الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب نفي الولد من زوجة مملوكة وغيرها

( قال رحمه الله : رجل تحته أمة فأعتقت ، ثم جاءت بولد لستة أشهر بعد العتق فنفاه فلم يلاعنها حتى اختارت نفسها فالولد لازم له ، ولا حد عليه ، ولا لعان ) ; لأن نسب الولد قد ثبت منه بالفراش فلا ينتفي إلا باللعان وباختيارها نفسها بالعتق ثابت منه فلا يجري اللعان بينهما بعد البينونة كما لو أبان امرأته بعد ما قذفها ; لأن المقصود باللعان قطع النكاح الذي هو سبب المنازعة بينهما ، وقد انقطع ، ولا حد عليه ; لأن قذفه إياه كان موجبا للعان بكونهما من أهل اللعان حين قذفها فلا يكون موجبا للحد ; لأنهما لا يجتمعان بقذف واحد .

قال : رجل اشترى امرأته ، وهي أمة فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر فنفاه فهو لازم له ; لأنا تيقنا أن العلوق بهذا الولد حصل من فراش النكاح فلزمه نسبه على وجه لا ينتفي بنفيه وصار ارتفاع النكاح بينهما بالشراء كارتفاعه بالطلاق قبل الدخول وهناك إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر لزمه نسبه فكذلك هنا ، وإن جاءت به لستة أشهر فصاعدا فله أن ينفيه ، وهذا بمنزلة أم الولد له أن ينفيه ما لم يقر به ، ثم قال بعد هذا بأسطر لا يثبت نسبه منه إلا أن يقر به فوجهه ما قال بعد هذا : إن [ ص: 136 ] النكاح بالشراء ارتفع لا إلى عدة ; لأن العدة حق من حقوق النكاح فكما ينافي ملك اليمين أصل النكاح فكذلك ينافي حقوقه فكان هذا نظير الفرقة بالطلاق قبل الدخول ، وقد جاءت بالولد من مدة يتوهم أن الولد من علوق حادث فلا يثبت نسبه منه ، وفي الكتاب علل فقال : لأنها أمة يحل فرجها بالملك ، وحل فرجها بملك اليمين مع حق النكاح لا يجتمعان فيتبين أنه لا عدة عليها وصار كأنه لم يدخل بها في فراش النكاح ، ونسب ولد الأمة لا يثبت من المولى إلا بالدعوة .

ووجه هذه الرواية أنها كانت فراشا له وملك اليمين لا ينافي الفراش فيبقى بعد الشراء من الفراش بقدر ما يجامع ملك اليمين ; لأن الارتفاع بالمنافي فبقدر المنافي يرتفع وملك اليمين إنما ينافي الفراش الملزم المثبت للنسب ، فإن أم الولد مملوكة ; وللمولى عليها فراش مثبت للنسب إلا أن ينفيه فيبقى ذلك القدر هنا له قال : فإن أعتقها بعد ما اشتراها ، وقد كان دخل بها فجاءت بولد لزمه ما بينه وبين سنتين من يوم اشتراها ، وإن نفاه فعليه الحد ، وهذا قول أبي يوسف الأول ، وهو قول محمد رحمهما الله ، وفي قول أبي يوسف الآخر رحمه الله إن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها فكذلك الجواب ، وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لم يلزم إلا أن يدعيه فإن ادعاه لزمه ، وإن كذبته المرأة .

أما وجوب الحد عليه فلأنه قذفها ، وهي في الحال محصنة ، ثم وجه قول محمد رحمه الله أن يقول بأن النكاح ارتفع بالشراء بعد الدخول فيكون موجبا العدة إلا أن هذه العدة لا تظهر في حقه ; لأنها تحل له بالملك ، وهي ظاهرة في حق الغير حتى لو أراد أن يزوجها من غيره لم يجز فإذا أعتقها زال المانع من ظهور العدة في حقه وظهرت العدة في حقه أيضا ، والمعتدة إذا لم تقر بانقضاء العدة حتى جاءت بالولد لأقل من سنتين يثبت النسب ; ولأنا قد بينا أن قدر الفراش الذي يثبت للمولى على أم ولده باق بعد الشراء وبالعتق زال هذا الفراش ، وزوال الفراش بالعتق يوجب العدة كما في حق أم الولد فكان ينبغي على هذا الطريق أنها إذ جاءت بالولد لأقل من سنتين منذ أعتقها أنه يثبت النسب كما في أم الولد ولكن هذا الفراش أثر الدخول الحاصل في النكاح لا في الملك فاعتبرنا مدة السنتين من وقت انقطاع النكاح بالفراش .

ووجه قول أبي يوسف الآخر رحمه الله : أن النكاح ارتفع بالشراء لا إلى عدة لما بينا أن ملك اليمين ينافي حقوق النكاح .

( ألا ترى ) أن قبل العتق لو جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر لا يلزمه نسبه فبعد [ ص: 137 ] العتق كذلك لا يلزمه ; لأنها بالعتق ازدادت بعدا منه ; ولهذا لو ادعاه ثبت نسبه منه ، وإن كذبته المرأة ; لأن هذا القدر كان ثابتا قبل العتق فيبقى بعده ودعواه بقاء الفراش بعد الشراء ليس بقوي ; لأنه لا بد للفراش من سبب وملك اليمين بدون الدخول فيه لا يوجب الفراش ، وكذلك بعد الدخول ما لم يدع نسب الولد ، وفراش النكاح من حقوقه فلا يبقى بعد الشراء ، وإن كان لم يدخل بها فإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر بعد الشراء فهو ابنه لتيقننا بحصول العلوق في النكاح ، وإن نفاه فعليه الحد ; لأنها محصنة بعد العتق .

وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لم يلزمه نسبه لجواز أن يكون من علوق حادث بعد ارتفاع النكاح ، وهذا والطلاق قبل الدخول سواء ، وإن نفاه فلا حد عليه ; لأنه صادق في ذلك ; ولأن في حجرها ولدا لا يعرف له والد فلا تكون محصنة ، ولو لم يعتقها حين اشتراها ، ولكنه باعها ، وقد كان دخل بها في النكاح فإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها لزمه الولد ، وبطل البيع ; لأنا تيقنا بحصول العلوق في النكاح ، وأنها صارت أم ولد له حين اشتراها ; لأن في بطنها ولدا ثابت النسب منه فإنما باع أم ولد ، وبيع أم الولد باطل ، وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر منذ اشتراها ولأقل من ستة أشهر منذ باعها فإن ادعاه ثبت نسبه منه ، وبطل البيع أيضا ; لأنه لو لم يسبق النكاح كان هذا الحكم ثابتا بدعوته فعند سبق النكاح أولى ، وإن جاءت به لأقل من سنتين منذ اشتراها ; ولأكثر من ستة أشهر منذ باعها فكذلك الجواب عند محمد رحمه الله وفي قول أبي يوسف الآخر لا يثبت النسب منه ، ولا يبطل البيع ، وهذا بناء على الفصل الأول فإن زوال ملكه بالبيع عنها كزواله بالعتق ، وقد بينا هناك أن عند أبي يوسف لا يثبت النسب إذا جاءت به لأكثر من ستة أشهر فهنا كذلك إلا أن هناك لم يثبت فيها حق لغيره فإذا ادعى ثبت النسب منه ، وهنا قد ثبت فيها حق لغيره وهو المشتري الثاني فلا يثبت النسب منه ، وإن ادعاه ; لأن في ثبوته إبطالا للبيع .

وقوله غير مقبول في إبطال البيع وعلى قول محمد رحمه الله هناك حكم ثبوت النسب منه يبقى إلى سنتين ، وإن زال الملك بالعتق لظهور العدة في حقه على ما بينا فكذلك هنا يبقى حكم ثبوت النسب منه ، وإن زال الملك بالبيع ، وإذا ثبت النسب منه انتقض البيع ضرورة ; لأنه تبين أنه باع أم ولده إلا أن محمدا رحمه الله هنا يشترط الدعوة منه ; لأن إقدامه على البيع دليل النفي ، والقدر الباقي من الفراش بعد الشراء مثبت للنسب على وجه ينتفي بالنفي فلا بد من الدعوى بعد ذلك ليبطل به دليل حكم النفي بخلاف العتق فإنه [ ص: 138 ] ليس لدليل النفي ، وإن كان المشتري الآخر قد أعتق الولد ، ثم ادعاه المشتري الأول فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها الأول بطل بيع المشتري وعتقه لتيقننا بأنه باع أم ولده ، وإن الولد كان حرا قبل بيعه ، وإن جاءت لستة أشهر فصاعدا بعد الشراء الأول لم تصح دعوة الشراء الأول لما بعد عتق المشتري الآخر فيه فقد بينا أن عتق المشتري الولد يمنع صحة دعوة البائع ، وإن لم يكن أعتق الولد ، ولكنه أعتق أمه فقد بينا أن إعتاق الأم لا يمنع صحة دعوة البائع في الولد فكان هذا وما لم يعتقها سواء في حق الولد على ما بينا من الخلاف .

التالي السابق


الخدمات العلمية