الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          2220 - مسألة : ومن وطئ امرأة أبيه أو حريمته ، بعقد زواج أو بغير عقد ؟

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : نا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا أحمد بن زهير نا عبد الله بن جعفر الرقي ، وإبراهيم بن عبد الله ، قال الرقي : نا عتبة بن عمرو الرقي عن زيد بن أبي أنيسة عن عدي بن ثابت عن يزيد بن البراء بن عازب عن أبيه ، وقال إبراهيم : نا هشيم عن أشعث بن سوار عن البراء بن عازب ، ثم اتفقا - واللفظ { لهشيم - قال : مر بي عمي الحارث بن عمرو وقد عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له : أي عم أين بعثك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه ، فأمرني أن أضرب عنقه ؟ }

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : وهذا الخبر من طريق الرقين صحيح نقي الإسناد .

                                                                                                                                                                                          وأما من طرق هشيم فليست بشيء ، لأن أشعث بن سوار ضعيف .

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى أحمد بن زهير نا يوسف بن منازل نا عبد الله بن إدريس نا خالد بن أبي كريمة { عن معاوية بن قرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أباه - هو جد معاوية - إلى رجل أعرس بامرأة أبيه فضرب عنقه وخمس ماله } .

                                                                                                                                                                                          قال أحمد بن إبراهيم : قال يحيى بن معين : هذا الحديث صحيح ، ومن رواه [ ص: 200 ] فأوقفه على معاوية فليس بشيء ، قد كان ابن إدريس أرسله لقوم وأسنده لآخرين .

                                                                                                                                                                                          قال ابن معين : ويوسف بن منازل ثقة نا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، وأبو قلابة ، قال أبو قلابة : حدثنا المغيرة بن بكار نا شعبة سمعت الربيع بن الركين يقول : سمعت عدي بن ثابت يحدث عن { البراء ، قال : مر بنا ناس ينطلقون قلنا : أين تريدون ؟ قالوا : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجل أتى امرأة أبيه أن نضرب عنقه ؟ }

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد رحمه الله : هذه آثار صحاح تجب بها الحجة ولا يضرها أن يكون عدي بن ثابت حدث به مرة عن البراء ، ومرة عن يزيد بن البراء عن أبيه فقد يسمعه من البراء ويسمعه من يزيد بن البراء فيحدث به مرة عن هذا ومرة عن هذا ، فهذا سفيان بن عيينة يفعل ذلك ، يروي الحديث عن الزهري مرة ، وعن معمر عن الزهري مرة ، قال : وقد اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة : من تزوج أمه أو ابنته أو حريمته أو زنى بواحدة منهن ، فكل ذلك سواء ، وهو كله زنى ، والزواج كله زواج إذا كان عالما بالتحريم ، وعليه حد الزنى كاملا ، ولا يلحق الولد في العقد .

                                                                                                                                                                                          وهو قول الحسن ، ومالك ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن - صاحبي أبي حنيفة - إلا أن مالكا فرق بين الوطء في ذلك بعقد النكاح ، وبين الوطء في بعض ذلك بملك اليمين ، فقال : فيمن ملك بنت أخيه ، أو بنت أخته ، وعمته ، وخالته ، وامرأة أبيه ، وامرأة ابنه بالولادة ، وأمه نفسه من الرضاعة ، وابنته من الرضاعة ، وأخته من الرضاعة وهو عارف بتحريمهن ، وعارف بقرابتهن منه ثم وطئهن كلهن عالما بما عليه في ذلك ، فإن الولد لاحق به ، ولا حد عليه ، لكن يعاقب .

                                                                                                                                                                                          ورأى : أن ملك أمه التي ولدته ، وابنته ، وأخته ، بأنهن حرائر ساعة يملكهن ، فإن وطئهن حد حد الزنى .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة : لا حد عليه في ذلك كله ، ولا حد على من تزوج أمه التي ولدته ، وابنته ، وأخته ، وجدته ، وعمته ، وخالته ، وبنت أخيه ، وبنت أخته - عالما بقرابتهن منه ، عالما بتحريمهن عليه ، ووطئهن كلهن : فالولد لاحق به ، والمهر [ ص: 201 ] واجب لهن عليه ، وليس عليه إلا التعزير دون الأربعين فقط - وهو قول سفيان الثوري ، قالا : فإن وطئهن بغير عقد نكاح فهو زنى ، عليه ما على الزاني من الحد .

                                                                                                                                                                                          حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال في من زنى بذات محرم : يرجم على كل حال . وقال إبراهيم النخعي ، والحسن : حده حد الزنى .

                                                                                                                                                                                          وبه - إلى عبد الرزاق عن معمر عن عوف - هو ابن أبي جميلة - ني عمرو بن أبي هند ، قال : إن رجلا أسلم وتحته أختان ، فقال له علي بن أبي طالب : لتفارقن إحداهما ، أو لأضربن عنقك .

                                                                                                                                                                                          وقال جابر بن زيد أبو الشعثاء ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، كل من وطئ حريمته عالما بالتحرم عالما بقرابتها منه ، فسواء وطئها باسم نكاح ، أو بملك يمين ، أو بغير ذلك ، فإنه يقتل ولا بد - محصنا كان أو غير محصن ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك ليلوح الحق فنتبعه - إن شاء الله تعالى - فبدأنا بما احتج به أبو حنيفة ومن قلده لقوله ، فوجدناهم يقولون : إن اسم " الزنى " غير اسم " النكاح " فواجب أن يكون له غير حكمه .

                                                                                                                                                                                          فإذا قلتم : زنى بأمه - فعليه ما على الزاني ؟ وإذا قلتم : تزوج أمه ، فالزواج غير الزنى فلا حد في ذلك ، وإنما هو نكاح فاسد ، فحكمه حكم النكاح الفاسد ، من سقوط الحد ، ولحاق الولد ، ووجوب المهر - وما نعلم لهم تمويها غير هذا ، وهو كلام فاسد ، واحتجاج فاسد ، وعمل غير صالح : وأما قوله " إن اسم الزنى غير اسم الزواج " فحق لا شك فيه ، إلا أن الزواج هو الذي أمر الله تعالى به وأباحه - وهو الحلال الطيب والعمل المبارك .

                                                                                                                                                                                          وأما كل عقد أو وطء لم يأمر الله تعالى به ، ولا أباحه بل نهى عنه ، فهو الباطل والحرام والمعصية والضلال - ومن سمى ذلك زواجا فهو كاذب آفك متعد ، وليست [ ص: 202 ] التسمية في الشريعة إلينا - ولا كرامة - إنما هي إلى الله تعالى قال الله عز وجل { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } قال أبو محمد رحمه الله : أما من سمى كل عقد فاسد ووطء فاسد - وهو الزنى المحض - زواجا ، ليتوصل به إلى إباحة ما حرم الله تعالى ، أو إلى إسقاط حدود الله تعالى ، إلا كمن سمى الخنزير : كبشا ، ليستحله بذلك الاسم ، وكمن سمى الخمر : نبيذا ، أو طلاء ، ليستحلها بذلك الاسم ، وكمن سمى البيعة والكنيسة : مسجدا ، وكمن سمى اليهودية : إسلاما - وهذا هو الانسلاخ من الإسلام ونقض عقد الشريعة ، وليس في المحال أكثر من قول القائل : هذا نكاح فاسد ، وهذا ملك فاسد ، لأن هذا كلام ينقض بعضه بعضا ، ولئن كان نكاحا أو ملكا فإنه لصحيح حلال ، لأن الله تعالى أحل الزواج ، والملك .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } فما كان زواجا وملك يمين فهو حلال ، طلق ، ومباح ، طيب ، ولا ملامة فيه ، ولا مأثم ، وكل ما كان فيه اللوم والإثم فليس زواجا ، ولا ملكا مباحا للوطء - ولا كرامة - بل هو العدوان والزنى المجرد ، لا شيء إلا فراش ، أو عهر حرام ، فإن وجد لنا يوما ما أن نقول : نكاح فاسد ، أو زواج فاسد ، أو ملك فاسد ، فإنما هو حكاية أقوال لهم ، وكلام على معانيهم .

                                                                                                                                                                                          كما قال تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها }

                                                                                                                                                                                          وكما قال تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } و { الله يستهزئ بهم } وقد علم المسلمون أن الجزاء ليس بسيئة ، وأن القصاص ليس عدوانا ، وأن معارضة الله تعالى على الاستهزاء ليس مذموما ، بل هو حق .

                                                                                                                                                                                          فصح من هذا أن كل عقد لم يأمر به الله تعالى فمن عقده فهو باطل - وإن وطئ فيه ، فإن كان عالما بالتحريم ، عالما بالسبب المحرم : فهو زان مطلق .

                                                                                                                                                                                          وهكذا القول فيمن نكح نكاح متعة : أو شغار ، أو موهوبة ، أو على شرط ليس في كتاب الله تعالى ، أو بصداق : لا يحل ، من جهل التحريم في شيء من ذلك ، بأن لم تبلغه ، أو بتأويل لم تقم عليه الحجة ، في فساده ، فهو معذور ، لا حد عليه ، ومن قذفه فعليه الحد .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 203 ] كمن دخل بلدا فتزوج امرأة لا يعرفها ، فوجدها أمه أو ابنته : فهذا يلحق فيه الولد ، ولا يحد فيه حد بالإجماع - وبهذا بطل قول أبي حنيفة المذكور ، وقول مالك الذي وصفنا في وطء الحريمة بملك اليمين .

                                                                                                                                                                                          والعجب كل العجب من احتجاج بعض من لقيناه من المالكيين بقوله تعالى : { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } ؟ قيل لهم : إن كنتم تعلقتم بهذه الآية في إلحاق الولد بمن وطئ عمته ، وخالته ، وذوات محارمه ، فإنها من ملك اليمين : فأبيحوا الوطء المذكور ، وأسقطوا عنه الملامة جملة - فهذا هو نص الآية ، فلو فعلوا ذلك لكفروا بلا خلاف من أحد - وإذ لم يفعلوا ذلك ، ولا أسقطوا الملامة ، ولا أباحوا له ذلك قد ظهر تمويههم في إيراد هذه الآية في غير موضعها ؟ قال أبو محمد رحمه الله : فإن قال قائل : فأنتم تقولون " إن المملوكة الكتابية لا يحل وطؤها وإن وطئها فلا حد عليه والولد لاحق " فما الفرق بين هذا وبين من وطئ أحدا من ذوات محارمه التي ذكرنا فأوجبتم في كل هذا حد الزنى ، ولم تلحقوا الولد ؟

                                                                                                                                                                                          قلنا : إن الفرق في ذلك : هو أن الله تعالى أباح ملك اليمين جملة ، وحرم ذوات المحارم بالنسب ، والرضاع ، والصهر ، والمحصنات من النساء ، تحريما واحدا مستويا : فحرمت أعيانهن كلهن تحريما واحدا ، ولم يحل منهن لمس ، ولا رؤية عرية ، ولا تلذذ أصلا ، لأنهن محرمات الأعيان .

                                                                                                                                                                                          وقال تعالى : { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } فإنما حرم فيهن النكاح فقط ، والنكاح ليس إلا عقد الزواج ، أما الوطء فقط ، فإذا ملكناهن فلم تحرم علينا أعيانهن ، إذ لا نص في ذلك ، ولا إجماع ، وإنما حرم وطؤهن فقط ، وبقي سائر ذلك على التحليل بملك اليمين : كالمملوكة ، والحائض ، والمحرمة ، والصائمة فرضا ، والمعتكفة فرضا ، والحامل من غير السيد ، ولا فرق .

                                                                                                                                                                                          فلما لم يكن في واحدة من هؤلاء محرمة العين كن فراشا في غير الوطء ، فكان الوطء - وإن كان حراما - فهو في فراش لم يحرم فيه إلا الوطء فقط وكل وطء في غير [ ص: 204 ] محرم العين فليس عهرا ، ولا زنى ، وإنما العهر : ما كان في محرمة العين فقط - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          قال : ثم نظرنا فيمن أوجب الحد في وطء الأم بعقد النكاح كحد الزنى بغيرها من الأجنبيات ، وقول من أوجب في ذلك القتل - أحصن أو لم يحصن - فوجدنا الخبر في قتل من أعرس بامرأة أبيه ثابتا والحجة به قائمة ، فوجب الحكم به ، ولم يسع أحدا الخروج عنه .

                                                                                                                                                                                          فكان من قول المخالف في ذلك أن قالوا : قد يمكن أن يكون ذلك الذي أعرس بامرأة أبيه قد فعل ذلك مستحلا له ، فإن كان هذا فنحن لا نخالفكم في ذلك ؟

                                                                                                                                                                                          فقلنا لهم : إن هذه الزيادة ممن زادها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد ، وعلى من روى ذلك من الصحابة - رضي الله عنهم - ولو كان ذلك لقال الراوي : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجل ارتد فاستحل امرأة أبيه ، فقتلناه على الردة ، فإذا لم يقل ذلك الراوي ، فهو كذب مجرد ، فهذه الزيادة ظن ما ليس فيه .

                                                                                                                                                                                          فصح من وطئ امرأة أبيه بعقد سماه نكاحا - أو بغير عقد كما جاءت ألفاظ الحديث المذكور - فقتله واجب ولا بد ، وتخميس ماله فرض ، ويكون الباقي لورثته - إن كان لم يرتد - أو للمسلمين ، إن كان ارتد .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : لم نجد مثل هذا في الأصول ؟ قلنا لهم : لا أصل عندنا إلا القرآن ، والسنة ، والإجماع ، فهذا الخبر أصل في نفسه - ولكن أخبرونا : في أي الأصول وجدتم أن من تزوج أمه - وهو يدري أنها أمه - أو ابنته - وهو يدري أنها ابنته أو أخته - أو إحدى ذوات محارمه - وهو يدري عالم بالتحريم في كل ذلك : فوطئهن فلا حد عليه ، والمهر واجب لهن عليه ، والولد لاحق به ، فما ندري هذا إلا في غير الإسلام . قال أبو محمد رحمه الله : وأما نحن فلا يجوز أن نتعدى حدود الله فيما وردت به ، فنقول : إن من وقع على امرأة أبيه - بعقد أو بغير عقد أو عقد عليها باسم نكاح وإن لم يدخل بها - فإنه يقتل ولا بد - محصنا كان أو غير محصن - ويخمس ماله ، وسواء أمه كانت أو غير أمه ، دخل بها أبوه أو لم يدخل بها .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 205 ] وأما من وقع على غير امرأة أبيه من سائر ذوات محارمه - كأمه التي ولدته من زنى أو بعقد باسم نكاح فاسد مع أبيه - فهي أمه وليست امرأة أبيه ، أو أخته ، أو ابنته ، أو عمته ، أو خالته أو واحدة من ذوات محارمه بصهر ، أو رضاع - فسواء كان ذلك بعقد أو بغير عقد : هو زان ، وعليه الحد فقط ، وإن أحصن عليه الجلد والرجم كسائر الأجنبيات لأنه زنى ، وأما الجاهل في كل ذلك فلا شيء عليه .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية