الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          قسم الصدقة - مسألة : ومن تولى تفريق زكاة ماله أو زكاة فطره أو تولاها الإمام أو أميره - : فإن الإمام ، أو أميره : يفرقانها ثمانية أجزاء مستوية : للمساكين سهم ، وللفقراء سهم ، وفي المكاتبين وفي عتق الرقاب سهم ، وفي سبيل الله تعالى سهم ، ولأبناء السبيل سهم ، وللعمال الذين يقبضونها سهم ، وللمؤلفة قلوبهم سهم .

                                                                                                                                                                                          وأما من فرق زكاة ماله ففي ستة أسهم كما ذكرنا ، ويسقط : سهم العمال ، وسهم المؤلفة قلوبهم . ولا يجوز أن يعطي من أهل سهم أقل من ثلاثة أنفس ، إلا أن لا يجد ، فيعطي من وجد ؟ ولا يجوز أن يعطي بعض أهل السهام دون بعض ، إلا أن يجد ، فيعطي من وجد ؟ ولا يجوز أن يعطي منها كافرا ، ولا أحدا من بني هاشم ، والمطلب ابني عبد مناف ، ولا أحدا من مواليهم ؟ فإن أعطى من ليس من أهلها - عامدا أو جاهلا - لم يجزه ، ولا جاز للآخذ ، وعلى الآخذ أن يرد ما أخذ ، وعلى المعطي أن يوفي ذلك الذي أعطى في أهله ؟ برهان ذلك - : قول الله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم } .

                                                                                                                                                                                          وقال بعضهم : يجزئ أن يعطي المرء صدقته في صنف واحد منها ؟ واحتجوا بأنه لا يقدر على عموم جميع الفقراء وجميع المساكين . فصح أنها في البعض . [ ص: 268 ] قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } . ولقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } .

                                                                                                                                                                                          فصح أن ما عجز عنه المرء فهو ساقط عنه ، وبقي عليه ما استطاع ، لا بد له من إيفائه ; فسقط عموم كل فقير وكل مسكين ، وبقي ما قدر عليه من جميع الأصناف ، فإن عجز عن بعضها سقط عنه أيضا ; ومن الباطل أن يسقط ما يقدر عليه من أجل أنه سقط عنه ما لا يقدر عليه ؟ وذكروا حديث الذهيبة التي قسمها عليه الصلاة والسلام بين الأربعة ؟ قال أبو محمد : وقد ذكرنا هذا الخبر ، وأنه لم تكن تلك الذهيبة من الصدقة أصلا ; لأنه ليس ذلك في الحديث أصلا ; ولا يمتنع أن يعطى عليه الصلاة والسلام المؤلفة قلوبهم من غير الصدقة ، بل قد أعطاهم من غنائم حنين .

                                                                                                                                                                                          وذكروا حديث سليمان بن يسار { عن سلمة بن صخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه صدقة بني زريق } . قال أبو محمد : وهذا مرسل ، ولو صح لم يكن لهم فيه حجة ، لأنه ليس فيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم سائر الأصناف من سائر الصدقات ؟ وادعى قوم : أن سهم المؤلفة قلوبهم قد سقط ؟ قال أبو محمد : وهذا باطل ، بل هم اليوم أكثر ما كانوا ، وإنما يسقطون هم والعاملون إذا تولى المرء قسمة صدقة نفسه ; لأنه ليس هنالك عاملون عليها ، وأمر المؤلفة إلى الإمام لا إلى غيره .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : لا يختلفون في أن من أمر لقوم بمال - وسماهم - أنه لا يحل أن يخص به بعضهم دون بعض ، فمن المصيبة قول من قال : إن أمر الناس أوكد من أمر الله تعالى - : حدثنا أحمد بن عمر بن أنس ثنا عبد الله بن الحسين بن عقال ثنا إبراهيم بن محمد الدينوري ثنا محمد بن الجهم ثنا محمد بن مسلمة ثنا يعقوب بن محمد ثنا رفاعة [ ص: 269 ] عن جده : { أن بعض الأمراء استعمل رافع بن خديج على صدقة الماشية ، فأتاه لا شيء معه فسأله ؟ فقال رافع إن عهدي برسول الله صلى الله عليه وسلم حديث وإني جزيتها ثمانية أجزاء فقسمتها ، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع } .

                                                                                                                                                                                          وصح عن ابن عباس أنه قال في الزكاة : ضعوها مواضعها ؟ وعن إبراهيم النخعي ، والحسن مثل ذلك . وعن أبي وائل مثل ذلك ، وقال في نصيب المؤلفة قلوبهم رده على الآخرين . وعن سعيد بن جبير : ضعها حيث أمرك الله . وهو قول الشافعي ، وأبي سليمان ، وقول ابن عمر ، ورافع ، كما أوردنا ، وروينا القول الثاني عن حذيفة ; وعطاء ، وغيرهما .

                                                                                                                                                                                          وأما قولنا : لا يجزئ أقل من ثلاثة من كل صنف إلا أن لا يجد - : فلأن اسم الجمع : لا يقع إلا على ثلاثة فصاعدا ، ولا يقع على واحد ، وللتثنية بنية في اللغة ، تقول : مسكين للواحد ، ومسكينان للاثنين ، ومساكين للثلاثة ، فصاعدا ، وكذلك اسم الفقراء وسائر الأسماء المذكورة في الآية ؟ وهو قول الشافعي ، وغيره .

                                                                                                                                                                                          وأما أن لا يعطي كافرا فلما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن زكرياء بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن وقال له في حديث فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم } . فإنما جعلها عليه الصلاة والسلام لفقراء المسلمين فقط .

                                                                                                                                                                                          وأما بنو هاشم ، وبنو المطلب فلما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا هارون بن معروف ثنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب " أن رسول [ ص: 270 ] الله صلى الله عليه وسلم قال له وللفضل بن عباس بن عبد المطلب { إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ القوم ، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فاختلف الناس في : من هم آل محمد ؟ فقال قوم : هم بنو عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف فقط ، لأنه لا عقب لهاشم من غير عبد المطلب ، واحتجوا بأنهم آل محمد بيقين ، لأنه لا عقب لعبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق له عليه الصلاة والسلام أهل إلا ولد العباس ، وأبي طالب ، والحارث ; وأبي لهب : بني عبد المطلب فقط ; وقال آخرون : بل بنو عبد المطلب بن هاشم ، وبنو المطلب بن عبد مناف فقط ومواليهم .

                                                                                                                                                                                          وقال أصبغ بن الفرج المالكي : آل محمد : جميع قريش ، وليس الموالي منهم .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فوجب النظر في ذلك - : فوجدنا ما حدثناه عبد الله بن ربيع قال ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا عمرو بن علي ثنا يحيى وهو ابن سعيد القطان - ثنا شعبة ثنا الحكم هو ابن عتيبة - عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من بني مخزوم على الصدقة ، فأراد أبو رافع أن يتبعه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الصدقة لا تحل لنا ، وإن مولى القوم منهم } .

                                                                                                                                                                                          فبطل قول من أخرج الموالي من حكمهم في تحريم الصدقة .

                                                                                                                                                                                          ووجدنا ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود السجستاني ثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن [ ص: 271 ] عبد الله بن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب أخبرني { جبير بن مطعم أنه جاء هو وعثمان بن عفان يكلمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قسم من الخمس بين بني هاشم ، وبني عبد المطلب ، فقلت : يا رسول الله ، قسمت لإخواننا بني المطلب ولم تعطنا شيئا ، وقرابتنا وقرابتهم منك واحدة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بنو هاشم ، وبنو المطلب شيء واحد } . فصح أنه لا يجوز أن يفرق بين حكمهم في شيء أصلا ; لأنهم شيء واحد بنص كلامه عليه الصلاة والسلام ; فصح أنهم آل محمد ، وإذ هم آل محمد فالصدقة عليهم حرام ; فيخرج بنو عبد شمس ، وبنو نوفل ابني عبد مناف ، وسائر قريش عن هذين : البطنين - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          ولا يحل لهذين البطنين صدقة فرض ولا تطوع أصلا ، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام : { لا تحل الصدقة لمحمد ولا لآل محمد } فسوى بين نفسه وبينهم ، وأما ما لا يقع عليه اسم صدقة مطلقة فهو حلال لهم ، كالهبة ، والعطية ، والهدية ، والنحل ، والحبس ، والصلة ، والبر ، وغير ذلك ، لأنه لم يأت نص بتحريم شيء من ذلك عليهم وأما قولنا : لا تجزئ إن وضعت في يد من لا تجوز له - فلأن الله تعالى سماها لقوم خصهم بها ; فصار حقهم فيها ; فمن أعطى منها غيرهم فقد خالف ما أمر الله تعالى به .

                                                                                                                                                                                          وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } فوجب على المعطي إيصال ما عليه إلى من هو له ، ووجب على الآخذ رد ما أخذ بغير حق . قال تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية