الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا فيما احتج به من قال : لا يحرم من الرضاع أقل من خمس رضعات ؟ فوجدنا ما رويناه من طريق حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، كلاهما عن عمرة عن عائشة أم المؤمنين قالت : نزل القرآن أن لا يحرم إلا عشر رضعات ، ثم نزل بعد وخمس معلومات هذا لفظ يحيى بن سعيد . ولفظ عبد الرحمن : قالت " كان مما نزل من القرآن ثم سقط : لا يحرم من الرضاع إلا عشر رضعات ، ثم نزل بعد وخمس معلومات " .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق القعنبي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت " كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات يحرمن ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن " .

                                                                                                                                                                                          وروينا أيضا - معناه من طريق مسلم أنا القعنبي ، ومحمد بن المثنى ، قال ابن المثنى أنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، وقال القعنبي : أنا سليمان بن بلال ، ثم اتفق سليمان ، وعبد الوهاب كلاهما عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة أم المؤمنين قالت : لما نزل في القرآن عشر رضعات معلومات ، ثم نزل أيضا خمس معلومات .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق أنا ابن جريج أنا ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير عن [ ص: 198 ] عائشة أم المؤمنين { أن أبا حذيفة تبنى سالما وهو مولى امرأة من الأنصار كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيدا ، وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث من ميراثه حتى أنزل الله عز وجل : { ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم } فردوا إلى آبائهم فمن لم يعرف له أب فمولى وأخ في الدين ، فجاءت سهلة فقالت : يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا يأوي معي ومع أبي حذيفة ويراني فضلا ، وقد أنزل الله فيه ما قد علمت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أرضعيه خمس رضعات } فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وهذان خبران في غاية الصحة وجلالة الرواة وثقتهم ، ولا يسع أحدا الخروج عنهما .

                                                                                                                                                                                          وهذا الخبر من رواية ابن جريج يبين وهم رواية ابن إسحاق لهذا الخبر ، فذكر فيه عشر رضعات أو نسخه ، إذ قد يمكن أن يكون عليه الصلاة والسلام أفتاها بالعشر قبل أن ينزل التحريم بالخمس ، ثم أفتاها بالخمس بعد نزولها ، وقد لا يكون بين الأمرين إلا بعض ساعة .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا فيما احتج به من رأى أن التحريم بقليل الرضاعة وكثيرها ؟ فوجدناهم يحتجون بقول الله عز وجل : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } قالوا : فعم الله عز وجل ولم يخص .

                                                                                                                                                                                          ثم ذكروا آثارا صحاحا - : مثل { قوله عليه الصلاة والسلام في بنت حمزة : إنها ابنة أخي من الرضاعة } .

                                                                                                                                                                                          { وقوله صلى الله عليه وسلم في بنت أبي سلمة : إنها ابنة أخي من الرضاعة } .

                                                                                                                                                                                          { وقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة أم المؤمنين في عمها من الرضاعة : إنه عمك فليلج عليك ، وفي عم حفصة أم المؤمنين : أرى فلانا - يعني عمها من الرضاعة } . [ ص: 199 ]

                                                                                                                                                                                          وبالخبر الثابت في أمر سالم مولى أبي حذيفة .

                                                                                                                                                                                          ورويناه من طريق سفيان بن عيينة وسفيان الثوري عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أيوب السختياني ، وابن جريج عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مالك بن أنس ، ويونس بن يزيد ، وجعفر بن ربيعة ، كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق شعبة عن حميد بن نافع عن زينب بنت أم سلمة أم المؤمنين عن عائشة أم المؤمنين ، كلهم لم يذكروا إلا " أرضعيه " فقط دون ذكر عدد .

                                                                                                                                                                                          وذكروا قوله عليه الصلاة والسلام : { إنما الرضاعة من المجاعة ولا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء } قالوا : فلم يذكر عليه الصلاة والسلام في كل ذلك عددا .

                                                                                                                                                                                          وذكروا مما لا خير فيه - : خبرا رويناه من طريق ابن وهب عن مسلمة بن علي عن رجال من أهل العلم عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن أم الفضل بنت الحارث قالت { سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عما يحرم من الرضاعة ؟ فقال : الرضعة والرضعتان } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : أما هذا الخبر ، فخبر سوء موضوع ، ومسلمة بن علي فساقط لا يروى عنه ، قد أنكر الناس على ابن وهب الرواية عنه ، ثم ذكره عمن لم يسمه ، فلا معنى لأن يشتغل بالباطل .

                                                                                                                                                                                          وأما الأخبار الثابتة التي ذكرنا قبل والآية المذكورة ، فإن كل ذلك حق ، لكن لما جاءت رواية الثقات التي ذكرنا بأنه لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان ، وأنه إنما يحرم خمس رضعات : كانت هذه الأخبار زائدة على ما في تلك الآية ، وفي تلك الأخبار ، وكانت [ ص: 200 ] رواية ابن جريج في حديث أبي حذيفة " أرضعيه خمس رضعات ، هي زائدة على رواية من ذكرنا ، وابن جريج ثقة لا يجوز ترك زيادته التي انفرد بها .

