الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال : ولو دفع سمسما إلى رجل فقال : قشره وربه ببنفسج فاعصره على أن أعطيك أجره درهما كان هذا فاسدا ; لأنه لا يعرف ما شرط من البنفسج وجهالة ذلك تفضي إلى المنازعة وهذا بخلاف ما لو دفع إلى صباغ ثوبا ليصبغه بصبغ من عنده ; لأن مقدار الصبغ في كل الثوب معلوم عند أهل الصنعة المصبغ منه وغير المصبغ ولا تتمكن المنازعة بينهما ; لأن اللون في الثوب محسوس ، فأما الرائحة في الدهن المربى غير محسوس ويتفاوت ذلك بتفاوت ما يربى به من البنفسج فتتمكن المنازعة بينهما يوضح الفرق أن إعلام مقدار الصبغ يتعذر على الصباغ ; لأنه يجمع الثياب ويصبغ الكل جملة واحدة فيسقط اعتباره لذلك ، فأما القشار لا يخلط سمسم الناس ولو فعل ذلك صار ضامنا ولكنه يربي سمسم كل إنسان على حدة فلا يتعذر عليه إعلام مقدار البنفسج ; فلهذا شرط ذلك ، وإن قال : على أن تربيه بقفيز من بنفسج فهذا جائز ، وكذلك إن كان البنفسج الذي يدخل في مثل هذا السمسم معروفا عند التجار فهو جائز ; لأن المعلوم بالعرف كالمعلوم بالشرط ولا تتمكن المنازعة بينهما إذا كان ذلك معلوما ; فلهذا جوزناه ، ثم تبين بعد هذا ما يجوز فيه الاستصناع وحاصل ذلك أن المعتبر فيه العرف وكل ما تعارف الناس الاستصناع فيه فهو جائز فإذا جاء به الصانع مفروغا عنه واختار المستصنع أخذه فليس للصانع أن يمنع ; لأن البيع قد لزم فيه باتفاقهما عليه إلا أنه إن كان لم يستوف الثمن حبسه بالثمن ، وإن باعه الصانع قبل أن يراه المستصنع فبيعه جائز ; لأنه باع ملك نفسه فالعقد لا يتعين في هذا المصنوع قبل أن يراه المستصنع وإذا نفذ بيعه صار مملوكا للمشتري فلا سبيل للمستصنع عليه بعد ذلك

وإذا دفع إلى إسكاف جلدا واستأجره بأجر مسمى على أن يخرزه له خفين بصفة معلومة على أن يفعله الإسكاف ويبطنه ووصف له البطانة والنعل فهو جائز ; لأنه متعارف وإذا جاز الاستصناع في الخف لكونه متعارفا ففي البطانة والنعل أجوز ، ولا خيار لصاحب الأديم إذا عمله عملا مقارنا لا فساد فيه وكان ينبغي أن يثبت له الخيار والبطانة والنعل ; لأنه اشترى ما لم يره لكنه قال لا خيار له في أصل الأديم ; لأنه ملكه ولا يتأتى الرد في البطانة والنعل منفردا عن الأصل ، ثم البطانة والنعل بيع في هذا العقد [ ص: 91 ] والمقصود هو العمل .

( ألا ترى ) أن بالبطانة والنعل يصير الخف أحكم وأن الخف ينسب إلى الأديم دون البطانة والنعل ولا خيار له فيما هو المقصود وهو العمل وفيما هو الأصل وهو الأديم ، فكذلك في البيع ، وإن جاء به فاسدا ضمنه قيمة الجلد إن شاء ; لأنه إنما طلب منه العمل الصالح دون الفاسد فكان هو في إقامة أصل العمل موافقا وباعتبار صفة الفساد في العمل مخالفا فإن شاء مال إلى الخلاف وجعله كالغاضب فيضمنه قيمة جلده ، وإن شاء مال إلى الموافقة في أصل العمل ورضي به مع تغيير الوصف فأخذ الخفين وأعطاه أجر مثل عمله وقيمة ما زاد فيه ولا يجاوز به ما سمي له ، أما أجر مثل العمل ; لما بينا أن المسمى بإزاء العمل الصالح فعند الفساد يجب أجر المثل وقيمة ما زاد فيه ; لأنه مشتر له وقد تم قبضه باتصاله بملكه ، ومن أصحابنا رحمهم الله من قال قوله ولا يجاوز به ما سمى ، ينصرف إلى الأجر خاصة دون قيمة ما زاد فيه فإن المشترى شراء فاسدا مضمون بالقيمة بالغة ما بلغت ; لأن الأعيان متقومة بنفسها بخلاف المنافع

واستدلوا على هذا بما ذكر في آخر الباب في مسألة الجبة ولا يجاوز به ما سمى في أجر عمله خاصة وقالوا : بيانه في فصل يكون بينا في جميع الفصول ولكن الأصح أن قوله ولا يجاوز به ما سمي له في هذا الموضع ينصرف إليهما ; لأن البطانة والنعل تابع للعمل ; ولهذا يجوز العقد هنا فإنه لو كان مقصودا ما جاز العقد فيه وإذا لم يكن معينا والتبع معتبر بالأصل فإذا كان الأصل لا يجاوز به ما سمي له ، فكذلك في التبع وسنقرر هذا الفرق في مسألة الجبة إن شاء الله تعالى وكذلك إن سلم خرقة إلى صانع ليصنعها قلنسوة ويبطنها ويحشوها فهو مثل ذلك ; لأن البطانة والحشو في القلنسوة تبع .

( ألا ترى ) أن القلنسوة تنسب إلى الظهارة وأنها بالبطانة والحشو تصير أحكم واسم القلنسوة يتناوله بدون البطانة والحشو كالخف فالجواب فيهما سواء وبجميع هؤلاء الصناع إذا رضي المستصنع العمل وأجازه أن لا يدفعه له حتى يأخذ منه الأجر إلا أن يكون مؤجلا فلا يكون له منع المتاع حينئذ ; لأن الأجرة في الإجارات كالثمن في البيع ، والمبيع يحبس بالثمن إذا كان البيع حالا ولا يحبس به إذا كان مؤجلا وعلى قول زفر رحمه الله ليس للصانع حق الحبس بالأجرة إذا كان الأصل ملكا للمستأجر ; لأنه صار مسلما المعقود عليه باتصاله بملكه وهذا ; لأن المعقود عليه الوصف الذي أحدثه بعمله وقد اتصل ذلك بملك المستأجر باختيار العامل ورضاه وبعد ما سلم المعقود عليه لا يكون له حق الحبس ولكنا نقول هذا تسليم لا يمكن التحرز عنه ; فإنه لا يتصور منه إقامة العمل بدون أن يتصل [ ص: 92 ] ذلك بملكه وما لا يمكن التحرز عنه يجعل عفوا فلا يصير هو به راضيا بسقوط حقه في الحبس وربما يقول زفر رحمه الله : البدل ليس بمقابلة الأصل وإنما يحبس المبدل بالبدل فإذ لم يثبت له حق الحبس فيما هو الأصل لا يثبت في البيع ولكنا نقول حق الحبس يثبت له في المعقود عليه ولا يتأدى ذلك إلا بحبس الأصل فثبت حقه في حبس الأصل كمن أجر عينا يلزمه تسليم العين وهو إنما عقد على المنفعة ولكن لما كان تسليم المنفعة لا يتأدى بدون العين لزمه تسليم العين فهذا مثله .

التالي السابق


الخدمات العلمية