الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) : ولو أعتق رجل عنه بغير أمره لم يجزه عن ظهاره ; لأن المعتق عن المعتق ، ونيته من غيره لغو ; لأنه يعقب الولاء ; وليس لأحد أن يلزم غيره ولاء بغير أمره ; فإن كان بأمره فهو على وجهين : إما أن يكون بجعل أو بغير جعل ، فإن كان بجعل بأن قال : أعتق عبدك عن ظهاري على ألف درهم فأعتقه جاز عن ظهاره استحسانا عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى ، ووجب المال عليه ، وفي القياس وهو قول زفر رحمه الله تعالى يعتق عن المعتق ، والولاء له ، ولا يجزئ عن ظهار الآمر ، ولا مال عليه ; لأنه التمس منه محالا ، وهو أن يعتق ملك نفسه من غيره ، ولا عتق فيما لا يملكه ابن آدم فكان إعتاق زيد ملكه عن عمرو محالا ، ولا يجوز إضمار التمليك هنا ; لأن الإضمار لتصحيح المصرح به لا لإبطاله [ ص: 11 ] وإذا أضمرنا التمليك صار معتقا عن الآمر لا ملك نفسه ، وهو خلاف ما صرح به ولكنا نقول : معنى كلامه ملكني عبدك هذا بألف درهم ، ثم كن وكيلي في إعتاقه عن ظهاري ; لأنه التمس منه إعتاقه عن ظهاره ، ولا وجه لتصحيح التماسه إلا بهذا الإضمار ، وتصحيح كلام العاقل واجب بحسب الإمكان فإذا أمكن تصحيحه بهذا الطريق يصحح لمعنى ، وهو أن الملك في المحل شرط العتق ، وشرط الشيء تبعه فيصير كالمذكور بذكر أصله ، كمن نذر صلاة تلزمه الطهارة . ومن نذر اعتكافا يلزمه الصوم ، ويصير ذلك كالمذكور ، وعلى هذا لو قال بعت منك هذا العبد بكذا فقال المشتري : هو حر يعتق من جهته ، ويصير القبول والتمليك ثابتا بمقتضى كلامه ، ومعنى قوله عبدك : يعني العبد الذي هو ملك لك للحال لا عند مصادفة العتق إياه ، فمقصوده من هذا تعريف العبد لا إضافته إليه ، والخلاف ثابت فيما لوقال أعتق هذا العبد عني .

وأما إذا كان بغير جعل بأن قال : أعتق عبدك عن ظهاري بغير شيء فأعتقه المأمور على قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - الولاء للمأمور ، ولا يجزئ عن ظهار الآمر ، وهو القياس ; وعلى قول أبي يوسف والشافعي - رحمهما الله تعالى - الولاء للآمر ، ويجزئ عن ظهاره باعتبار إضمار التمليك كما في الأول ، وهذا ; لأن الملك سواء حصل له بعوض أو بغير عوض يجوز عن كفارته إذا أعتقه ، ولا يجوز أن يقال الملك بطريق الهبة لا يحصل إلا بالقبض ; لأن القبض في باب الهبة كالقبول في البيع فكما سقط اعتبار القبول هناك لكون البيع في ضمن العتق ، فكذلك يسقط اعتبار القبض هنا ، أو يجعل القبض مدرجا في كلامه حكما كما يندرج القبول في كلامه ، أو يجعل العبد قابضا نفسه من المولى له ، كما لو قال أطعم عن ظهاري ستين مسكينا يجوز بغير بدل على أن يقبض الفقير له ثم لنفسه ، والدليل عليه أنه لو قال : أعتقه عني بألف ورطل من خمر فأعتقه جاز عن الآمر ، ويندرج البيع الفاسد هنا ، والملك بالبيع الفاسد لا يحصل إلا بالقبض كما في الهبة وأبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - يقولان : مستوهب أمر بالعتق قبل القبض فلا يجزي عنه ، كما لو استوهبه العبد نصا ثم قال قبل قبضه : أعتقه ، وهذا ; لأن القبض في باب الهبة شرط لوقوع الملك على وجه لا يجوز إسقاطه بحال ، فلا يسقط بالاندراج في العتق ; لأن المسقط إنما يعمل في محله ، لا في غير محله بخلاف القبول في البيع فإنه يحتمل السقوط حتى لو قال : بعت منك هذا الثوب بعشرة فاقطعه فقطعه صار متملكا ، وإن لم يقبل ، وهذا لأن الإيجاب مع القبول قد يحتمل السقوط في البيع [ ص: 12 ] وهو عند التعاطي فمجرد القبول أولى أن يحتمل السقوط ، وبه فارق البيع الفاسد ; لأن الفاسد في الحكم ملحق بالجائز ، والقبض هناك نظير القبول هنا في أنه يحتمل الإسقاط ، ولا يجوز أن يجعل القبض مدرجا في كلامه هنا ; لأن القبض فعل - والقول لا يتضمن الفعل - إنما يتضمن قوله مثله .

والقبول قول ، فيجوز أن يندرج في كلامه ، ولا يجوز أن يجعل العبد قابضا نفسه هنا ; لأن الإعتاق إبطال للملك والمالية ، والعبد إنما يقبض ما يسلم له دون ما لا يسلم له ، وبه فارق الطعام ، فإن المسكين يقبض عين الطعام فيمكن أن يجعل قابضا للآمر أولا ثم لنفسه ، ولكن العبد ينتفع بهذا الإعتاق فمن هذا الوجه يندرج فيه أدنى القبض ، ولكن أدنى القبض يكفي في البيع الفاسد ، ولا يكفي في الهبة كالقبض مع الشيوع فيما يحتمل القسمة ، ومع الاتصال في الثمار على رءوس الأشجار يكفي لوقوع الملك في البيع الفاسد دون الهبة . وبهذا يتضح الفرق بين هذه الفصول .

التالي السابق


الخدمات العلمية