الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 5 ] بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر واختم بخير يا كريم

                                                                                                                                                                                          2029 - مسألة : قال أبو محمد : وأما الدية في قتل الخطأ فعلى العصبة وهم العاقلة ، وهذا مما لا خلاف فيه ، إلا شيء ذكر عن عثمان البتي أنه قال : لا أدري ما العاقلة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وقد يمكن أن يحتج لهذا القول بقول الله تعالى { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : لولا أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان هذا القول الذي لا يجوز خلافه ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي ولاه الله البيان عن مراده تعالى ، فقال { لتبين للناس ما نزل إليهم } فوجدنا ما ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا قتيبة نا الليث بن سعد عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال : { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة ، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها ، وأن العقل على عصبتها } ، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقل على العصبة كما ترى فوجب الوقوف عند ذلك - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فمن لم تكن له عصبة فعلى بيت المال على ما نذكره في بابه إن شاء الله تعالى وبه نتأيد .

                                                                                                                                                                                          اعتراض في قتل الذمي المسلم

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فإن قال قائل : إنكم تقولون : إن الذمي إذا قتل مسلما عمدا [ ص: 6 ] بطلت ذمته ، وعاد حربيا ، وقتل ولا بد ، واستفيء ماله فكيف تقولون فيما حدثكم به عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا إسحاق بن منصور أنا بشر بن عمر قال : سمعت مالك بن أنس يقول : ثني أبو ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره عن رجال من كبراء قومه : { أن عبد الله بن سهل ، ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في عين أو فقير فأتى يهود فقال : أنتم والله قتلتموه ؟ قالوا : والله ما قتلناه ، ثم أقبل حتى قدم على قومه فذكر ذلك لهم ، ثم أقبل هو وأخوه حويصة - وهو أكبر منه - وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيصة ليتكلم ، وهو الذي كان بخيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحيصة : كبر كبر - يريد السن - فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن يؤذنوا بحرب } وذكر باقي الخبر فهذا قتل كافر لمؤمن وفيه الدية .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فجوابنا - وبالله تعالى التوفيق - إننا على يقين - ولله الحمد - من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلزم أحدا دية إلا قاتلا عمدا ، أو عاقلة قاتل خطأ أو من بيت مال المسلمين عمن لا عاقلة له ، فإلزامه عليه السلام اليهود الدية لا يخلو بيقين لا إشكال فيه مع أحد وجهين لا ثالث لهما : إما أن يكونوا قاتلي عمد ، أو إما أن يكونوا عاقلة قاتلي خطأ - هذا ما لا يمكن أن يكون سواه ، فوجب أن ينظر أي الوجهين هو المراد في هذا المكان ؟ فنظرنا في ذلك فوجدنا حكم قاتل العمد بيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه عند غيرنا القود ، أو العفو فقط ، أو ما تصالحوا به ، وحكمه عند طائفة من أهل العلم أيضا بتخيير الولي بين القود ، أو العفو ، أو الدية ، وحكمه عندنا التخيير بين القود ، أو العفو ، أو الدية ، أو ما تصالحوا عليه ، فالقود على كل هذه الأقوال حكم قتل العمد والدية - بلا خلاف فيه - في مال القاتل ، وحكم قاتل الخطأ الدية ، أو العفو عنها فقط .

                                                                                                                                                                                          فلما وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكر قودا أصلا في هذه الرواية ، وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغفل حقا للحارثيين إلا ويذكره لهم ، ولا يسكت عنه ، فيبطل حقهم ؟ علمنا [ ص: 7 ] أن حكمه بالدية بذلك لا يخلو من أحد وجهين - : من أن يكون قتل عمد ولا يعرف قاتله ، فيحكم فيه بحكم ناقض الذمة ، أو قتل خطأ - فإن كان قتل عمد لا يعرف قاتله ، فنحن على يقين من أنه عليه السلام لا يلزمهم دية لا تجب عليهم .

                                                                                                                                                                                          ولا خلاف بين الحاضرين من خصومنا في أن العاقلة لا تؤدي عن قاتل عمد ، ولا أوجب ذلك نص ، فبطل هذا الحكم .

                                                                                                                                                                                          ولم يبق إلا أنه الوجه الثاني - وهو قتل الخطأ ، وهذا هو الحق ، لأن القتل قد صح بلا شك ، وممكن أن يكون بقصد ، وممكن أن لا يكون بقصد ، فلا يجوز أن يحكم عليهم بأنهم قصدوه إلا ببرهان من بينة ، أو إقرار ، أو نص موجب لذلك - فبقي أنهم لم يقصدوه ، وهذا هو الخطأ نفسه .

                                                                                                                                                                                          ثم قول النبي صلى الله عليه وسلم { وإما أن يؤذنوا بحرب } دليل على صحة ما قلناه من أنهم بخروجهم عما يجب عليهم ينقضون الذمة ويعودون حربيين .

                                                                                                                                                                                          قال علي : فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم حكم الخطأ في القتل الموجود إن اعترفوا بذلك ، ثم أعلمهم حكم العمد في غير هذه الرواية ، وأعلمهم أنهم إن حلفوا على رجل منهم أسلم إليهم ولاح وجه الحديث - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          فإن قال : فكيف تصنعون بالرواية الأخرى التي حدثكم بها عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى أنا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا عبيد الله بن عمر القواريري نا حماد بن زيد نا يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة ، ورافع بن خديج : أن محيصة بن مسعود ، وعبد الله بن سهل فذكر الحديث ، وفيه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته ؟ قالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف } وذكر باقي الخبر .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فإن هذا القول حق ، ومعاذ الله أن نخالفه ، بل هو نص قولنا ، وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يدفع القاتل منهم برمته ، وهذا يقتضي قتله ، ويقتضي أيضا استرقاقه ، لأنه عموم لا يخرجه منه شيء مما يقع عليه مقتضى لفظه إلا بنص أو إجماع - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية