الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
قال ومن ابتلي أن يقضي بين اثنين فلينصفهما في الكلام والنظر ولا ينبغي له أن يرفع صوته على أحدهما ما لا يرفع على الآخر ، وقد بينا فائدة هذا اللفظ ، وما يؤمر به القاضي من التسوية وعن عامر أن أبي بن كعب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما اختصما في شيء فحكما زيد بن ثابت رضي الله عنه فأتياه في منزله قال زيد رضي الله عنه هلا أرسلت إلي يا أمير المؤمنين قال عمر رضي الله عنه في بيته يؤتى الحكم ، وفي هذا بيان أنه كان يقع بينهم منازعة وخصومة ولا يظن كل واحد منهم سوى الجميل ، وإنما كان يقع ذلك عند اشتباه حكم الحادثة عليهم ويتقدمون إلى القاضي لطلب البيان لا للقصد إلى التلبيس والإنكار ; ولهذا كان القاضي يدعى مفتيا ، وفيه دليل جواز التحكيم فقد حكما زيد بن ثابت رضي الله عنه ، وإنما حكماه لفقهه فقد كان مقداما معروفا فيهم بذلك حتى روي أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يختلف إليه وأخذ بركابه لما أراد أن يركب . وقال هكذا أمرنا أن نصنع بفقهائنا فقبل زيد رضي الله عنه يده . وقال هكذا أمرنا أن نصنع بأشرافنا .

وفيه دليل على أن الإمام لا يكون قاضيا في حق نفسه فعمر رضي الله عنه في خصومة حكم زيد بن ثابت رضي الله عنه ، وفيه دليل على أن من احتاج إلى العلم ينبغي له أن يأتي العالم في منزله ، وإن كان وجيها في الناس ولا يدعوه إلى نفسه فإن وجاهته بسبب الدين فيبقى ذلك له إذا عظم الدين ، والذهاب [ ص: 74 ] إلى منزل العالم عند الحاجة إلى علمه من تعظيم الدين ولما استعظم ذلك زيد رضي الله عنه قال هلا أرسلت إلي يا أمير المؤمنين قال في بيته يؤتى الحكم وتأويل استعظام زيد رضي الله عنه أنه خاف فتنة على نفسه بسبب الوجاهة حين أتاه عمر رضي الله عنه في منزله وظن أنه أتاه زائرا ، وما أتاه محكما له راغبا في علمه ; فلهذا استعظم ذلك .

( ألا ترى ) أن عمر رضي الله عنه بين له أنه أتاه للتحكيم فقال في بيته يؤتى الحكم فأتى زيد لعمر رضي الله عنهما بوسادة وكان هذا منه امتثالا لما ندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله { إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه } ، وقد بسط رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رداءه حين أتاه

ولكن عمر رضي الله عنه لم يستحسن ذلك منه في هذا الوقت فقال هذا أول جورك ، وفيه دليل وجوب التسوية بين الخصمين في كل ما يتمكن القاضي منه ، وما كان ذلك يخفى على زيد رضي الله عنه ، ولكن وقع عنده أن الحكم في هذا ليس كالقاضي ، وإن الخليفة في هذا ليس كغيره فبين له عمر رضي الله عنه أن الحكم في حق الخصمين كالقاضي ( قال ) وكانت اليمين على عمر رضي الله عنه فقال لأبي بن كعب رضي الله عنه لو أعفيت أمير المؤمنين من اليمين فقال عمر رضي الله عنه لا ، ولكن أحلف فترك له أبي رضي الله عنه ذلك وأهل الحديث يروون أن عمر رضي الله عنه قال لزيد رضي الله عنه ، وهذا أيضا يبين أن على الحاكم أن يتحرز عن الميل إلى أحد الخصمين صريحا ودلالة ، وأن مجلس الشفاعة غير مجلس الحكومة ، ثم فيه دليل على أنه لا بأس للمرء أن يحلف إذا كان صادقا فقد رغب عمر رضي الله عنه في ذلك مع صلابته في الدين ، وإن تحرز عن ذلك فهو واسع له أيضا كما روي أن عثمان امتنع عن ذلك . وقال أخشى أن يوافق قدر يميني فيقال أصبت بذلك ففيه دليل أن اليمين حق المدعي قبل المدعى عليه يستوفي بطلبه ويترك إذا ترك .

( ألا ترى ) أن أبيا رضي الله عنه ترك له ذلك وبيان هذا فيما { قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدعي ألك بينة فقال لا فقال صلى الله عليه وسلم ألك يمين } وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال لا أحسد إلا في اثنين رجل أتاه الله مالا فهو ينفقه في طاعة الله ورجل أتاه الله علما فهو يعلمه ويقضي به رضي الله عنه ومعناه الحسد يضر إلا في الاثنين فيكون في ذلك بيان أن الحسد مذموم يضر الحاسد إلا فيما استثناه فهو محمود في ذلك ، وهذا ليس بحسد في الحقيقة بل هو غبطة والغبطة محمودة فمعنى الحسد هو أن يتمنى الحاسد أن تذهب نعمة المحسود عنه ويتكلف لذلك ومعنى الغبطة أن يتمنى لنفسه مثل ذلك من غير أن يتكلف ويتمنى ذهاب ذلك عنه .

وهذا في أمر الدنيا غير مذموم ففي أمر الدين [ ص: 75 ] أولى أن يكون محمودا والذي ينفق ماله في طاعة الله تعالى يكتسب الآخرة بدنياه والذي يعلم ويقضي به بالحق يكتسب المحمدة في الدنيا والثواب في الآخرة فمن يتمنى لنفسه مثل ذلك يكون محمودا على هذا المعنى . فأما الحسد المذموم فهو ما قيل الحاسد جاحد لقضاء الواحد فهو أن يتكلف لذهاب ذلك عنه ويعتقد أن تلك نعمة في غير موضعها وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله { لا ينجو أحدكم من الحسد والظن والطيرة قيل ، وما المخلص من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم إذا حسدت فلا تبغ أي لا تتكلف لإزالة النعمة عن المنعم عليه . وإذا ظننت فلا تحقق وإذا نظرت فلا ترجع }

وعن سوار بن سعيد قال شهدت أنا ورجل عند شريح رحمه الله تعالى بشهادة ففيه صاحبي عن حجته أي عجز عن إظهار حجته وغفل عن ذلك فقلت له أتفسد شهادتي إن أعربت عنه فقال لا فأعربت عنه فقضى له ، وإنما قال هذا ; لأن من يكون خصما في حادثة لا تقبل شهادته في تلك الحادثة فخاف إن أظهر حجة صاحبه أن يجعله خصما ويفسد شهادته فبين له شريح رحمه الله تعالى أنه لا يصير خصما بهذا القدر إذا لم يوكله صاحبه به بل هو متبرع فيما يظهر من حجة صاحبه ، وليس فيه أكثر من أن يعين المدعي ، وما حضر مجلس القاضي إلا لتعيين المدعي وتوصله إلى حقه فلا يفسد به شهادته

وعن سوار قال اختصم قوم عند شريح رحمه الله تعالى فذكرت له ذلك فقال ما أراه فهم وسأذكر ذلك له الليلة فذكرت ذلك له فقال ما فهمت فمرهم أن يرجعوا لي فرجعوا إليه فقضى لهم ، وفيه دليل على أنه ينبغي لمن وقف على خطأ القاضي في قضائه أن ينبهه ولا يجاهره بذلك مراعاة لحشمته ، ولكنه يأمر أقرب الناس منه ليخبره بذلك في حال خلوته ، وفيه دليل أن القاضي إذا تبين له خطأ في قضائه ينبغي له أن يظهر رجوعه عن ذلك ولا يمنعه الاستيحاء عن الناس من ذلك ولا الخوف فالله تعالى يحفظه من الناس والناس لا يحفظونه من عذاب الله تعالى وعن مكحول قال لأن أكون قاضيا أحب إلي من أن أكون خازنا يعني أن خازن بيت المال عامل للمسلمين والقاضي كذلك إلا أن الخازن يحفظ على المسلمين مالهم والقاضي يحفظ عليهم دينهم وتمكن الخازن من المال خوف الفتنة على نفسه بسببه أكثر من تمكن القاضي ; فلهذا آثر القضاء ، وقد بينا أن المتقدمين فيهم من كان يؤثر تقلد القضاء على الامتناع منه وعن شريح رحمه الله تعالى قال ما شددت على لهواة خصم أي ما منعته من إظهار حجته ، وما قويت أحد الخصمين على الآخر بتلقين شيء قط ; ولهذا بقي في القضاء مدة طويلة .

وعن علي رضي الله عنه أنه أضاف رجلا فلما مكث أياما [ ص: 76 ] قرب إليه في خصومة فقال له علي رضي الله عنه أخصم أنت فقال نعم { فقال علي رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نضيف الخصم إلا أن يكون خصمه معه } ، وفيه دليل أنه لا بأس للإمام أن يخص بعض الناس بالضيافة إذا لم يكن له خصومة ، وأنه لا ينبغي له أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر ; لأن ذلك يكسر قلب الخصم الآخر ويلحق به تهمة الميل ولا بأس بأن يضيفهما جميعا ; لأن تهمة الميل تنتفي عنه إذا سوى بينهما

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه اقض بين هذين قال أأقضي ، وأنت حاضر ، أو جالس قال صلوات الله عليه وسلامه نعم قال على ماذا أقضي قال سلام الله عليه على أنك إن اجتهدت فأصبت فلك عشر حسنات ، وإن أخطأت فلك حسنة } ، وفيه دليل لأهل السنة رحمهم الله المجتهد يصيب ويخطئ وعليه دل قوله تعالى { ففهمناها سليمان } والفهم هو إصابة الحق فقد خصه بذلك ففيه دليل على أنه معذور ، وإن أخطأ ، وهذا إذا لم يكن طريق الإصابة بينا وهو مثاب على اجتهاده فإن أصاب المطلوب بالاجتهاد فله ثواب الاجتهاد وثواب إظهار الحق بجهده وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم فلك عشر حسنات ، وإن أخطأ فله حسنة على اجتهاده إذا كان مصيبا في طريق الاجتهاد ، وإن لم يصب المطلوب بالاجتهاد وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله تعالى مع القاضي ما لم يخف عملا يشدده للحق ما لم يرد غيره } ، وهذا في كل عامل يبتغي بعمله وجه الله تعالى فالله تعالى يعينه على ذلك ويوفقه قال الله تعالى { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } { . وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها } ، ثم هذا الوعد للقاضي ما لم يظلم عمدا فالحيف هو الظلم . فإذا اشتغل به وكله الله إلى نفسه ، وكذلك إذا أراد بعمله غير الله تعالى { قال صلى الله عليه وسلم فيما يؤثر عن الله عز وجل أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل لي عملا وأشرك فيه غيري فهو كل لذلك الشريك ، وأنا منه بريء . }

التالي السابق


الخدمات العلمية