الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 172 ] وأما قولنا - فإن تعاسرت هي وأبو الرضيع : أمر الوالد أن يسترضع لولده امرأة أخرى ولا بد ، فلقول الله عز وجل في الآية المذكورة : { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } والخطاب للآباء والأمهات بنص القرآن . وأما قولنا - إلا أن لا يقبل الولد غير ثديها فتجبر حينئذ على إرضاعه - أحبت أم كرهت - أحب زوجها أم كره أحب أبوه أم كره ، فلقول الله عز وجل : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم } . ولقوله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } . ولقوله تعالى : { لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك } وهذه هي المضارة حقا .

                                                                                                                                                                                          وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { من لا يرحم الناس لا يرحمه الله } . رويناه من طرق شتى متواترة في غاية الصحة - : منها - من طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما قولنا - فإن مات أبو الرضيع ، أو أفلس ، أو غاب بحيث لا يقدر عليه : أجبرت الأم أيضا على إرضاعه إلا أن لا يقبل ثديها ، أو لا يكون لها لبن ، أو كان لبنها مما يضر به فإنه يسترضع له غيرها فلما ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا متصلا به نصا ، ويتبع الأب بذلك إن كان حيا وله مال ; لأن الحق عليه في ذلك .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - فإن لم تكن مطلقة لكن في عصمته أو منفسخة النكاح منه أو من عقد فاسد بجهل أو أم ولد أعتقت فاتفق أبوه وهي على استرضاعه وقبل غير ثديها فذلك جائز - فلقول الله عز وجل : { وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم } وهذا خطاب من الله تعالى لمن الأولاد لهم ، وهم الآباء والأمهات ، بلا شك .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 173 ] وأما قولنا : فإن أراد أبوه ذلك وأبت الأم إلا أن ترضعه هي فلها ذلك ، فإن أرادت هي أن تسترضع له غيرها وأبى الوالد لم يكن لها ذلك ، وأجبرت على إرضاعه ; فلأن إرادة الأب والأم لم تتفق على الاسترضاع له ، ولم يجعل الله تعالى ذلك إلا بإرادتهما .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - إلا أن لا يكون لها لبن ، أو كان لها لبن يضر به فعلى الوالد حينئذ أن يسترضع له غيرها ، فإن لم يقبل في كل ذلك إلا ثدي أمه أجبرت على إرضاعه إن كان لها لبن لا يضر به فلما ذكرنا آنفا من قوله تعالى : { لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده } مع سائر ما ذكرنا في ذلك الفصل .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - فإن كان لا أب له إما بفساد الوطء بزنى أو إكراه أو لعان أو بحيث لا يلحق بالذي تولد من مائه ، وإما قد مات أبوه فالأم تجبر على إرضاعه فلقول الله تعالى : { لا تضار والدة بولدها } ولما ذكرنا مع هذه الآية في ذلك الفصل .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - إلا أن لا يكون لها لبن أو كان لها لبن يضر به أو ماتت أمه أو غابت حيث لا يقدر عليها فيسترضع له غيرها سواء كان في ذلك كله للرضيع مال أو لم يكن ، فلما ذكر من قوله تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ، وما أوردنا في وجوب الرحمة .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - فإن كان له أب أو أم فأراد الأب فصاله دون رأي الأم ، أو أرادت الأم فصاله دون رأي الأب : فليس ذلك لمن أراده منهما قبل تمام الحولين - كان في الفصال ضرر بالصغير أو لم يكن .

                                                                                                                                                                                          فإن أراد جميعا فصاله قبل الحولين فإن كان لا ضرر في ذلك على الرضيع فلهما ذلك ، فإن كان في ذلك ضرر على الرضيع لمرض به ، أو لضعف بنيته أو لأنه لا يقبل الطعام : لم يجز لهما ذلك ، فلقول الله عز وجل : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } .

                                                                                                                                                                                          ولقوله تعالى : { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما } .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 174 ] وأما مراعاة ضرر الرضيع فلما ذكرنا من قوله تعالى : { لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده } مع ما ذكرنا مع هذه الآية هنالك .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - فإن أرادت الأم أو الأب التمادي على إرضاع الرضيع بعد الحولين فلهما ذلك فلأنه لم يأت نص بالمنع من ذلك ، ولا بأن هذا من حقوق زوج إن كان لها وهو صلة لابنها وقد أوجب الله تعالى صلة الرحم فليس لأحد منعها مما أوجبه الله تعالى عليها للثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { ولا طاعة في معصية } .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - فإن كان الولد لا يلحق نسبه بالذي تولد من مائه أو كان أبوه ميتا أو غائبا حيث لا يقدر عليه ولا وارث للرضيع فالرضاع على الأم ولا شيء لها على أحد من أجل الرضاعة لقول الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } وليس هاهنا مولود له ولا وارث فهو عليها فقط .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - فإن كانت عصمة الأب بزواج صحيح أو ملك يمين صحيح فعلى الوالد نفقتها وكسوتها كما كان قبل ذلك ولا مزيد فلقول الله عز وجل : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - فإن كانت في غير عصمته ، فإن كانت أم ولد فأعتقها أو منفسخة النكاح بعد صحته بغير طلاق لكن بما ذكرنا قبل أن النكاح ينفسخ به بعد صحته أو موطوءة بعقد فاسد بجهل يلحق فيه الولد بوالده ، أو طلقها طلاقا رجعيا وهو رضيع فلها في كل ذلك على والده النفقة والكسوة بالمعروف فقط ، وهو للمطلقة مدة عدتها .

                                                                                                                                                                                          فإن كان فقيرا كلفت إرضاع الولد ولا شيء لها على الأب الفقير فإن غاب وله مال أتبع بالنفقة والكسوة متى قدر عليه أو على مال له .

                                                                                                                                                                                          وكذلك إن امتنع وله مال لقوله عز وجل : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وإذا أوجب الله تعالى ذلك لها فهو دين عليه إن كان له مال فإن لم يكن له مال فلقول الله عز وجل : { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } .

                                                                                                                                                                                          وإذا لم يكلف شيئا فلا يجوز أن يتبع إن أيسر بما لم يكلفه قط ، لكن إن أيسر والرضاع متماد كلف من حين يوسر . [ ص: 175 ]

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - فإن كانت مطلقة ثلاثا ، أو أتمت عدة الطلاق الرجعي بوضعه ، فليس لها على أبيه إثر طلاقه لها ثلاثا ، أو آخر ثلاث ، أو إثر تمام عدتها من الطلاق الرجعي إلا أجرة الرضاع فقط .

                                                                                                                                                                                          فلقول الله تعالى : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } .

                                                                                                                                                                                          وقد بينا قبل أن هذا النص إنما هو في المطلقات طلاقا رجعيا فقط ، بحديث فاطمة بنت قيس .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - فإن رضيت هي بأجرة مثلها ، فإن الأب يجبر على ذلك - أحب أم كره - ولا يلتفت إلى قوله : أنا أجد من يرضعه بأقل أو بلا أجرة فلقوله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وائتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى }

                                                                                                                                                                                          فأوجب الله تعالى لهن الأجرة ، إلا مع التعاسر ، والتعاسر في لغة العرب التي بها نزل القرآن : فعل من فاعلين ، فإذا قنعت هي بأجرتها التي أوجبها الله تعالى لها بالمعروف ؟ فلم تعاسره ، وإذا لم تعاسره : فهي على حقها في الأجرة المؤتمرة بالمعروف .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - فإن لم ترض هي إلا بأكثر من أجرة مثلها وأبى الأب إلا أجرة مثلها ، فهذا هو التعاسر ، وللأب حينئذ أن يسترضع لولده غيرها بأجرة مثلها ، أو بأقل ، أو بلا أجرة إن وجد .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - إلا أن لا يقبل غير ثديها ، أو لا يجد الأب إلا من لبنها مضر بالرضيع ، أو من تضيعه ، أو كان الأب لا مال له : فتجبر الأم حينئذ على إرضاعه ، وتجبر هي والوالد حينئذ على أجرة مثلها ، إن كان له مال ، وإلا فلا شيء عليه .

                                                                                                                                                                                          فلما ذكرنا من قول الله عز وجل : { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا } .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 176 ] ولما ذكرنا من قوله تعالى : { لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده } ولما ذكرنا من وجوب الرحمة .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - كل ما ذكرنا أنه يجب على الوالد في الرضاع من أجرة أو كسوة أو نفقة ، وهي الرزق - فهو واجب عليه - كان للرضيع مال أو لم يكن ، صغيرة كانت أو لم تكن ، زوجها أبوها أو لم يكن - بخلاف النفقة على الفطيم أو الفطيمة ; فلأن الله عز وجل أوجب كل ما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                          ولم يستثن إن كان للرضيع مال ، ولا إن كانت صغيرة ولها زوج { وما كان ربك نسيا } .

                                                                                                                                                                                          وأوجب عز وجل أن ينفق على كل أحد من ماله ، وعلى الزوج للزوجة ، ولا يجوز ضرب أوامر الله تعالى بعضها ببعض ، لقوله تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا - فإن مات الأب فكل ما ذكرنا أنه يجب على الوالد من نفقة أو كسوة أو أجرة فهو على وارث الرضيع إن كان له وارث على عددهم ، لا على قدر مواريثهم منه لو مات - والأم من جملتهم إن كانت ترثه إن مات - وزوج الصغيرة المرضع أيضا من جملتهم - إن كان يرثها لو ماتت - سواء كان للرضيع أو الرضيعة مال أو لم يكن - بخلاف نفقتهما وكسوتهما بعد الفطام فلقول الله عز وجل : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك } .

                                                                                                                                                                                          فإن قيل : إنما على الوارث أن لا يضار ، وقد روي ذلك عن ابن عباس من طريق فيها أشعث بن سوار وهو ضعيف ؟

                                                                                                                                                                                          قلنا : نعم ، ومن المضارة ترك الرضيع يضيع ، وكيف وقوله تعالى : { مثل ذلك } لا يختلف أهل العلم باللغة العربية التي بها خاطبنا الله عز وجل في أن ذلك إشارة إلى الأبعد لا إلى - الأقرب - فصح أنه إشارة إلى الرزق ، والكسوة يقينا .

                                                                                                                                                                                          وقد ذكرنا من قال بهذا في " كتاب النفقات " من ديواننا هذا فأغنى عن إعادته كعمر بن الخطاب ، وزيد بن ثابت ، وغيرهما - ولا حجة لمن خالف ذلك مع القرآن .

                                                                                                                                                                                          وهذا مما خالفوا فيه عمر ، وزيد بن ثابت ولا يعرف لهما في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم ، وهم يشنعون هذا إذا وافق أهواءهم .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 177 ] وأما قولنا : فإن لم يكن له وارث فرضاعه على الأم - وارثة كانت أو غير وارثة - لا شيء لها من أجل ذلك في مال الرضيع - إن كان له مال - بخلاف نفقته بعد الفطام إن كان له مال ; فلقول الله عز وجل : { لا تضار والدة بولدها } .

                                                                                                                                                                                          ولقوله تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } . وأما قولنا - فإن كانت مملوكة ، وولدها عبد لسيدها أو لغيره : فرضاعه على الأم بخلاف نفقته وكسوته بعد الفطام - فلهذين النصين المذكورين أيضا ، وليس السيد وارثا لعبده ; لأنه يأخذ ماله - وإن كان كافرا - بعد موته .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا : فإن كانت مملوكة وولدها حر فإن كان له أب أو وارث : فالنفقة لها ، والكسوة والأجرة على الأب ، أو على الوارث كما قدمنا ، فإن لم يكن له وارث فرضاعه على أمه ، فلما ذكرنا آنفا ، فأغنى عن إعادته وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا : فإن ماتت ، أو مرضت ، أو أضر به لبنها ، أو كانت لا لبن لها ، ولا مال لها : فإرضاعه على بيت المال - فإن منع فعلى الجيران : يجبرهم الحاكم على ذلك ، فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من ترك دينا أو ضياعا فإلي أو علي } أو كما قال صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          ولقول الله تعالى : { وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب } وهذا من الإحسان المفترض المأمور به - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية