الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب نكاح أهل الحرب ( قال : ) رضي الله عنه بلغنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن مناكحة أهل الحرب من أهل الكتاب ؟ فكره ذلك ، وبه نأخذ فنقول : يجوز للمسلم أن يتزوج كتابية في دار الحرب ، ولكنه يكره ; لأنه إذا تزوجها ثمة ربما يختار المقام فيهم ، وقال : صلى الله عليه وسلم { أنا بريء من كل مسلم مع مشرك لا تراءى ناراهما } ; ولأن فيه تعريض ولده للرق فربما تحبل منه فتسبى فيصير ما في بطنها رقيقا ، وإن كان مسلما ، وإذا ولدت تخلق بأخلاق الكفار ، وفيه بعض الفتنة فيكره لهذا ، فإن خرج ، وتركها في دار الحرب ، وقعت الفرقة بينهما بتباين الدارين حقيقة وحكما ، فإنها من أهل دار الحرب ، والزوج من أهل دار الإسلام ، وتباين الدارين بهذه الصفة موجب للفرقة عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يكون موجبا للفرقة حتى إذا أسلم أحد الزوجين ، وخرج إلى دارنا فإن كانت المرأة هي التي خرجت مراغمة ، وقعت [ ص: 51 ] الفرقة بالاتفاق عندنا ; لتباين الدارين .

وعنده للقصد إلى المراغمة والاستيلاء على حق الزوج فإن خرجت غير مراغمة لزوجها أو خرج الزوج مسلما أو ذميا تقع الفرقة بتباين الدارين عندنا ، ولا تقع عند الشافعي رحمه الله تعالى ، واستدل بحديث أبي سفيان رضي الله عنه { فإنه أسلم بمر الظهران في معسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يجدد رسول الله صلى الله عليه وسلم النكاح بينه وبين امرأته هند ، ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هرب عكرمة بن أبي جهل وحكيم بن حزام رضي الله عنهما حتى أسلمت امرأة كل واحد منهما ، وأخذت الأمان لزوجها ، وذهبت فجاءت بزوجها ، ولم يجدد رسول الله صلى الله عليه وسلم النكاح بينهما ، وإن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجرت إلى المدينة ثم تبعها زوجها أبو العاص بعد سنين فردها عليه بالنكاح الأول } ، والمعنى فيه أن اختلاف الدار عبارة عن تباين الولايات ، وذلك لا يوجب ارتفاع النكاح كاختلاف الولايتين في دار الإسلام ، ألا ترى أن الحربي لو خرج إلينا مستأمنا ، أو المسلم دخل دار الحرب بأمان لم تقع الفرقة بينه وبين امرأته ، وكذلك الخارج من مصر أهل العدل إلى منعة أهل البغي لا تقع الفرقة بينه وبين امرأته ، وأصحابنا رحمهم الله تعالى استدلوا بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } إلى قوله { فلا ترجعوهن إلى الكفار } ، وليس في هذه الآية بيان قصد المراغمة فاشتراطه يكون زيادة على النص ، وقال تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } .

والكوافر : جمع كافرة معناه لا تعدوا من خلفتموه في دار الحرب من نسائكم ، ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يهاجر إلى المدينة نادى بمكة ألا من أراد أن تئيم امرأته منه أو تبين فليلتحق بي أي : فليصحبني في الهجرة ، والمعنى فيه أن من بقي في دار الحرب في حق من هو في دار الإسلام كالميت قال الله تعالى : { أومن كان ميتا فأحييناه } أي : كافرا فرزقناه الهدى ، ألا ترى أن المرتد اللاحق بدار الحرب يجعل كالميت حتى يقسم ماله بين ورثته فكما لا تتحقق عصمة النكاح بين الحي والميت ، فكذلك لا تتحقق عند تباين الدارين حقيقة وحكما ، فأما إذا خرج إلينا بأمان فتباين الدارين لم يوجد حكما ; لأنه من أهل دار الحرب متمكن من الرجوع إليها ، وكذلك إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فهو من أهل دار الإسلام حكما ، ومنعة أهل البغي من جملة دار الإسلام ، ومن فيها لا يجعل بمنزلة الميت حكما ، والدليل عليه أنه ما خرج إلا قاصدا إحراز نفسه من المشركين فلا يعتبر مع ذلك القصد إلى المراغمة ، ولو كان خروجها على سبيل المراغمة لزوجها وقعت الفرقة [ ص: 52 ] بالاتفاق .

فأما حديث زينب رضي الله عنها فالصحيح أنه ردها عليه بالنكاح الجديد ، وما روي أنه ردها عليه بالنكاح الأول أي : بحرمة النكاح الأول ، ألا ترى أنه ردها عليه بعد سنتين ، والعدة تنقضي في مثل هذه المدة عادة ، وقد روي أن الكفار تتبعوها وضربوها حتى أسقطت فانقضت عدتها بذلك ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى إن كان لا تقع الفرقة بتباين الدارين تقع بانقضاء العدة ، وأما إسلام أبي سفيان فالصحيح أنه لم يحسن إسلامه يومئذ ، وإنما أجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشفاعة عمه العباس رضي الله عنه وعكرمة وحكيم بن حزام إنما هربا إلى الساحل ، وكانت من حدود مكة فلم يوجد تباين الدارين ، وقال الزهري : إن دار الإسلام إنما تميزت من دار الحرب بعد فتح مكة ، فلم يوجد تباين الدارين يومئذ فلهذا لم يجدد النكاح بينهما ، فأما إذا سبي أحد الزوجين تقع الفرقة بينهما بالاتفاق .

فعندنا ; لتباين الدارين ، وعند الشافعي رضي الله عنه ; للسبي حتى إذا سبيا معا لم تقع الفرقة بينهما لقوله تعالى { والمحصنات من النساء } معناه ذوات الأزواج من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فإنها محللة لكم ، وإنما نزلت الآية في سبايا أوطاس { ، وقد نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألا لا توطأ الحبالى من الفيء حتى يضعن ، ولا الحيالى حتى يستبرأن بحيضة } ، وإنما سبي أزواجهن معهن ، والمعنى فيه : أن السبي يقتضي صفاء المسبي للسابي ، ولهذا لا يبقى الدين الذي كان واجبا على المسبي ، وإنما يصفو إذا لم يبق ملك النكاح ; وهذا لأن السبي سبب لملك ما يتحمل التملك ومحل النكاح محتمل للتملك فيصير مملوكا للسابي ; لأنه لو امتنع ثبوت الملك إنما يمتنع لحق الزوج ، وهو ليس بذي حق محترم ، ألا ترى أنه تسقط به مالكيته عن نفسه وعن ماله .

ولهذا قلنا : لو كانت المسبية منكوحة لمسلم أو لذمي لا يبطل النكاح ; لأن ملك النكاح محترم ، ولا يدخل عليه القصاص أنه لا يسقط بالسبي ; لأن المستحق بالقصاص الدم ، وهو ليس بمحتمل للتملك ; ولأن القصاص لا يجب إلا لمحترم ، وحجتنا في ذلك أن السبي سبب لملك الرقبة مالا فلا يكون مبطلا للنكاح كالشراء ; وهذا لأن المملوك في النكاح ليس بمال فلا يثبت فيه التملك بالسبي مقصودا ; لأن تملك البضع مقصودا بسببه يختص بشرائط من الشهود والولي ، وذلك لا يوجد في السبي فإنما يثبت الملك هنا تبعا لملك الرقبة ، وذلك لا يثبت إلا عند فراغ المحل عن حق الغير .

ونفس السبي ليس بمناف للنكاح ، ألا ترى أن ملك النكاح لو كان محترما لا يبطل النكاح مع تقرر السبي ، والمنافي إذا تقرر فالمحترم وغير المحترم فيه سواء ، كما إذا تقرر بالمحرمية والرضاع ; ولأن السبي لا ينافي ابتداء النكاح فلأن [ ص: 53 ] لا ينافي البقاء أولى ، وأما الدين فإن كان على عبد فسبي لم يسقط الدين منصوص عليه في المأذون ، وإن كان على حر فسبي فإنه يسقط ; لأنه لما صار عبدا ، والدين لا يجب على العبد إلا شاغلا مالية رقبته ، فكذلك لا يبقى إلا شاغلا للمالية ، وحين كان واجبا على الحر لم يكن شاغلا لمالية الرقبة إذ لا مالية في رقبته ، فلا يمكن إبقاؤه إلا بتلك الصفة ، وقد تعذر إبقاؤه بتلك الصفة بعد السبي ، ألا ترى أنه لو كان الدين لمحترم لا يبقى كذلك ، وبه يبطل قولهم : أن السبي يقتضي صفاء المسبي للسابي ، فإن ملك النكاح إذا كان محترما بقي النكاح ، ولا صفاء ، وكذلك إذا سبي الزوج وقعت الفرقة ، وهنا الملك له لا عليه .

فأما الحديث : فالمروي أن الرجال هربوا إلى حصونهم ، وإنما سبي النساء وحدهن ، فقد وقعت الفرقة بتباين الدارين ، والآية دليلنا فإن الله تعالى حرم ذوات الأزواج فما لم يثبت انقطاع الزوجية بينهما كانت محرمة على السابي بهذا النص ، إذا عرفنا هذا فنقول : إذا خرج الزوج مسلما وتركها في دار الحرب حتى وقعت الفرقة بينهما ، لم يقع عليها طلاقه بعد ذلك ; لأن النكاح قد انقطع لا إلى عدة ، فإن بقاءها في دار الحرب كما ينافي أصل النكاح بينها وبين الزوج ينافي العدة ، فلهذا لا يقع طلاقه عليها ، وإن خرجت المرأة قبل الزوج مسلمة أو ذمية فهما على نكاحهما ; لأن الزوج مسلم من أهل دار الإسلام أيضا فلم تتباين بهم الدار

التالي السابق


الخدمات العلمية