                                                                                                                                                                                          وقد فعل المخالفون لنا مثل هذا حيث يجب أن يفعل ، وحيث لا يجب أن يفعل - : كتركهم عموم القرآن في قطع السارق لرواية فاسدة في العشرة الدراهم ولرواية صالحة في ربع الدينار .

                                                                                                                                                                                          وكزيادة المالكيين التدلك في الغسل على ما في القرآن لغير نص ، وكزيادة الحنفيين الوضوء بالنبيذ ، ومن الرعاف ، والقيء لروايات في غاية الفساد .

                                                                                                                                                                                          وترك الزيادة التي يرويها العدل خطأ لا تجوز ; لأنها رواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثابتة فمن خالفها فقد خالف أمره عليه الصلاة والسلام - فهذا لا يجوز .

                                                                                                                                                                                          واعترضوا بالآثار التي جاءت بخمس رضعات محرمات بما رويناه عن طاوس أنه قال : كان لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم رضاعات محرمات ، ولسائر النساء رضاعات معلومات ، ثم ترك ذلك بعد .

                                                                                                                                                                                          وأنه سئل عن قول من يقول : لا يحرم من الرضاع دون سبع رضعات ثم صار إلى خمس - وقال طاوس : قد كان ذلك فحدث بعد ذلك أمر جاء بالتحريم المرة الواحدة تحرم .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذا قول طاوس لم يسنده إلى صاحب فضلا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومثل هذا لا تقوم به حجة ، ولا يحل القطع بالنسخ بظن تابعي .

                                                                                                                                                                                          وقالوا أيضا : قول الراوي : فمات عليه الصلاة والسلام وهو مما يقرأ من القرآن ؟ قول منكر ، وجرم في القرآن ، ولا يحل أن يجوز أحد سقوط شيء من القرآن بعد موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ .

                                                                                                                                                                                          فقلنا : ليس كما ظننتم إنما معنى قول عبد الله بن أبي بكر في روايته لما ذكرتم ، [ ص: 201 ] ثم - إنه عليه الصلاة والسلام - مات وهو مما يقرأ مع القرآن بحروف الجر يبدل بعضها من بعض ، ومما يقرأ من القرآن الذي بطل أن يكتب في المصاحف ، وبقي حكمه ، كآية الرجم سواء سواء - فبطل اعتراضهم المذكور .

                                                                                                                                                                                          واعترضوا على الخبر الثابت الذي فيه { لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الرضعة ولا الرضعتان } بأن قالوا : هو خبر مضطرب في سنده ، فمرة عن عائشة ، ومرة عن الزبير ؟

                                                                                                                                                                                          فقلنا : فكان ماذا ؟ هذا قوة للخبر أن يروى من طرق ، وما يعترض بهذا في الآثار إلا جاهل بما يجب في قول النقل الثابت ; لأنه اعتراض لا دليل على صحته أصلا ، إنما هو دعوى فاسدة .

                                                                                                                                                                                          والعجب كله أنهم يعيبون الأخبار الثابتة بنقلها مرة عن صاحب ، ومرة عن آخر ، ثم لا يفكر الحنفيون في أخذهم بحديث أيمن فيما تقطع فيه يد السارق ، وهو حديث ساقط مضطرب فيه أشد الاضطراب .

                                                                                                                                                                                          ولا يفكر المالكيون في أخذهم في ذلك بحديث ربع الدينار .

                                                                                                                                                                                          وفي الصدقة في الفطر بخبر أبي سعيد ، وكلاهما أشد اضطرابا من خبر الرضعتين ، ولكنهم يتعلقون بما أمكنهم .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : عروة بن الزبير أحد رواة ذلك الخبر ، وقد روي عنه : أن قليل الرضاع وكثيره لا يحرم ؟ فقلنا : فكان ماذا ؟ إنما الحجة في روايته لا رأيه ، وقد أفردنا في كتابنا المعروف ب " الإعراب " اضطراب الطائفتين في هذا المعنى ، وأخذهم برواية الراوي وتركهم لرأيه في خلافه لما رواه .

                                                                                                                                                                                          وذكروا أيضا - اعتراضات في غاية الفساد والغثاثة ، لا يخفى سقوطها على ذي فهم ، عمدتها ما ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق - .

                                                                                                                                                                                          فوجب الأخذ بهذه الأخبار ، ولما كان عليه الصلاة والسلام قد أخبر أنه { لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان ولا المصة ولا المصتان } علمنا أن المصة غير الرضعة ، فمن ذلك قلنا : إن استنفاد الراضع ما في الثديين متصلا رضعة واحدة ، وأن المصة لا تحرم ، إلا إذا علمنا أنها قد سدت مسدا من الجوع ولا يوقن بوصولها إلى الأمعاء ، وأن اليسير من ذلك الذي لا يسد مسدا من الجوع ، ولا يوقن بوصوله إلى الأمعاء لا يحرم شيئا أصلا - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية