الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1634 - مسألة : ولا يحل لأحد أن يهب ، ولا أن يتصدق على أحد من ولده إلا حتى يعطي أو يتصدق على كل واحد منهم بمثل ذلك .

                                                                                                                                                                                          ولا يحل أن يفضل ذكرا على أنثى ، ولا أنثى على ذكر ، فإن فعل فهو مفسوخ مردود أبدا ولا بد ، وإنما هذا في التطوع - وأما في النفقات الواجبات فلا ، وكذلك الكسوة الواجبة .

                                                                                                                                                                                          لكن ينفق على كل امرئ منهم بحسب حاجته ، وينفق على الفقير منهم دون الغني ، ولا يلزمه ما ذكرنا في ولد الولد ، ولا في أمهاتهم ، ولا في نسائهم ، ولا في [ ص: 96 ] رقيقهم ، ولا في غير ولد ، بل له أن يفضل بماله كل من أحب ، فإن كان له ولد فأعطاهم ، ثم ولد له ولد فعليه أن يعطيه كما أعطاهم ، أو يشركهم فيما أعطاهم ، وإن تغيرت عين العطية - ما لم يمت أحدهم - فيصير ماله لغيره ، فعلى الأب حينئذ أن يعطي هذا الولد ، كما أعطى غيره ، فإن لم يفعل أعطي مما ترك أبوه من رأس ماله مثل ذلك .

                                                                                                                                                                                          وروي ذلك عن جمهور السلف - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن ابن سيرين أن سعد بن عبادة قسم ماله بين بنيه في حياته فولد له بعد ما مات فلقي عمر أبا بكر فقال له : ما نمت الليلة من أجل ابن سعد هذا المولود لم يترك له شيء ؟ فقال أبو بكر : وأنا والله ، فانطلق بنا إلى قيس بن سعد نكلمه في أخيه ، فأتيناه فكلمناه فقال قيس : أما شيء أمضاه سعد فلا أرده أبدا ، ولكن أشهدكما أن نصيبي له .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : قد زاد قيس على حقه ، وإقرار أبي بكر لتلك القسمة دليل على صحة اعتدالها .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني ابن أبي مليكة أن القاسم بن محمد أخبره أن أبا بكر الصديق قال لعائشة أم المؤمنين : يا بنية ، إني نحلتك نخلا من خيبر ، وإني أخاف أن أكون آثرتك على ولدي ، وإنك لم تكوني احتزتيه ، فرديه على ولدي ؟ فقالت : يا أبتاه ، لو كانت لي خيبر بجدادها ذهبا لرددتها .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق محمد بن أحمد بن الجهم نا إبراهيم الحربي نا مؤمل بن هشام نا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية - عن بهز بن حكيم عن أبيه حكيم بن معاوية عن أبيه معاوية بن حيدة أن أباه حيدة كان له بنون لعلات أصاغر ولده ، وكان له مال كثير فجعله لبني علة واحدة ، فخرج ابنه معاوية حتى قدم على عثمان بن عفان فأخبره بذلك ، فخير عثمان الشيخ بين أن يرد إليه ماله وبين أن يوزعه بينهم ؟ فارتد ماله ، فلما مات تركه الأكابر لإخوتهم .

                                                                                                                                                                                          وبه إلى إبراهيم الحربي نا موسى بن إسماعيل نا حماد هو ابن سلمة - عن [ ص: 97 ] حميد عن الحسن بن مسلم عن مجاهد قال : من نحل ولدا له نحلا دون بنيه فمات فهو ميراث .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال : يرد من حيف الناحل الحي ما يرد من حيف الميت من وصيته .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق نا ابن جريج نا ابن طاوس عن أبيه قال في الولد : لا يفضل أحد على أحد بشعرة ، النحل باطل ، هو من عمل الشيطان ، اعدل بينهم كبارا وأبنهم به ، قال ابن جريج : قلت له : هلك بعض نحلهم ثم مات أبوهم ؟ قال : للذي نحله مثله من مال أبيه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن زهير بن نافع قال : سألت عطاء بن أبي رباح فقلت : أردت أن أفضل بعض ولدي في نحل أنحله ؟ فقال : لا ، وأبى إباء شديدا وقال : سو بينهم .

                                                                                                                                                                                          وبه إلى عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء : ينحل ولده أيسوى بينهم وبين أب وزوجة ؟ قال : لم يذكر إلا الولد ، لم أسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم غير ذلك .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فهؤلاء أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وقيس بن سعد ، وعائشة أم المؤمنين بحضرة الصحابة رضي الله عنهم لا يعرف لهم منهم مخالف ، ثم مجاهد ، وطاوس ، وعطاء ، وعروة ، وابن جريج - وهو قول النخعي ، والشعبي ، وشريح ، وعبد الله بن شداد بن الهاد ، وابن شبرمة ، وسفيان الثوري ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبي سليمان ، وجميع أصحابنا .

                                                                                                                                                                                          ثم اختلفوا ، فقال شريح ، وأحمد ، وإسحاق ، العدل أن يعطي الذكر حظين ، والأنثى حظا - وقال غيرهم : بالسوية في ذلك .

                                                                                                                                                                                          وروينا خلاف ذلك ، وإجازة تفضيل بعض الولد على بعض عن القاسم بن محمد ، وربيعة وغيرهما - وبه يقول أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي . [ ص: 98 ]

                                                                                                                                                                                          وكرهه أبو حنيفة ، وأجازه إن وقع .

                                                                                                                                                                                          وكره مالك : أن ينحل بعض ولده ماله كله - وذكروا عن الصحابة رضي الله عنهم قصة أبي بكر وعائشة ، وقول عمر من نحل ولدا له .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن وهب عن ابن لهيعة عن بكير بن الأشج عن نافع أن ابن عمر قطع ثلاثة أرؤس أو أربعة لبعض ولده دون بعض ، قال بكير : وحدثني القاسم بن عبد الرحمن الأنصاري أنه كان مع ابن عمر إذ اشترى أرضا من رجل من الأنصار ، ثم قال له ابن عمر : هذه الأرض لابني واقد ، فإنه مسكين ، نحله إياها دون ولده .

                                                                                                                                                                                          قال ابن وهب : وبلغني عن عمرو بن دينار : أن عبد الرحمن بن عوف نحل ابنته من أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أربعة آلاف درهم وله ولد من غيرها .

                                                                                                                                                                                          وذكروا ما رويناه من طريق ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب عن بشير بن أبي سعيد عن محمد بن المنكدر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { كل ذي مال أحق بماله } وما نعلم لهم حجة غير هذا .

                                                                                                                                                                                          ووجدنا من قال بقولنا يحتج بما روينا من طريق مسلم نا يحيى بن يحيى ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وإسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه - وابن أبي عمر ، وقتيبة ، ومحمد بن رمح ، وحرملة بن يحيى ، وعبد بن حميد ، قال يحيى : نا إبراهيم بن سعد ، وقال ابن أبي شيبة ، وإسحاق ، وابن أبي عمر ، كلهم عن سفيان بن عيينة ، وقال قتيبة ، وابن رمح ، كلاهما عن الليث بن سعد ، وقال حرملة : نا ابن وهب أخبرني يونس ، وقال عبد نا عبد الرزاق : أنا معمر ، ثم اتفق إبراهيم ، وسفيان ، والليث ويونس ، ومعمر ، كلهم عن الزهري عن محمد بن النعمان بن بشير ، وحميد بن عبد الرحمن بن عوف كلاهما { عن النعمان بن بشير قال : أتى بي أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني نحلت ابني هذا غلاما ، فقال : أكل بنيك نحلت ؟ قال : لا ، فاردده - } هذا لفظ إبراهيم ، ويونس ، ومعمر ، وقال سفيان ، والليث : { أكل ولدك نحلت } ؟ واتفقوا فيما سوى ذلك . [ ص: 99 ]

                                                                                                                                                                                          من طريق مالك عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، ومحمد بن النعمان بن بشير أنهما حدثاه { عن النعمان بن بشير : أن أباه أتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني نحلت ابني هذا غلاما ؟ فقال : أكل ولدك نحلت مثله ؟ قال : لا ، قال : فارجعه } .

                                                                                                                                                                                          وهكذا رويناه أيضا نصا من طريق الأوزاعي عن الزهري .

                                                                                                                                                                                          ورويناه أيضا من طريق جرير ، وعبد الله بن المبارك ، كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن النعمان بن بشير " .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق شعبة عن سعد بن إبراهيم عن عروة بن الزبير عن النعمان بن بشير ، كلهم يقول فيه " إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له { : رده ، أو اردده } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق البخاري نا حامد بن عمر نا أبو عوانة عن حصين هو ابن عبد الرحمن - عن الشعبي سمعت { النعمان بن بشير وهو على المنبر يقول : أعطاني أبي عطية فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية ، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله ؟ فقال عليه السلام : أعطيت سائر ولدك مثل هذا ؟ قال : لا ، قال : فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ؟ ارجع فرد عطيته } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم نا يحيى بن يحيى نا أبو الأحوص عن حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي { عن النعمان بن بشير قال : تصدق علي أبي ببعض ماله ، فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفعلت هذا بولدك كلهم ؟ [ ص: 100 ] قال : لا ، قال : اتقوا الله واعدلوا في أولادكم - فرجع أبي فرد تلك الصدقة } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم نا محمد بن عبد الله بن نمير نا محمد بن بشر نا أبو حيان هو يحيى بن سعيد التيمي - عن الشعبي حدثني النعمان بن بشير ، فذكر هذا الخبر ، وفيه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { فلا أشهد على جور } .

                                                                                                                                                                                          فكانت هذه الآثار متواترة متظاهرة : الشعبي ، وعروة بن الزبير ، ومحمد بن النعمان ، وحميد بن عبد الرحمن ، كلهم سمعه من النعمان .

                                                                                                                                                                                          ورواه عن هؤلاء الحفلاء من الأئمة كلهم متفق على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفسخ تلك الصدقة والعطية وردها ، وبين بعضهم أنها ردت ، وأنه عليه الصلاة والسلام أخبر أنها جور ، والجور لا يحل إمضاؤه في دين الله تعالى ، ولو جاز ذلك لجاز إمضاء كل جور وكل ظلم ، وهذا هدم الإسلام جهارا .

                                                                                                                                                                                          فوجدنا المخالفين قد تعللوا بهذا في هذا بأن قال بعضهم : إنه وهبه جميع ماله .

                                                                                                                                                                                          فقلنا : سبحان الله في نص الحديث " بعض ماله " وفي بعض الروايات الثابتة " بعض الموهبة من ماله " .

                                                                                                                                                                                          وقال آخرون : روى هذا الخبر داود بن أبي هند عن الشعبي عن النعمان { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبشير : فأشهد على هذا غيري ، أيسرك أن يكونوا أولئك في البر سواء ؟ قال : بلى ، قال : فلا إذا } .

                                                                                                                                                                                          ورواه المغيرة عن الشعبي عن النعمان ، وقال فيه { فأشهد على هذا غيري } ؟ فقلنا : هذا حجة عليكم ; لأن قوله عليه السلام " فلا إذا " نهي صحيح كاف لمن عقل .

                                                                                                                                                                                          وقوله عليه الصلاة والسلام : { أشهد على هذا غيري } لو لم يأت إلا هذا اللفظ لما كان لكم فيه متعلق .

                                                                                                                                                                                          وأما وقد روى من هو أجل من المغيرة وداود بن أبي هند الزيادة الثابتة التي لا يحل لأحد الخروج عنها من أمره عليه الصلاة والسلام برد تلك الصدقة والعطية وارتجاعها - [ ص: 101 ]

                                                                                                                                                                                          فصح بهذه الزيادة ، وبإخبار عليه الصلاة والسلام أنه جور أن معنى قوله { أشهد على هذا غيري } إنما هو الوعيد كقول الله تعالى : { فإن شهدوا فلا تشهد معهم } ليس على إباحة الشهادة على الجور والباطل ، لكن كما قال تعالى : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } .

                                                                                                                                                                                          وكقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم }

                                                                                                                                                                                          و { كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون }

                                                                                                                                                                                          وحاش له عليه السلام أن يبيح لأحد الشهادة على ما أخبر به هو أنه جور ، وأن يمضيه ولا يرده ، هذا ما لا يجيزه مسلم ، ويكفي من هذا أن نقول : تلك العطية والصدقة أحق جائز هي أم باطل غير جائز .

                                                                                                                                                                                          ولا سبيل إلى قسم ثالث ؟ فإن قالوا : حق جائز ؟ أعظموا الفرية ، إذ أخبروا أنه عليه الصلاة والسلام أبى أن يشهد على الحق - وهو الذي أتانا عن ربنا تعالى بقوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا }

                                                                                                                                                                                          وبقوله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شهيد }

                                                                                                                                                                                          وإن قالوا : إنها باطل غير جائز ؟ أعظموا الفرية ، إذ أخبروا أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بالباطل ، وأنفذ الجور ، وأمر بالإشهاد على عقده ، وكلا القولين مخرج إلى الكفر بلا مرية ، ولا بد من أحدهما .

                                                                                                                                                                                          وزاد بعضهم ضلالا وفرية فقال : معنى قوله عليه الصلاة والسلام { أشهد على هذا غيري } أي إني إمام والإمام لا يشهد ، فجمعوا فريتين ، إحداهما : الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقويله ما لم يقل فليتبوأ من أطلق هذا مقعده من النار ، والثانية قولهم : إن الإمام لا يشهد ، فقد كذبوا وأفكوا في ذلك ، بل الإمام يشهد ; لأنه أحد المسلمين المخاطبين بأن لا يأبوا إذا دعوا ، وبقوله عز وجل { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } فهذا أمر للأئمة بلا شك ولا مرية .

                                                                                                                                                                                          والعجب من قلة حياء هذا القائل ، ومن قوله ومذهبه أن الإمام إذا شهد عند حاكم من حكامه جازت شهادته ، فلو لم يكن من شأنه أن يشهد لما جازت شهادته .

                                                                                                                                                                                          ثم أتى بعضهم بما كان الخرس أولى به فقال : لعل النعمان كان كبيرا ولم يكن قبض النحل - وقائل هذا إما في نصاب التيوس جهلا ، وإما منزوع الحياء والدين ; لأن [ ص: 102 ] صغر النعمان أشهر من الشمس ، وأنه ولد بعد الهجرة بلا خلاف من أحد من أهل العلم ، وقد بين ذلك في حديث أبي حيان عن الشعبي عن النعمان ، " وأنا يومئذ غلام " ولا تطلق هذه اللفظة على رجل بالغ أصلا .

                                                                                                                                                                                          وقال بعضهم لم يكن النحل تم إنما كان استشارة وموهوا برواية شعيب بن أبي حمزة بهذا الخبر عن الزهري فقال فيه { عن النعمان ، نحلني أبي غلاما ثم جاء بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني نحلت ابني هذا غلاما فإن أذنت لي أن أجيزه أجزته } ؟ قال أبو محمد : لولا عمى هؤلاء القوم وضلالهم ما تمكن الهوى منهم هذا التمكن ، هم يسمعون في أول الخبر " نحلني أبي غلاما " وفي وسطه " يا رسول الله نحلت ابني هذا غلاما " ويقولون : لم يتم النحل .

                                                                                                                                                                                          وقول بشير " فإن أذنت لي أن أجيزه أجزته " قول صحيح ، وقول مؤمن لا يعمل إلا ما أباحه له رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظاهره بلا تأويل ، نعم ، إن أجازه النبي صلى الله عليه وسلم أجازه بشير ، وإن لم يجزه عليه الصلاة والسلام رده بشير ولم يجزه كما فعل .

                                                                                                                                                                                          وذكروا أيضا - رواية عبد الله بن عون لهذا الخبر عن الشعبي { عن النعمان بن بشير قال : نحلني أبي نحلا ثم أتى بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده فقال : أكل ولدك أعطيته هذا ؟ قال : لا ، قال : أليس تريد منهم البر مثل ما تريد من ذا ؟ قال : بلى ، قال : فإني لا أشهد } قال ابن عون : فحدثت به ابن سيرين ، فقال : إنما حدثنا أنه قال : { قاربوا بين أبنائكم } .

                                                                                                                                                                                          قال علي : والقول في هذا أنه أعظم حجة عليهم لما ذكرنا لما أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشهد على باطل ، وهذا باطل ، إذ لم يستجز عليه السلام أن يشهد عليه - وهكذا رواية عبد الصمد بن عبد الوارث عن شعبة عن سعيد لهذا الخبر ، وفيه { لا أشهد } . وأما قول ابن سيرين : قاربوا بين أبنائكم ، فمنقطع - ثم لو صح لكان حجة لنا عليهم ; لأنه أمر بالمقاربة ونهى عن خلافها ، وهم يجيزون خلاف المقاربة ، ولا يوجبون المقاربة ، فمن أضل من هؤلاء المحرومين .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 103 ] والمقاربة : هو الاجتهاد في التعديل ، كما قال تعالى : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة } فصح أن المجتهد في التعديل بين أولاده إن لم يصادف حقيقة التعديل كان مقاربا ، إذا لم يقدر على أكثر من ذلك .

                                                                                                                                                                                          ومن عجائب الدنيا احتجاجهم برواية زهير بن معاوية عن أبي الزبير عن جابر لهذا الخبر { قال جابر : قالت امرأة بشير : انحل ابني غلامك هذا ، أشهد لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أله إخوة ؟ قال : نعم ، قال : فكلهم أعطيته مثل ما أعطيته ؟ قال : لا ، قال : فليس يصلح هذا ، ألا وإني لا أشهد إلا على حق } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أفيكون أعجب من احتجاجهم بهذا الخبر وهو أعظم حجة عليهم ; لأن في أوله { ليس يصلح } وفي آخره { إني لا أشهد إلا على حق } فصح أنه ليس حقا ، وإذ ليس حقا فهو باطل وضلال قال تعالى : { فماذا بعد الحق إلا الضلال }

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : فقد قال عليه الصلاة والسلام { لا يصلح أن يبيع } في حديث الشفعة ، ثم أجزتموه إذا أجازه الشفيع ونهى عليه الصلاة والسلام عن النذر ، ثم أوجبتموه إذا وقع .

                                                                                                                                                                                          قلنا : نعم ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الخيار للشفيع إن شاء أخذ وإن شاء ترك ، وفي تركه إقرار ذلك البيع ، فوقفنا عند أمره عليه الصلاة والسلام في ذلك .

                                                                                                                                                                                          ونهى عليه السلام عن النذر ثم أمر بالوفاء به ، وأخبر أنه { يستخرج به من البخيل } فوقفنا عند أمره ، فبانون في هذا الباب أنه عليه الصلاة والسلام أمضاه بعد أن أمره برده ، ونحن أول سامع ومطيع ، وذلك ما لا يجدونه أبدا .

                                                                                                                                                                                          وأتى بعضهم بآبدة ، وهي أنه ذكر ما رويناه من طريق يحيى بن سعيد القطان عن فطر بن خليفة عن مسلم بن صبيح هو أبو الضحى - سمعت { النعمان بن بشير يقول : ذهب بي أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء أعطانيه فقال : ألك ولد غيره ؟ قال : نعم ، وصف بيده أجمع كله كذا ، ألا سويت بينهم . } [ ص: 104 ] قال أبو محمد : إن من عارض رواية كل من ذكرنا برواية فطر لمخذول ، وفطر ضعيف ، ولولا أن سفيان رواه عن أبي الضحى عن النعمان ما كان لهم فيه حجة ; لأن سائر الروايات زائدة - حكما ولفظا - على هذه الرواية ، فكيف وقد روينا في حديث فطر هذا من طريق من إن لم يكن فوق يحيى بن سعيد القطان لم يكن دونه - وهو عبد الله بن المبارك - عن فطر عن مسلم بن صبيح سمعت { النعمان بن بشير يخطب يقول : جاء بي أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهده على عطية أعطانيها ؟ فقال : هل لك بنون سواه ؟ قال : نعم قال : سو بينهم } فهذا إيجاب للتسوية بينهم .

                                                                                                                                                                                          وقد حمل المالكيون أمره عليه الصلاة والسلام بالتكبير على الفرض بمجرد الأمر ، وحمل الحنفيون أمره عليه الصلاة والسلام بالإعادة من ضحى قبل الإمام على الفرض بمجرد الأمر .

