الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( رجل ) غصب من رجل جارية فوطئها فولدت منه ، ثم حضر صاحبها فادعاها ، ولم يكن له بينة فأقر له بها ذو اليد لم يصدق عليها ولا على ولدها ; لأن حق أمية الولد لها ، وحقيقة الحرية للولد تثبت من حيث الظاهر ، فإن من في يده شيء فالظاهر أنه ملكه ; ولهذا لو نازعه غيره فيه كان القول قوله ، فلا يصدقه في إبطال حقهما ، ولكنه مصدق فيما يقر به على نفسه ، وقد أقر أنها كانت مغصوبة في يده ، وأنه ضامن لقيمتها عند تعذر رد عينها ، وقد تعذر رد العين بفعله فلهذا يلزمه قيمتها للمقر له ( قال : ) ولا يضمن قيمة الولد ، ولم يتعرض للعقر ، وذكر المسألة في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله على أن قول زفر يضمن قيمة الولد والعقر ، وعلى قول أبي يوسف لا يضمن ذلك . وجه قول زفر أنه أقر بوجوب العقر عليه ; لأنه يزعم أنه وطئها ، وهي مغصوبة في يده ، والوطء في ملك الغير لا ينفك عن حد أو عقر ، وقد سقط الحد بشبهة فيجب العقر ، كذلك إن أقر أن الولد ملك المقر له ، وقد احتبس عنده بفعله كالأم فيضمن قيمته ; لأن الغاصب يضمن قيمة الولد بالمبيع أو يجعل هذا بمنزلة المغرور ، وولد المغرور حر بالقيمة ، وعلى المغرور عقرها للمستحق فهذا مثله . وجه قول أبي يوسف أن ما يلزمه من الضمان إنما يلزمه بإقراره ، وهو ما أقر بوجوب العقر عليه إنما أقر بوجوب الحد عليه ; لأن وطء الجارية المغصوبة يوجب الحد على الغاصب دون المقر .

وكذلك ولد المغصوبة لا يكون مضمونا على الغاصب إلا بمنع منه ، ولم يوجد ذلك منه في الولد ، وإنما امتنع رده لحريته شرعا فهو كما لو امتنع رده بموته ، فعرفنا أنه ما أقر على نفسه بوجوب العقر ولا بوجوب قيمة الولد ، فلا يلزمه ذلك ، فإن كان المدعي أقام البينة أنها جاريته غصبها هذا منه ، قضي له بها وبولدها ; لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ، ولم يذكر العقر [ ص: 71 ] وينبغي أن يقضي له بالعقر ; لأن ذا اليد لما أنكر فقد صار إنكاره شبهة في إسقاط الحد عنه ، وقد أثبت بالبينة أنه وطئ ملك الغير فيلزمه العقر ، فإن لم يقل الشهود غصبها ولم يقر الذي هي في يديه ، ولكنه قال : اشتريتها من فلان فأردت أن يقضي بالجارية للذي أقام البينة ، هل يستحلفه بالله ما بعته ولا أذنت له فيه ، ولم يدع ذو اليد شيئا من ذلك ( قال : ) لا أستحلفه على شيء من ذلك إلا أن يدعي الذي هي في يديه ; لأن القاضي نصب لفصل الخصومات لا لتهييجها ، ولأن الاستحلاف يترتب على دعوى صحيحة ، فإن لم يدع ذو اليد ذلك ، فلا معنى للاستحلاف ، وإذا ادعاه فحينئذ يستحلف ; لأنه يدعي عليه ما لو أقر به لزمه .

( وروي ) عن أبي يوسف رحمه الله : أن القاضي يستحلفه ، وإن لم يطلب ذو اليد ذلك صيانة لقضاء نفسه . وإن أقام الذي هي في يديه البينة على تسليمه المبيع أخذ رب الجارية الثمن من البائع ; لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ، ولأن إجازة البيع في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء .

فإن تصادق الأول والجارية على أنه كان أعتقها قبل هذا البيع لم يصدقا على ذلك ; لأنها صارت مملوكة للمشتري بما أثبت من البيع وإجازة المالك بالبينة ، فلا يصدقان على إبطال ملكه ، ولكن إن أقامت الجارية البينة أن الأول كان أعتقها قبل أن يشتريها هذا فإنها تعتق ; لأنها أثبتت حريتها بإعتاق من كان يملكها بالحجة ، ثم يتبين بطلان البيع فيرجع المشتري على البائع بالثمن ، وعلى المشتري العقر للجارية ; لأنه وطئها بشبهة الملك ، وهي حرة والولد ولده بغير قيمة ; لأن الولد يتبع الأم في الحرية ، وقد ثبتت حريتها بالبينة فينفصل الولد عنها حرا بذلك السبب لا بالغرور ، فلهذا لا يغرم قيمة الولد .

التالي السابق


الخدمات العلمية