الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال ) وإذا ثبت الزنا عند القاضي سأل الزاني : أمحصن أنت ؟ لأنه لو أقر بالإحصان استغنى القاضي عن طلب إحصانه بالحجة ، فإن أنكر إحصانه وشهد الشهود عليه فرجم ثم رجع شهود الإحصان لم يضمنوا شيئا ; لأنهم ما شهدوا بسبب العقوبة ولا بشرطها ، ولأن سبب العقوبة ثابت ببقاء شهود الزنا على شهادتهم ، فإن رجع شهود الزنا وشهود الإحصان فلا ضمان على شهود الإحصان عندنا وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يشتركون في الضمان بناء على أصل أن الإحصان شرط الرجم وأن شهود الشرط يضمنون عند الرجوع كشهود السبب عنده ، وعندنا لا ضمان على شهود الشرط ، ثم قد بينا أن الإحصان ليس بشرط ; لأن الشرط حقيقة ما يتوقف تمام السبب عليه ولكنه حال في الزاني فلا يكون الإتلاف مضافا إليه بوجه ، وربما قال زفر رحمه الله تعالى : الإحصان يغلظ جريمته والرجم عقوبة جريمة مغلظة ، فإذا ثبت أن بشهود الإحصان تغلظت جريمته كانوا بمنزلة من أثبت أصل الجريمة فصاروا في المعنى كستة نفر شهدوا على استحقاق القتل ، ولكن هذا بعيد ، فإن الإسلام والنكاح يثبت بشهادتهما ولا يجوز أن تضاف إليهما الجريمة ولا تغليظها ، ألا ترى أنه لو شهد رجلان بالزنا وآخران بالإحصان لا تتم الحجة ، معلوم أن الرجم يستحق بشهادة شهود أربعة فلو كان شهود الإحصان كشهود الزنا لتمت الحجة هنا ، فأما إذا رجع شهود الزنا أو بعضهم فالمسألة على ثلاثة أوجه :

إما أن يرجع أحدهم قبل القضاء أو بعد القضاء قبل إقامة الحد أو بعد إقامة الحد ، فإن رجع أحدهم قبل القضاء يحدون حد القذف عندنا كما لو رجعوا جميعا ، وقال زفر رحمه الله تعالى لا يحد إلا الراجع خاصة وجه قوله أن الحجة تمت باجتماع الأربعة على أداء الشهادة ، وتمام الحجة يمنع من أن يكون كلامهم قذفا ، ثم الراجع فسخ معنى الشهادة من كلامه برجوعه فينقلب كلامه قذفا ولكن له ولاية فسخ الشهادة على نفسه لا على غيره فيبقى كلام الباقين [ ص: 47 ] شهادة وصار في حقهم كأنه لم يرجع فلا يلزمهم الحد بخلاف ما إذا شهد ثلاثة وامتنع الرابع ; لأن الحجة لم تتم هناك والشهادة على الزنا في الحقيقة قذف ، ولكن باعتبار تمام الحجة يخرج من أن يكون قذفا شرعا فلما لم تتم الحجة هناك بقي كلامهم قذفا فيلزمهم الحد ولما تمت الحجة هنا لم يكن كلامهم قذفا ، ثم حكم فسخ الشهادة برجوع الرابع مقصور عليه فلا يتعدى إلى الباقي .

( وحجتنا ) فيه أن العارض بالشهود قبل القضاء كالمقترن بأصل الأداء بدليل عمى الشهود وردتهم وبدليل المال ، فإن رجوع الشهود هناك قبل القضاء يمنع القاضي من القضاء بالمال لعدم تمام الحجة في الابتداء ، فإذا ثبت هذا فنقول : لو امتنع الرابع من أداء الشهادة في الابتداء يقام حد القذف على الثلاثة ، ولا يكون ذلك لسكوت الرابع بل بنسبتهم إياه إلى الزنا ، فكذلك إذا رجع أحدهم قبل القضاء قوله إن الحجة تمت وكان كلامهم شهادة .

( قلنا ) هذا موقوف مراعى ; لأن الشهادة لا تكون حجة موجبة ما لم يتصل بها القضاء ، فإذا لم يتصل القضاء هنا بالشهادة حتى رجع أحدهم بقي كلامهم قذفا بالزنا إلا أن يكون حجة الحد على المشهود عليه تامة ، ألا ترى أن كلام الراجع قذف بالزنا ؟ ومعلوم أنه لو شهد مع القاذف ثلاثة نفر يقام عليهم الحد جميعا فكذلك هنا ، فأما إذا رجع أحدهم بعد القضاء قبل استيفاء الحد فإنه لا يقام الحد على المشهود عليه ; لأن العارض بعد القضاء فيما يندرئ بالشبهات كالعارض قبله بدليل عمى الشهود وردتهم وهذا ; لأن الإمام لا يمكنه إقامة الحد إلا بحجة كاملة ولم تبق بعد رجوع أحدهم ثم على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى الآخر يحدون جميعا حد القذف استحسانا ، وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى يحد الراجع وحده وهو القياس وهو قول أبي يوسف الأول رحمه الله تعالى ; لأن الأصل أن رجوع الشاهد بعد القضاء قبل الاستيفاء فيما يندرئ بالشبهات كالرجوع قبل القضاء .

وفيما يثبت مع الشبهات كالرجوع بعد الاستيفاء بدليل المال ، فإنهم إذا رجعوا بعد القضاء لا يمتنع الاستيفاء على المقضي عليه إذا ثبت هذا فنقول إقامة الحد على المشهود عليه تندرئ بالشبهات فرجوع أحدهم فيه بعد القضاء كالرجوع قبله ، فأما سقوط حد القذف عنهم يثبت مع الشبهات فرجوع أحدهم فيه بعد القضاء كرجوعه بعد الاستيفاء توضيحه أن الحجة تعتمد القضاء وبعد ما تمت الحجة لا يكون كلامهم قذفا ثم برجوع أحدهم يبطل معنى الحجة في حقه فيصير كلامه قذفا ولكن لا ولاية له على الباقين ولا على إبطال حكم الحاكم ، فيبقى كلام الباقين حجة غير قذف كما كان قبل [ ص: 48 ] رجوعه وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله تعالى يقولان : رجوع أحدهم بعد القضاء كرجوعه قبل القضاء بدليل سقوط الحد عن المشهود عليه ، ولا يكون ذلك إلا بعد إبطال الحكم ، وإذا ثبت بطلان الحكم بهذا الدليل كان هذا وما قبل القضاء سواء ، وتحقيقه أن فيما يجب حقا لله تعالى تمام القضاء بالاستيفاء فإن الاستيفاء من تتمة القضاء ولهذا كان إلى الإمام وهذا ; لأن القضاء إما أن يكون لإعلام من له الحق بحقه أو لتمكينه من الاستيفاء ، وذلك لا يتصور في حقوق الله تعالى فكان المعتبر في حقوق الله تعالى النيابة في الاستيفاء ولا يتم ذلك بالقضاء بل بحقيقة الاستيفاء فإذا رجع أحدهم قبل تمام القضاء بالاستيفاء كان بمنزلة رجوعه قبل القضاء وكذلك إن أقيم بعض الحد ، ثم رجع أحدهم ; لأن الحد لا يتجزى فاستيفاؤه لا يكون إلا بإتمامه فأما إذا رجع أحدهم بعد إقامة الحد فهذا على وجهين :

إما أن يكون الحد جلدا أو رجما ، فإن كان جلدا فإنه يحد هذا الراجع بالاتفاق ولا حد على الباقين ; لأن الحجة تمت والحكم تأكد بالاستيفاء ، فرجوع أحدهم يبطل معنى الشهادة في حقه لإقراره فيكون قاذفا له ، ولا يبطل به معنى الشهادة المتأكدة في حق الباقين فلا حد عليهم ، فأما إذا كان الحد رجما فعندنا يحد الراجع وحده ، وقال زفر رحمه الله تعالى لا يحد الراجع أيضا ; لأن الراجع لا يكون قاذفا له بالرجوع فإنه يثني عليه خيرا فيقول : كان عفيفا ولم يكن زانيا ، وإنما يكون قاذفا له بالشهادة السابقة ، فتبين أنه قذف حيا ثم مات ومن قذف حيا ثم مات لا يقام عليه حد القذف ; لأن حد القذف لا يورث بخلاف ما إذا كان الحد جلدا ; لأن المقذوف حي بعد إقامة الحد عليه والدليل على الفرق أنه لو ظهر أن أحد الشهود كان عبدا ، فإن كان الحد جلدا يحدون حد القذف وإن كان رجم المشهود عليه فلا رجم عليهم بالاتفاق وهذا مثله .

( وحجتنا ) فيه أنه بالرجوع أقر على نفسه بالتزام حد القذف وإقراره على نفسه حجة وتحقيقه وهو أن الشاهد عند الرجوع لا يصير قاذفا من وقت الشهادة بل يصير قاذفا في الحال ; لأن اقتران معنى الشهادة بكلامه يمنعه من أن يكون قذفا وإنما انتزع معنى الشهادة من كلامه عند رجوعه فيصير كلامه السابق الآن قذفا ، كمن قال لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق عند دخول الدار يصير ذلك الكلام طلاقا لا أن يتبين أنه كان طلاقا ; لأن صيرورته طلاقا باعتبار وصوله إلى المحل ، ووصوله إلى المحل مقصور على الحال ، فإذا ثبت أنه إنما يصير كلامه في الحال قذفا ، والمقذوف في الحال ميت ومن قذف ميتا يلزمه الحد ( فإن قيل ) هو في الحال مرجوم بحكم الحاكم لو [ ص: 49 ] قذفه قاذف لا يحد قاذفه فكيف يحد هذا الراجع ( قلنا ) هو مرجوم بحكم الحاكم بشهادتهم وهو يزعم أن شهادته ليست بحجة وزعمه معتبر في نفسه بخلاف القاذف ، فإن قذفه لا يقدح في الشهادة التي هي حجة .

( فإن قيل ) أكثر ما فيه أنه مقر بأنه كان عفيفا ، ولو قذفه إنسان بالزنا ثم أكذب نفسه وقال إنه كان عفيفا لا يقام عليه الحد أيضا ( قلنا ) نعم القاذف وإن أكذب نفسه فالحجة المسقطة للإحصان بقيت كاملة في حقه ، فأما إذا رجع واحد من الشهود لا تبقى الحجة المسقطة للإحصان كاملة في حقه فلهذا يقام عليه الحد وهذا بخلاف ما إذا ظهر أن أحدهم عبد ; لأن العبد لا شهادة له فتبين أن كلامهم كان قذفا في حال حياته ، ومن قذف حيا ثم مات لا يقام عليه الحد ، فأما حكم الضمان فعلى الراجع ربع الدية ; لأنه زعم أنه مقتول ظلما بشهادتهم وكل شاهد على الزنا متلف ربع النفس كما قال عمر رضي الله عنه حين شهد أحد الشهود على المغيرة رضي الله عنه : أوه أودي ربع المغيرة ، ولأنه قد بقي على الشهادة من يقوم بثلاثة أرباع الحق ، وإنما انعدمت الحجة في ربع الحق فلهذا كان على الراجع ربع الدية عندنا .

( قال ) ولو رجعوا جميعا حدوا حد القذف وغرم كل واحد منهم ربع الدية عندنا ، وقال ابن أبي ليلى والحسن رحمهما الله تعالى : يقتلون ; لأنهم قاتلون له ، فإن ما يحصل بقضاء القاضي يكون مضافا إلى شهادة الشهود ، ونحن نسلم أنهم بمنزلة القاتلين له ، ولكن قضاء القاضي بإباحة دمه شبهة مانعة من وجوب القصاص مع أن الرجم يكون بالحجارة ، ومباشرة القتل بالحجر لا يوجب القصاص عندنا ، والشهود متسببون عندنا ، ولا قصاص على المتسبب على ما نبين في كتاب الديات في شهود القصاص

التالي السابق


الخدمات العلمية