                                                                                                                                                                                          وما زالوا يهجمون على وجوه السخف معارضة للحق حتى قال بعضهم : هذا كما روي أنه عليه الصلاة والسلام أتى بخرز فقسمه للحرة والأمة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أي شبه بين هذا وبين أمره عليه الصلاة والسلام بأن يرد تلك الصدقة والعطية ، وإخباره بأنها جور لو عقلوا : فبطل كل ما موهوا به والحمد لله رب العالمين .

                                                                                                                                                                                          وأما الخبر { كل ذي مال أحق بماله } فصحيح ، فقد قال تعالى : { ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم }

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم }

                                                                                                                                                                                          فالذي حكم بإيجاب الزكاة ، وفسخ أجر البغي ، وحلوان الكاهن ، وبيع الخمر ، وبيع أم الولد ، وبيع الربا ، هو الذي فسخ الصدقة والعطية المفضل فيها بعض الولد على بعض ، ولو أنهم اعترضوا أنفسهم بهذا الاعتراض في إبطالهم النحل والصدقة التي لم تقبض لكان أصح وأثبت ، ولكنهم كالسكارى يخبطون واحتج بعضهم بأنه عمل الناس فقلنا : عمل الناس الغالب عليه الباطل .

                                                                                                                                                                                          وقال أنس : ما أعرف مما أدركت الناس عليه إلا الصلاة .

                                                                                                                                                                                          وقال بعضهم : لما جازت مفاضلة الإخوة جازت مفاضلة الأولاد ؟ [ ص: 105 ] قلنا : هذا حكم إبليس ؟ وهلا قلتم : لما جاز القود بين المرء وأخيه جاز بين المرء وولده ؟ فكان أصح .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وأما ما موهوا به عن الصحابة رضي الله عنهم فكله لا حجة لهم فيه ; لأنه لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          ثم حديث أبي بكر قد أوردناه بخلاف ما أوردوه .

                                                                                                                                                                                          وأما قول عمر ، وعثمان ، من نحل ولده نحلا ، فنحن لم نمنع نحل الولد وإنما منعنا المفاضلة ، وليس في كلامهما إباحة المفاضلة ، كما ليس فيه إباحة بيع الخمر والخنازير ولا فرق .

                                                                                                                                                                                          وقد صح عنهما المنع منها ، كما أوردنا .

                                                                                                                                                                                          وأما الرواية عن ابن عمر فليس فيها أنه لم ينحل الآخرين قبل ولا بعد بمثل ذلك ، بل فيها أنه قال : واقد ابني مسكين ، فصح أنه لم يكن نحله بعد كما نحل إخوته ، فألحقه بهم ، وأخرجه عن المسكنة ، على أنها من طريق ابن لهيعة وهو ساقط .

                                                                                                                                                                                          وكذلك القول في الرواية عن عبد الرحمن هي أيضا منقطعة ، ثم لو صحت فليس فيها أنه لم يسو قبل ولا بعد بينهم ، فبطل كل ما تعلقوا به - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وأما النفقات الواجبات : فقوله عليه الصلاة والسلام { اعدلوا بين أولادكم } إيجاب لأن ينفق على كل واحد ما لا قوام له إلا به ، ومن تعدى هذا فلم يعدل بينهم .

                                                                                                                                                                                          وكذلك هذا القول منه عليه الصلاة والسلام إيجاب للتسوية بين الذكر والأنثى ، وليس هذا من المواريث في شيء ، ولكل نص حكمه ، وليس هذا الحكم في غير الأولاد ، إذا لم يأت النص إلا فيهم .

                                                                                                                                                                                          وأما ولد الولد : فلا خلاف فيهم ، وقد كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بنو بنين وبنو بنات فلم يوجب عليه الصلاة والسلام إعطاءهم ولا العدل فيهم .

                                                                                                                                                                                          وإذا مات الولد بعد أن وهب هبة لا محاباة فيها فقد صارت لورثته وبطل أمر الأب [ ص: 106 ] فيها ، وأما إن مات الوالد فالتعديل بينهم دين عليه ، فهو من رأس ماله - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية