الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وأما الكلام في المسألة من حيث الاستدلال فينبني على معرفة النص فنقول حكم نص الربا ; وجوب المماثلة في المعيار شرط لجواز العقد ثم ضرورة الفضل ; لعدم تلك المماثلة ربا ; لوجوب المماثلة لا كما قاله الخصم : إن الحكم حرمة فضل في الذات ثم المماثلة شرط لإزالة فضل حرام . والدليل على ما قلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : الحنطة بالحنطة مثلا بمثل } فقد أوجب المماثلة لجواز العقد ثم جعل الفضل بعد تلك المماثلة بقوله صلى الله عليه وسلم : { والفضل ربا } وفي الحديث الآخر قال { : لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء } . وبالإجماع : المساواة في الكيل فعرفنا أن المراد اشتراط المماثلة لجواز العقد ; لأن الكلام المقيد بالاستثناء يصير عبارة عما وراء المستثنى فيكون [ ص: 117 ] المعنى فساد البيع عند عدم المماثلة التي هي واجبة وإذا ثبت أن الحكم وجوب المماثلة ولا يتصور ثبوت الحكم بدون محله عرفنا أن المحل الذي لا يقبل المماثلة لا يكون مال الربا أصلا والحفنة والتفاحة لا تقبل المماثلة بالاتفاق فلم يكن مال الربا والدليل عليه أن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ما نص على حكم الربا إلا مقرونا بالمخلص فكل علة توجب الحكم في محل لا يقبل المخلص أصلا فهي علة باطلة والطعم بهذه الصفة فإنها توجب الحكم في الرمان والسفرجل ولا يتصور فيه المخلص وكذلك قوله : { لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء } كلام مقيد بالاستثناء والمستثنى من جنس المستثنى منه ; لأن الاستثناء لإخراج ما لولاه لكان الكلام متناولا له وإن كان المستثنى الكثير القابل للمماثلة لا يتناوله الحديث أصلا .

فإن قال : هو استثناء مقطوع بمعنى : لكن إن جعلتموه سواء بسواء ; فبيعوا أحدهما بالآخر قلنا : هذا مجاز ولا يترك العمل بالحقيقة إلا عند قيام الدليل وباعتبار الحقيقة يتبين أن حكم النص وجوب المماثلة فيما يختص بمحل قابل للمماثلة والدليل عليه أنه لو باع قفيز حنطة يملكه بقفيز حنطة رخوة أو قد أكلها السوس يجوز وقد تيقنا بفضل في الذات ومع ذلك جاز العقد لوجود المماثلة في القدر فإن قال : سقط اعتبار الفضل القائم في الذات لوجود المساواة في القدر قلنا هذا جائز ولكن عند قيام الدليل فإذا أمكن أن يجعل الحكم في الذات وجوب المماثلة والفضل الذي هو ربا بعد تلك المماثلة فلا حاجة بنا إلى إسقاط ما هو موجود حقيقة خصوصا فيما إذا بنى أمره على الاحتياط وهو الربا والذي قال : إن الاسم غير عما عليه مقتضى اللغة ممنوع فإنه دعوى المجاز أيضا فلا يمكن إثباته أيضا إلا بدليل فأما حديث عمر فله تأويلان ( أحدهما ) أن المراد بقوله : وإن من الربا أبوابا لا يكدن يخفين على أحد ، منها السلم في السن ما كانوا اعتادوا في الجاهلية أن الواحد منهم يسلم في ابنة مخاض فإذا حل الأجل زاده في السن وجعله ابنة لبون ليزيده في الأجل ثم يزيده إلى سن الحقة والجذعة وفي ذلك نزل قوله تعالى : { لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } فتلك الزيادة خالية عن عوض هو مال ولهذا قال : إنه من الربا الذي لا يكاد يخفى على أحد

( والثاني ) أن المراد السلم في الحيوان والحيوان مما يتفاوت والمسلم فيه دين فإنما يصير معلوما بذكر الوصف ورأس المال بمقابلة الأوصاف المذكورة عند العقد ثم عند القبض يتمكن التفاوت في المالية بين المقبوض والموصوف عند العقد لا محالة فتلك الزيادة كأنها خالية عن عوض هو مال ولهذا جعل [ ص: 118 ] من الربا الذي لا يكاد يخفى على أحد وإن سلموا أن حكم النص وجوب المماثلة لا يبقى لهم شيء ; لأن وجوب المماثلة لا تكون إلا في محل قابل للمماثلة وإن لم يسلموا فالدليل على إثبات هذه القاعدة أن الأموال أنواع ثلاثة متفاوتة في نفسها كالثياب والدواب فلا تجب المماثلة فيها للمبايعة وأمثال متقاربة كالسهام ولا تجب المماثلة فيها أيضا للمبايعة وأمثال متساوية كالفلوس الرابحة وتجب المماثلة فيها حتى إذا باع فلسا بغير عينه بفلسين بغير أعيانهما لا يجوز للرسنة فإن بيع فلس بفلس جائز بل لوجوب المماثلة فإن إحدى الفلسين يبقى بغير شيء لما كانت أمثالا متساوية بصفة الرواج فيكون ذلك ربا وإذا كان كل واحد منهما بعينه فكأن المتعاقدين أعرضا عن الاصطلاح على كونها أمثالا متساوية ولهذا يتعين بالتعيين فتصير أمثالا متقاربة كالجوز والبيض إذا عرفنا هذا فنقول الشرع هنا نص على اشتراط المماثلة في هذه الأموال فعرفنا أنها أمثال متساوية وإنما تكون أمثالا متساوية بالجنس والقدر ; لأن كل حادث في الدنيا موجود بصورته ومعناه فإنما بطلت المماثلة من هذين الوجهين

والمماثلة صورة باعتبار القدر ; لأن المعيار في هذا المقدار كالطول والعرض والمماثلة معني باعتبار الجنسية ولكن هذه المماثلة لا تكون قطعا إلا بشرط وهو سقوط قيمة الجودة منها لجواز أن يكون أحدهما أجود من الآخر وإذا سقطت قيمة الجودة منها صارت أمثالا متساوية قطعا فإنما يقابل البعض بالبعض في البيع من حيث الذات فإذا كان في أحد الجانبين فضل كان ذلك الفضل خاليا عن المقابلة والفضل الخالي عن المقابلة ربا فإذا جعل شرطا في العقد فسد به العقد وهكذا في سائر الأموال إلا أن الفضل الخالي عن المقابلة هناك إنما يظهر بالشرط حتى لو باع ثوبا بثوب بشرط أن يسلم له مع ذلك ثوبا آخر لا يجوز ; لأن هناك الفضل يظهر بالشرط وهنا يظهر شرعا لوجوب المماثلة فثبت بما قررنا أن العلة لهذا الحكم بالتأثير في إيجاب المماثلة وهو الجنس والقدر وإن شرط عمل العلة سقوط قيمة الجودة منها وهذا شرط عرفناه بالنص وهو قوله : صلى الله عليه وسلم جيدها ورديها سواء وبدليل مجمع عليه وهو أنه لو باع قفيز حنطة جيدة بقفيز حنطة ردية ودرهم لا يجوز وما كان مالا متقوما يجوز الاعتياض عنه كالبيع وإنما يجوز الاعتياض عما فسد بتقومه شرعا كالخمر ونحو ذلك فلما لم يجز الاعتياض عن الجودة هنا عرفنا أنه لا قيمة للجودة عند المقابلة بالجنس ثم إثبات الحكم بهذا الطريق يكون على موافقة الأصول وعلى [ ص: 119 ] ما يدعيه الخصم أن الحكم حرمة فضل في الذات يكون إثبات الحكم على مخالفة الأصول فالبيع ما شرع إلا لطلب الربح والفضل فالفضل الذي يقابله العوض حلال ككسبه بالبيع فكيف يستقيم أن يجعل حراما بالرأي وإن أردت تحرير النكتة

قلت التفاح والرمان مال لم يسقط قيمة الجودة منه عند المبايعة فيجوز بيع بعضه ببعض كيف ما كان كالثياب والدواب ثم تقريره من الوجه الذي ذكرنا وبهذا يعلل في القليل من الحنطة كالحفنة ونحوها فإن قيل كيف يستقيم هذا ولو غصب من آخر حفنة من حنطة فنقصت عنده ليس للمغصوب منه أن يضمنه النقصان مع أخذ حنطته ولو كان للجودة منها قيمة لكان له ذلك كما في التفاح والرمان والثياب ونحوها قلنا الواجب على الغاصب ضمان القيمة ; لأن الحفنة ليست من ذوات الأمثال فإن المماثلة بالمعيار وليس للحفنة معيار أن الواجب هو القيمة وقد بينا أن المالية والقيمة في الحنطة لا تعلم إلا بالكيل فلا بد من إظهار قيمة هذا المغصوب من اعتبار الكثير وهو القفيز وعند اعتبار ذلك لا قيمة للجودة فلا يمكن معرفة النقصان ليوجب ذلك على الغاصب ويمكن معرفة القيمة بالحرز فيوجب القيمة ويكون شرط الاستيفاء تسليم العين إلى الغاصب فإذا أراد استرداد العين لم يكن له أن يرجع بشيء كما لو قطع يد عبد عند إنسان فأراد المولى إمساك العبد لم يرجع بشيء على قول أبي حنيفة : وعلى هذا الأصل قلنا :

لو باع حفنة بقفيز لا يجوز أيضا ; لأن القفيز لا قيمة للجودة منه فتكون المقابلة باعتبار الذات فيظهر الفضل الخالي عن المقابلة بخلاف الحفنة بالحفنتين فكل واحد منهما يقابل الآخر في البيع والشراء من غير اعتبار القفيز وبدون اعتباره للجودة قيمة فلا يظهر الفضل الخالي عن المقابلة ويتبين بما ذكرنا فساد علة الخصم بالطعم والثمنية فإنها علة قاصرة لا تتعدى إلى الفروع ; ولأنها تثبت الحكم على مخالفة الأصول ; ولأن الطعم عبارة عن أعظم وجوه الانتفاع بالمال وكذلك الثمنية فإنها تنبئ عن شدة الحاجة إليه وتأثير الحاجة في الإباحة لا في الحرمة كتناول الميتة تحل باعتبار الضرورة ولا معنى لما قال : إن الشرع ما حرم البيع في هذه الأموال إلا ما حرم في سائر الأموال وهو الفضل الخالي عن المقابلة وهذا لأن هذه الأموال بذلة كسائر الأموال حتى يجوز تناولها بدون الملك بالإباحة وبالملك بغير عوض وهو الهبة بخلاف البضع فإنه مصون عن الابتذال يلحق بالنفوس فيجوز أن يشترط في النكاح زيادة شرط لإظهار خطر المحل وبهذا تبين فساد ما قال : إن الاسم المشتق [ ص: 120 ] من فعل إذا علق به الحكم يصير ذلك الفعل علة ; لأنه إنما يكون ذلك الفعل علة إذا كان صالحا له كالزنا والسرقة وإذا كانت الثمنية والطعم ينبئان عن شدة الحاجة فلا يصلحان أن يكونا علة للحرمة والذي قال : إن صاحب الشرع نص على الأشياء الأربعة قلنا قد نص على الأشياء الستة وعطف بعضها على البعض فينبغي أن تكون العلة في الكل واحدة وذلك الجنس والقدر ثم الكيل والوزن اختلاف عبارة في القدر كالصاع والقفيز ونحوه فأما إذا كانت العلة في النقود الثمنية وفي سائر الأشياء الأربعة الطعم لم يستقم عطف بعضها على البعض إذ لا موافقة بين الثمنية والطعم والذي قال : القدر علة للخلاص لا كذلك قد بينا أن جواز البيع في هذه الأموال أصل فحيث مفسد إنما يفسد لوجود العلة المفسدة لذلك فإما جواز باعتبار الأصل لا باعتبار المخلص ولئن كان هذا مخلصا فهو مخلص في حالة التساوي

وعلة الربا في حالة الفضل والشيء الواحد يتضمن حكمين في محلين كالنكاح يثبت المحل للمنكوحة والحرمة في أمها وإنما جعلنا القدر مخلصا لأن الخلاص عن الربا بالمساواة في القدر وذلك لا يعرف إلا بالكيل والوزن فكذلك الوقوع في الربا بالفضل على القدر وذلك لا يعرف إلا بالكيل والوزن وربما يقول بعضهم إن الحفنة مقدرة إلا أنه لا يمكن معرفة مقدارها إلا بضم أمثالها إليها ولا تخرج به من أن تكون مقدارا كالصبرة وهذا فاسد فإن المقدر لا يمكن معرفة مقداره فإذا ضم إلى الحفنة أمثالها وكيلت يصير مقدار القفيز معلوما لا مقدار الحفنة بخلاف الصبرة فإنها إذا فرقت أجزاء وكيلت يصير مقدار الصبرة معلوما

التالي السابق


الخدمات العلمية