الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2027 - مسألة : ومن قتل مؤمنا عمدا في دار الإسلام أو في دار الحرب - وهو يدري أنه مسلم - فولي المقتول مخير إن شاء قتله بمثل ما قتل هو به وليه : من ضرب ، أو طعن ، أو رمي ، أو صب من حالق ، أو تحريق أو تغريق ، أو شدخ ، أو إجاعة أو تعطيش ، أو خنق أو غم ، أو وطء فرس ، أو غير ذلك - لا تحاش شيئا .

                                                                                                                                                                                          وإن شاء عفا عنه - أحب القاتل أم كره - لا رأي له في ذلك ، وليس عفو الولي عن القود وسكوته عن ذكر الدية بذلك بمسقط للدية ، بل هي واجبة للولي ، وإن لم يذكرها ، إلا أن يلفظ بالعفو عن الدية أيضا .

                                                                                                                                                                                          وإن شاء عفا عنه بما يتفقان عليه ، فهاهنا خاصة إن لم يرضه القاتل لم يلزمه ، ويكون للولي القود ، أو الدية ، فإن أبى الولي إلا أكثر من الدية لم يلزم القاتل أن يزيده على الدية وبرة فما فوقها .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رضي الله عنه : وقد اختلف الناس في هذا - :

                                                                                                                                                                                          فقالت طائفة : ليس لولي المقتول إلا القود فقط ، أو العفو ، ولا تجب له الدية إلا برضا القاتل ، فإن أبى الولي إلا أكثر من الدية - ولو أضعافا كثيرة فإن رضي بذلك القاتل جاز ذلك ، وإلا فلا - صح هذا القول عن إبراهيم النخعي ، وعن أبي الزناد - وهو قول أبي حنيفة ، وسفيان الثوري ومالك ، وابن شبرمة ، والحسن بن حي ، وأصحابهم .

                                                                                                                                                                                          وصح قولنا عن ابن عباس : روينا من طريق البخاري أنا قتيبة بن سعيد أنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله عز وجل : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } قال : كان في بني إسرائيل القود ، ولم تكن فيهم الدية ، قال : فالعفو - : أن يقبل الدية في العمد يطلب بمعروف ، ويؤدي بإحسان . [ ص: 240 ]

                                                                                                                                                                                          ومن طريق حماد بن سلمة أنا عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس في الآية المذكورة هو العمد يرضى أهله بالدية اتباعا من الطالب بالمعروف وأداء إليه من المطلوب بإحسان . وصح أيضا عن مجاهد ، والشعبي ، وعن عمر بن عبد العزيز - : كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل قاضي صنعاء قال : كتب عمر بن عبد العزيز في امرأة قتلت رجلا - إن أحب الأولياء أن يعفوا عفوا - وإن أحبوا أن يقتلوا قتلوا ، وإن أحبوا أن يأخذوا الدية أخذوها ، وأعطوا امرأته ميراثها من الدية .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ، قال : يجبر القاتل على إعطاء الدية ، فإن اتفقوا على ثلاث ديات : فهو جائز ، إنما اشتروا به صاحبهم . وهو قول سعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، والأوزاعي ، والشافعي وأبي ثور ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبي سليمان ، وأصحابهم ، وجمهور أصحاب الحديث .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رضي الله عنه : فنظرنا فيما احتج به أهل هذا القول ؟ فوجدنا قول الله عز وجل : { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } .

                                                                                                                                                                                          فالضمير في قوله تعالى : { له } وفي { من أخيه } راجع إلى القاتل ، لا يجوز غير ذلك ; لأنه هو الذي عفي له من ذنبه في قتل أخيه المسلم .

                                                                                                                                                                                          وما روينا من طريق البخاري أنا أبو نعيم - هو الفضل بن دكين - أنا شيبان عن يحيى هو ابن أبي كثير - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة فذكر حديثا وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين : إما يودى وإما أن يقاد } .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 241 ] ومن طريق أبي داود السجستاني أنا مسدد أنا يحيى بن سعيد القطان أنا ابن أبي ذئب أنا سعيد بن أبي سعيد المقبري قال : سمعت أبا شريح الكعبي يقول في خبر { فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين : بين أن يأخذوا العقل وبين أن يقتلوا } فهذا نص جلي لا يحتمل تأويلا بأن الخيار في الدية أو القود إلى ولي المقتول لا إلى القاتل ، وقد وافقونا على أنه إن عفا واحد من الأولياء فأكثر : أن الدية واجبة للباقين - أحب القاتل أم كره - وكذلك عندهم : إذا بطل القود بأي وجه بطل ، كالأب قتل ابنه ، أو نحو ذلك ، فأي فرق بين امتناع القود بهذا وبين امتناعه بعفو الولي .

                                                                                                                                                                                          قالوا : ولا يصح خلاف ابن عباس في ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم .

                                                                                                                                                                                          ثم نظرنا فيما يشغب به أهل القول الذي ذكرنا أولا ، فوجدناهم يحتجون - : بما روينا من طريق أحمد بن شعيب أخبرني هلال بن العلاء أنا سعيد بن سليمان أنا سليمان بن كثير أنا عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من قتل في رميا أو عميا يكون بينهم بحجر أو بسوط أو عصا فعقله عقل خطأ ومن قتل عمدا فقود يديه ، فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله } ، وذكر الحديث .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن وهب أخبرني سفيان الثوري عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من اغتبط مؤمنا قتلا فهو موديه إلا أن يرضى ولي المقتول وذكر الحديث - وفي آخره : { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } والرسول . } وبما ناه أحمد بن قاسم حدثني أبي قاسم بن محمد بن قاسم أنا جدي قاسم بن أصبغ أنا أحمد بن زهير أنا الحكم بن موسى أنا يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود الجزري [ ص: 242 ] عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه إلى أهل اليمن مع عمرو بن حزم فمن اغتبط مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول } .

                                                                                                                                                                                          وبما روينا من طريق أبي داود أنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة أنا يحيى بن سعيد - هو القطان - عن عوف الأعرابي عن حمزة أبي عمر العايذي الضبي حدثني علقمة بن وائل حدثني وائل بن الأوزاعي ، قال { : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جيء بقاتل في عنقه النسعة فقال عليه الصلاة والسلام لمولى المقتول : أتعفو ؟ قال : لا ، قال : أتأخذ الدية ؟ قال : لا ، قال : أفتقتل ؟ قال : نعم ، وفي آخر الحديث : أنه عليه الصلاة والسلام قال له أما إنك إن عفوت عنه فإنه يبوء بإثمك وإثم صاحبك فعفا عنه . } ومن طريق أبي داود أنا محمد بن عوف الطائي أنا عبد القدوس بن الحجاج ثنا يزيد بن عطاء الواسطي عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقاتل فقال له : هل لك من مال تؤدي ديته ؟ قال : لا ، قال : أفرأيت إن أرسلتك تسأل الناس تجمع ديته ؟ قال : لا ، قال : فمواليك يعطونك ديته ؟ قال : لا ، قال لولي المقتول : خذه - ثم قال عليه الصلاة والسلام : أما إنه إن قتله كان مثله ، وذكر باقي الحديث - وفيه : أنه عليه الصلاة والسلام قال له أرسله يبوء بإثم صاحبك وإثمه ، فيكون من أصحاب النار ؟ فأرسله } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أحمد بن شعيب أنا عيسى بن يونس الفاخوري أنا ضمرة عن عبد الله بن شوذب عن ثابت البناني عن أنس بن مالك ، { أن رجلا أتى بقاتل وليه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام : اعف عنه ؟ فأبى ، فقال : خذ الدية ؟ فأبى ، قال : اذهب فاقتله ، فإنك مثله فذكر الحديث - وفيه أنه أرسله } .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 243 ] قالوا : ففي حديث ابن عباس ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعمرو بن حزم : القود إلا أن يرضى أولياء المقتول .

                                                                                                                                                                                          وفي حديث وائل بن حجر ، وأنس : الفرق بين العفو ، وبين أخذ الدية .

                                                                                                                                                                                          قالوا : فلو كانت الدية واجبة بالعفو وإن لم يذكرها الولي العامي لاستغنى عليه الصلاة والسلام عن إعادة ذكرها .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية