الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          163 - مسألة : ومس الرجل ذكر نفسه خاصة عمدا بأي شيء مسه من باطن يده أو من ظاهرها أو بذراعه - حاشا مسه بالفخذ أو الساق أو الرجل من نفسه فلا يوجب [ ص: 221 ] وضوءا - ومس المرأة فرجها عمدا كذلك أيضا سواء سواء ، ولا ينقض الوضوء شيء من ذلك بالنسيان ، ومس الرجل ذكر غيره من صغير أو كبير ميت أو حي بأي عضو مسه عمدا من جميع جسده من ذي رحم محرمة أو من غيره ، ومس المرأة فرج غيرها عمدا أيضا كذلك سواء سواء ، لا معنى للذة في شيء من ذلك ، فإن كان كل ذلك على ثوب رقيق أو كثيف ، للذة أو لغير لذة ، باليد أو بغير اليد ، عمدا أو غير عمد ، لم ينقض الوضوء ، وكذلك إن مسه بغلبة أو نسيان فلا ينقض الوضوء .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك ما حدثناه حمام بن أحمد قال : ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال { تذاكر هو ومروان الوضوء ، فقال مروان حدثتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالوضوء من مس الفرج } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فإن قيل : إن هذا خبر رواه الزهري عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عروة ، قلنا : مرحبا بهذا ، وعبد الله ثقة ، والزهري لا خلاف في أنه سمع من عروة وجالسه ، فرواه عن عروة ورواه أيضا عن عبد الله بن أبي بكر عن عروة ، فهذا قوة للخبر والحمد لله رب العالمين . قال علي : مروان ما نعلم له جرحة قبل خروجه على أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، ولم يلقه عروة قط إلا قبل خروجه على أخيه لا بعد خروجه هذا ما لا شك فيه ، وبسرة مشهورة من صواحب رسول الله صلى الله عليه وسلم المبايعات المهاجرات - هي بسرة بنت صفوان بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بنت أخي ورقة بن نوفل وأبوها ابن عم خديجة أم المؤمنين لحا .

                                                                                                                                                                                          ولفظ هذا الحديث عام يقتضي كل ما ذكرناه ، وأما مس الرجل فرج نفسه بساقه ورجله وفخذه فلا خلاف في أن المرء مأمور بالصلاة في قميص كثيف وفي مئزر وقميص ، ولا بد له ضرورة في صلاته كذلك من وقوع فرجه على ساقه ورجله وفخذه ، فخرج هذا بهذا الإجماع المنصوص عليه عن جملة هذا الخبر . [ ص: 222 ]

                                                                                                                                                                                          وممن قال بالوضوء من مس الفرج سعد بن أبي وقاص وابن عمر رضي الله عنهما وعطاء وعروة وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وأبان بن عثمان وابن جريج والأوزاعي والليث والشافعي وداود وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم ، إلا أن الأوزاعي والشافعي لم يريا الوضوء ينقض ذلك إلا بمسه بباطن الكف فقط لا بظاهرها . وقال عطاء بن أبي رباح : لا ينقض الوضوء مس الفرج بالفخذ والساق وينقض مسه بالذراع . وقال مالك : مس الفرج من الرجل فرج نفسه الذكر فقط بباطن الكف لا بظاهرها ولا بالذراع يوجب الوضوء ، فإن صلى ولم يتوضأ لم يعد الصلاة إلا في الوقت . وقال أبو حنيفة : لا ينقض الوضوء مس الذكر كيف كان وقال الشافعي ينقض الوضوء مس الدبر ومس المرأة فرجها ، وقال مالك لا ينقض الوضوء مس الدبر ولا مس المرأة فرجها إلا أن تقبض وتلطف ، أي تدخل أصبعها بين شفريها ، ونحا بعض أصحابه بنقض الوضوء من مس الذكر نحو اللذة .

                                                                                                                                                                                          فأما قول الأوزاعي والشافعي ومالك في مراعاة باطن الكف دون ظاهرها فقول لا دليل عليه لا من قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من قول صاحب ولا من قياس ولا من رأي صحيح . وشغب بعضهم بأن قال : في بعض الآثار { من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ } قال أبو محمد : وهذا لا يصح أصلا ، ولو صح لما كان فيه دليل على ما يقولون ; لأن الإفضاء باليد يكون بظاهر اليد كما يكون بباطنها ، وحتى لو كان الإفضاء بباطن اليد لما كان في ذلك ما يسقط الوضوء عن غير الإفضاء ، إذا جاء أثر بزيادة على لفظ الإفضاء ، فكيف والإفضاء يكون بجميع الجسد ، قال الله تعالى { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } . وأما قول مالك في إيجاب الوضوء منه ثم لم ير الإعادة إلا في الوقت ، فقول متناقض ; لأنه لا يخلو أن يكون انتقض وضوءه أو لم ينتقض ، فإن كان انتقض فعلى أصله يلزمه أن يعيد أبدا ، وإن كان لم ينتقض فلا يجوز له أن يصلي صلاة فرض واحدة في يوم مرتين ، وكذلك فرق مالك بين مس الرجل فرجه وبين مس المرأة فرجها فهو قول لا دليل عليه فهو ساقط .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 223 ] وأما إيجاب الشافعي الوضوء من مس الدبر فهو خطأ لأن الدبر لا يسمى فرجا ، فإن قال : قسته على الذكر قيل له : القياس عند القائلين به لا يكون إلا على علة جامعة بين الحكمين ، ولا علة جامعة بين مس الذكر ومس الدبر ، فإن قال : كلاهما مخرج للنجاسة ، قيل له : ليس كون الذكر مخرجا للنجاسة هو علة انتقاض الوضوء من مسه ، ومن قوله إن مس النجاسة لا ينقض الوضوء ، فكيف مس مخرجها . وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما أصحاب أبي حنيفة فاحتجوا بحديث طلق بن علي { أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يمس ذكره بعد أن يتوضأ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل هو إلا بضعة منك } . قال علي : وهذا خبر صحيح ، إلا أنهم لا حجة لهم فيه لوجوه : أحدها أن هذا الخبر موافق لما كان الناس عليه قبل ورود الأمر بالوضوء من مس الفرج ، هذا لا شك فيه ، فإذ هو كذلك فحكمه منسوخ يقينا حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوضوء من مس الفرج ، ولا يحل ترك ما تيقن أنه ناسخ والأخذ بما تيقن أنه منسوخ ، وثانيها أن كلامه عليه السلام { هل هو إلا بضعة منك } دليل بين على أنه كان قبل الأمر بالوضوء منه لأنه لو كان بعده لم يقل عليه السلام هذا الكلام بل كان يبين أن الأمر بذلك قد نسخ ، وقوله هذا يدل على أنه لم يكن سلف فيه حكم أصلا وأنه كسائر الأعضاء . قال أبو محمد : وقال بعضهم : يكون الوضوء من ذلك غسل اليد . قال أبو محمد : وهذا باطل ، لم يقل أحد إن غسل اليد واجب أو مستحب من مس الفرج ، لا المتأولون لهذا التأويل الفاسد ولا غيرهم ، ويقال لهم : إن كان كما تقولون فأنتم من أول من خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تأولتموه في أمره ، وهذا استخفاف ظاهر ، وأيضا فإنه لا يطلق الوضوء في الشريعة إلا لوضوء الصلاة فقط ، وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاع هذه اللفظة على غير الوضوء للصلاة ، كما رويناه من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن الحويرث عن ابن عباس قال { كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء من الغائط وأتي بطعام فقيل : ألا تتوضأ فقال عليه السلام : لم [ ص: 224 ] أصل فأتوضأ }

                                                                                                                                                                                          فكيف وقد روينا من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه سمع عروة بن الزبير يقول : إن مروان قال له : أخبرتني بسرة بنت صفوان أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ وضوءه للصلاة } ورواه أيضا غير مالك عن الثقات كذلك . كما حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبو صالح الحكم بن موسى ثنا شعيب بن إسحاق أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن مروان بن الحكم حدثه عن بسرة بنت صفوان - وكانت قد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إذا مس أحدكم ذكره فلا يصل حتى يتوضأ } فأنكر ذلك عروة ، وسأل بسرة فصدقته بما قال .

                                                                                                                                                                                          قال علي : أبو صالح وشعيب ثقتان مشهوران ، فبطل التعلل بمروان ، وصح أن بسرة مشهورة صاحبة ، ولقد كان ينبغي لهم أن ينكروا على أنفسهم شرع الدين وإبطال السنن برواية أبي نصر بن مالك وعمير والعالية زوجة أبي إسحاق وشيخ من بني كنانة ، وكل هؤلاء لا يدري أحد من الناس من هم ؟ [ ص: 225 ] وقال بعضهم : هذا مما تعظم به البلوى ، فلو كان لما جهله ابن مسعود ولا غيره من العلماء .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد وهذا حماقة ، وقد غاب عن جمهور الصحابة رضي الله عنهم الغسل من الإيلاج الذي لا إنزال معه ، وهو مما تكثر به البلوى ، ورأى أبو حنيفة الوضوء من الرعاف وهو مما تكثر به البلوى ولم يعرف ذلك جمهور العلماء ورأى الوضوء من ملء الفم من القلس ولم يره من أقل من ذلك ، وهذا تعظم به البلوى ، ولم يعرف ذلك أحد من ولد آدم قبله ، ومثل هذا لهم كثير جدا ، ومثل هذا من التخليط لا يعارض به سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مخذول . وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : والماس على الثوب ليس ماسا ، ولا معنى للذة ; لأنه لم يأت بها نص ولا إجماع ، وإنما هي دعوى بظن كاذب ، وأما النسيان في هذا فقد قال الله تعالى { ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وهذا قول ابن عباس ، وروينا من طريق وكيع عن خصيف عن عكرمة عنه أنه قال : مس الذكر عمدا ينقض الوضوء ولا ينقضه بالنسيان .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية