الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال وكل أحد منهي عن إفساد الطعام ، ومن الإفساد الإسراف ) وهذا لما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القيل والقال وعن كثرة السؤال وعن إضاعة المال } ، وفي الإفساد إضاعة المال ثم الحاصل أنه يحرم على المرء فيما اكتسبه من الحلال الإفساد والسرف والخيلاء والتفاخر والتكاثر ، أما الإفساد فحرام لقوله تعالى { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة } الآية ، وأما السرف فحرام لقوله تعالى { ولا تسرفوا } الآية وقال جل وعلا { والذين إذا أنفقوا } الآية فذلك دليل على أن الإسراف والتقتير حرام وأن المندوب إليه ما بينهما ، وفي الإسراف تبذير وقال الله تعالى { ولا تبذر تبذيرا } ثم السرف في الطعام أنواع فمن ذلك الأكل فوق الشبع لقوله صلى الله عليه وسلم { ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه فإن كان لا بد فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس } وقال صلى الله عليه وسلم { يكفي ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ولا يلام على كفاف } ، ولأنه إنما يأكل لمنفعة نفسه ، ولا منفعة في الأكل فوق الشبع بل [ ص: 267 ] فيه مضرة فيكون ذلك بمنزلة إلقاء الطعام في مزبلة أو شر منها ، ولأن ما يزيد على مقدار حاجته من الطعام فيه حق غيره ، فإنه يسد به جوعته إذا أوصله إليه بعوض أو بغير عوض ، فهو في تناوله جان على حق الغير ، وذلك حرام ، ولأن الأكل فوق الشبع ربما يمرضه فيكون ذلك كجراحته نفسه .

والأصل فيه ما روي { أن رجلا تجشأ في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال نح عنا جشاءك أما علمت أن أطول الناس عذابا يوم القيامة أكثرهم شبعا في الدنيا } { ، ولما مرض ابن عمر رضي الله عنهما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب مرضه فقيل : إنه أتخم ، قال : ومم ذاك ؟ فقيل : من كثرة الأكل فقال صلى الله عليه وسلم أما إنه لو مات لم أشهد جنازته ولم أصل عليه } ، ولما قيل لعمر رضي الله عنه : ألا تتخذ لك جوارشا ؟ قال : وما يكون الجوارش ؟ قيل : هو صنف يهضم الطعام ، فقال : سبحان الله أو يأكل المسلم فوق الشبع ؟ إلا أن بعض المتأخرين رحمهم الله استثنى من ذلك حالة ، وهو أنه إذا كان له غرض صحيح في الأكل فوق الشبع فحينئذ لا بأس بذلك بأن يأتيه ضيف بعد تناوله مقدار حاجته فيأكل مع ضيفه لئلا يخجل وكذا إذا أراد أن يصوم في الغد فلا بأس بأن يتناول بالليل فوق الشبع ليقوى على الصوم بالنهار ، ومن الإسراف في الطعام الاستكثار من المباحات والألوان ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عد ذلك من أشراط الساعة فقال { تدار القصاع على موائدهم واللعنة تنزل عليهم } { وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت في ضيافة فأتيت بقصعة بعد قصعة فقامت وجعلت تقول : ألم تكن الأولى مأكولة ، وإن كانت فما هذه الثانية ؟ وفي الأولى ما يكفينا قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مثل هذا } إلا أن يكون ذلك عند الحاجة بأن يمل من ناحية واحدة فيستكثر من المباحات ليستوفي من كل نوع شيئا فيجتمع له مقدار ما يتقوى به على الطاعة على ما حكي أن الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان يشكو إليه ثلاثا : العجز عن الأكل وعن الاستمتاع والعي في الكلام ، فكتب إليه أن استكثر من ألوان الطعام وجدد السراري في كل وقت وانظر إلى أخريات الناس في خطبتك ، ومن الإسراف أن تضع على المائدة من ألوان الطعام فوق ما يحتاج إليه الآكل .

وقد بينا أن الزيادة على مقدار حاجته فيه كان حق غيره إلا أن يكون من قصده أن يدعو الأضياف قوما بعد قوم إلى أن يأتوا على آخر الطعام فحينئذ لا بأس بذلك ; لأنه غير مفسد ، ومن الإسراف أن يأكل وسط الخبز ويدع حواشيه أو يأكل ما انتفخ من الخبز كما يفعله بعض [ ص: 268 ] الجهال يزعمون أن ذلك ألذ ، ولكن هذا إذا كان غيره لا يتناول ما ترك هو من حواشيه ، أما إذا كان غيره يتناول ذلك فلا بأس كأن يختار لتناوله رغيفا دون رغيف ، ومن الإسراف التمسح بالخبز عند الفراغ من الطعام من غير أن يأكل ما يمسح به ; لأن غيره يتقذر ذلك فلا يأكله فأما إذا كان هو يأكل ما يمسح به فلا بأس بذلك ، ومن الإسراف إذا سقط من يده لقمة أن يتركها بل ينبغي له أن يبدأ بتلك اللقمة فيأكلها ; لأن في ترك ذلك استخفافا بالطعام ، وفي التناول إكراما ، وقد أمرنا بإكرام الخبز قال صلى الله عليه وسلم { أكرموا الخبز ، فإنه من بركات السماء والأرض } ، ومن إكرام الخبز أن لا ينتظر الإدام إذا حضر الخبز ولكن يأخذ في الأكل قبل أن يؤتى بالإدام ، وهذا ; لأن الإنسان مندوب إلى شكر النعمة والتحرز عن كفران النعمة ، وفي ترك اللقمة التي سقطت معنى كفران النعمة ، وفي المبادرة إلى تناول الخبز قبل أن يؤتى بالإدام إظهار شكر النعمة ، وإذا كان جائعا ففي الامتناع إلى أن يؤتى بالإدام نوع مماطلة فينبغي أن يتحرز عن ذلك وفيه حكاية ، فإن أبا حنيفة رحمة الله عليه لقي بهلولا المجنون يوما ، وهو جالس على الطريق يأكل الطعام فقال : أما تستحي من نفسك أن تأكل بالطريق ، قال : يا أبا حنيفة أنت تقول في هذا ونفسي غريمي والخبز في حجري ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { مطل الغني ظلم } فكيف أمنعها حقها إلى أن أدخل البيت والمخيلة حرام لما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمقداد رضي الله عنه في ثوب لبسه إياك والمخيلة ولا تلام على كفاف } ، والتفاخر والتكاثر حرام لقوله تعالى { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } الآية ، وإنما ذكر هذا على وجه الإلزام لذلك قال الله تعالى { ولا تمنن تستكثر } الآية وقال عز وجل { أن كان ذا مال وبنين } وقال جل وعلا { ألهاكم التكاثر } فعرفنا أن التفاخر والتكاثر حرام

التالي السابق


الخدمات العلمية