلة غرة ، وباقي الدية في مال القاتل . ( 6861 ) فصل : وإن انفصل منها جنينان ، ذكر وأنثى ، فاستهل أحدهما ، واتفقوا على ذلك ، واختلفوا في المستهل ، فقال الجاني : هو الأنثى . وقال وارث الجنين : هو الذكر ، فالقول قول الجاني مع يمينه ; لأن الأصل عدم الاستهلال من الذكر ، وبراءة ذمته من الزائد على دية الأنثى ، فإن كان لأحدهما بينة ، قدم بها ، وإن كان لكل واحد منهما بينة ، وجبت دية الذكر ; لأن البينة قد قامت باستهلاله ، والبينة المعارضة لها نافية له ، والإثبات مقدم على النفي .

                                                                                                                                            فإن قيل : فينبغي أن تجب دية الذكر والأنثى . قلنا : لا تجب دية الأنثى ; لأن المستحق لها لم يدعها ، وهو مكذب للبينة الشاهدة بها . وإن ادعى الاستهلال منهما ، ثبت ذلك بالبينتين . وإن لم تكن بينة ، فاعترف الجاني باستهلال الذكر ، فأنكرت العاقلة ، فالقول قولهم مع أيمانهم ، فإذا حلفوا ، كانت عليهم دية الأنثى وغرة ، إن كانت تحمل الغرة ، وعلى الضارب تمام دية الذكر ، وهو نصف الدية ، لا تحمله العاقلة ; لأنه ثبت باعترافه . وإن اتفقوا على أن أحدهما استهل ، ولم يعرف بعينه ، لزم العاقلة دية أنثى ; لأنها متيقنة ، وتمام دية الذكر مشكوك فيه ، والأصل براءة الذمة منه ، فلم يجب بالشك ، ويجب الغرة في الذي لم يستهل .

                                                                                                                                            ( 6862 ) فصل : إذا ضربها ، فألقت يدا ، ثم ألقت جنينا ، فإن كان إلقاؤهما متقاربا ، أو بقيت المرأة متألمة إلى أن ألقته ، دخلت اليد في ضمان الجنين ; لأن الظاهر أن الضرب قطع يده ، وسرى إلى نفسه ، فأشبه ما لو قطع يد رجل وسرى القطع إلى نفسه ، ثم إن كان الجنين سقط ميتا ، أو حيا لا يعيش لمثله ، ففيه غرة ، وإن ألقته حيا لوقت يعيش [ ص: 326 ] لمثله ، ففيه دية كاملة ، وإن بقي حيا فلم يمت ، فعلى الضارب ضمان اليد بديتها ، بمنزلة من قطع يد رجل فاندملت . وقال القاضي ، وبعض أصحاب الشافعي : يسأل القوابل ، فإن قلن : إنها يد من لم تخلق فيه الحياة ; ففيها نصف الغرة ، وإن قلن : يد من خلقت فيه الحياة ; ففيها نصف الدية .

                                                                                                                                            ولنا ، أن الجنين إنما يتصور بقاء الحياة فيه إذا كان حيا قبل ولادته بمدة طويلة ، أقلها شهران ، على ما دل عليه حديث الصادق المصدوق ، في أنه تنفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر ، وأقل ما يبقى بعد ذلك شهران ; لأنه لا يحيى إذا وضعته لأقل من ستة أشهر ، والكلام مفروض فيما إذا لم يتخلل بين الضربة والإسقاط مدة تزيل ظن سقوطه بها ، فيعلم حينئذ أنها كانت بعد وجود الحياة فيه ، وأما إن ألقت اليد ، وزال الألم ، ثم ألقت الجنين ، ضمن اليد وحدها ، بمنزلة من قطع يدا فاندملت ، ثم مات صاحبها ، ثم ننظر ; فإن ألقته ميتا ، أو لوقت لا يعيش مثله ، ففي اليد نصف غرة ; لأن في جميعه غرة ، ففي يده نصف ديته ، وإن ألقته حيا لوقت يعيش لمثله ، ثم مات ، أو عاش ، وكان بين إلقاء اليد وبين إلقائه مدة يحتمل أن تكون الحياة لم تخلق فيها ، أري القوابل هاهنا ، فإن قلن : إنها يد من لم تخلق فيها الحياة . وجب نصف غرة ، وإن قلن : إنها يد من خلقت فيه الحياة ، ومضى له ستة أشهر . ففيه نصف الدية ، وإن قيل : إنها يد من خلقت فيه الحياة ، ولم تمض له ستة أشهر . وجب فيه نصف غرة ; لأنها يد من لا يجب فيه أكثر من غرة ، فأشبهت يد من لم ينفخ فيه روح ، وإن أشكل الأمر عليهن ، وجب نصف الغرة ; لأنه اليقين ، وما زاد مشكوك فيه ، فلا يجب بالشك .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية