الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 150 ] باب الشفعة في المريض . ( قال : رحمه الله مريض باع دارا بألفي درهم وقيمتها ثلاثة آلاف درهم ، ولا مال له غيرها ، ثم مات وابنه شفيع الدار ، فلا شفعة للابن فيها ) ; لأنه لو باعها من أبيه بهذا الثمن لم يجز ، وقد بينا أن الشفيع يتقدم على المشتري شرعا في ثبوت الملك له بالسبب الذي يملك به المشتري ، وقد تعذر ذلك في هذا الموضع . يوضحه : إما أن يأخذها بألفين كما أخذها المشتري ، فيكون ذلك وصية من المريض لوارثه خصوصا إذا أخذها من يد البائع ، ولا وصية لوارث ، أو يأخذها بثلاثة آلاف ، وذلك لا يستقيم ; لما فيه من إثبات ثمن في حق الشفيع ليس ذلك بثابت في حق المشتري ، فإذا تعذر الوجهان قلنا لا شفعة له أصلا . وذكر في كتاب الوصايا : أن على قولهما له أن يأخذها بقيمتها إن شاء ، والأصح ما ذكرنا هنا ، فإنه نص في الجامع على أنه قولهم جميعا ولو كان الابن هو المشتري للدار من أبيه وأجنبي شفيعها ، فإن كان اشتراها بمثل القيمة ، فلا شفعة للشفيع فيها في قول أبي حنيفة وفي قولهما للشفيع فيها الشفعة ، وهذا بناء على أن بيع المريض من وارثه بمثل قيمته لا يجوز في قول أبي حنيفة ويجوز في قولهما ; لأنه ليس في تصرفه إبطال حق الورثة عن شيء مما تعلق حقهم به وهو المالية ، والوارث والأجنبي في مثل هذا التصرف سواء كما لو أعانه ببدنه .

يوضحه : أنه ممنوع من الوصية للوارث كما أنه ممنوع من الوصية بما زاد على الثلث للأجنبي ، ثم البيع بمثل القيمة من المريض صحيح في حق الأجنبي في جميع ماله ، ولا يكون ذلك وصية بشيء ، فكذلك مع الوارث يوضحه أنه إذا كان عليه دين مستغرق فباع بعض ماله من آخر بمثل قيمته يجوز ، وهو ممنوع في هذه الحال من الوصية بشيء من ماله ، ثم لم يجعل بيعه بمثل قيمته وصية منه فكذلك في حق الوارث وأبو حنيفة يقول : آثر بعض ورثته بعين من أعيان ماله بقوله ، وهو محجور عن ذلك لحق سائر الورثة كما لو أوصى بأن يعطى أحد ورثته هذه الدار بنصيبه من الميراث وهذا ; لأن حق الورثة يتعلق بالعين فيما بينهم كما يتعلق بالمالية وعلى هذا لو أراد بعضهم أن يجعل شيئا لنفسه بنصيبه من الميراث لا يملك ذلك ، إلا برضا سائر الورثة فكما أنه لو قصد إيثار البعض بشيء من ماله رد عليه قصده فكذلك إذا قصد إيثاره بالعين وهذا ; لأن للناس في الأعيان أغراضا ، فقد يفتخر الإنسان بخطه إياه فوق ما يفتخر بكثرة ماله ، وإنما نفى الشرع وصية المريض لبعض الورثة دفعا للغضاضة عن سائر الورثة ، وذلك المعنى [ ص: 151 ] يتحقق هنا ; فلهذا يمتنع ببيعه منه بمثل قيمته وبأكثر بخلاف الأجنبي ، فإنه غير ممنوع من التصرف مع الأجنبي فيما يرجع إلى العين

وإنما يمنع من إبطال حق الورثة عن ثلثي ماله ، وليس في البيع بمثل القيمة من الأجنبي إبطال حق الورثة عن شيء من ماله ، والدليل على الفرق أن إقرار المريض للأجنبي بالدين ، أو بالعين وإقراره باستيفاء الدين منه صحيح في حق الورثة ، وشيء من ذلك لا يصح مع الوارث ويجعل وصية منه فكذلك البيع بمثل القيمة ، وهذا بخلاف بيعه من الأجنبي إذا كان عليه دين مستغرق ; لأن المنع لحق الغرماء ، وحقهم في ديونهم لا في عين مال المريض ، ألا ترى أن للوارث أن يستخلص العين لنفسه بقضاء الدين من مال آخر ، فإذا لم يكن في البيع بمثل القيمة إبطال حقهم عن شيء مما تعلق به حقهم كان صحيحا بخلاف ما نحن فيه ، والدليل على الفرق أنه لو باع عينا في صحته من أجنبي ، ثم أقر باستيفاء الثمن منه في مرضه صح إقراره في حق الغرماء وبمثله لو باعه من دار به لم يصح إقراره باستيفاء الثمن منه في مرضه في حق سائر الورثة ، والفرق ما ذكرنا ، إذا عرفنا هذا ، فنقول : عند أبي حنيفة لا شفعة للشفيع ; لأن البيع فاسد .

وعند أبي يوسف ومحمد لما صح البيع كان للشفيع أن يأخذها بالشفعة ولو كان باعها من ابنه بألفي درهم وقيمتها ثلاثة آلاف ، فلا إشكال عند أبي حنيفة أن البيع فاسد ، ولا شفعة للشفيع وعندهما للشفيع أن يأخذها بثلاثة آلاف درهم إن شاء في رواية كتاب الشفعة ; لأن الشفيع قائم مقام المشتري ، وقد كان للابن أن يزيل المحاباة ويأخذها بثلاثة آلاف إن شاء فكذلك للشفيع أن يأخذها بذلك وذكر في موضع آخر أن الشفيع لا يأخذها بالشفعة هنا ; لأن عندهما بيع المريض من وارثه إنما يجوز باعتبار أنه لا وصية في تصرفه وفي البيع بالمحاباة وصية ، ألا ترى أنه لو حصل مع أجنبي آخر كان معتبرا من الثلث ، ولا وصية لوارث فكان البيع فاسدا ، ولا شفعة في البيع الفاسد وبأن كان المشتري يتمكن من إزالة المفسد ، فذلك لا يوجب الشفعة للشفيع كما لو اشتراها بشرط أجل فاسد ، أو خيار فاسد ، وقد روي عن أبي يوسف أن للشفيع أن يأخذها بالقيمة ; لأنه يتقدم على المشتري شرعا فيجعل كأن البيع من المريض كان منه بهذا الثمن ، والأصح ما ذهب إليه أبو حنيفة ، فإن نفس البيع وصية ، ألا ترى أنه لو أوصى بأن تباع داره من فلان بمثل قيمتها يجب تنفيذ الوصية بعد موته إذا طلب الموصى له ، وإن الموصى له بالبيع يزاحم سائر أصحاب الوصايا ، فإذا ثبت أن نفس البيع وصية ، وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية للوارث قلنا لا يجوز منه البيع أصلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية