الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 75 ] باب تكفيل القاضي في الدعوى

( قال - رحمه الله - ) : وإذا ادعى رجل على رجل مالا عند القاضي فأنكره وسأل المدعي أن يأخذ له كفيلا منه بنفسه وادعى أن له بينة حاضرة أخذ له منه كفيلا معروفا بنفسه ثلاثة أيام . وفي القياس لا يأخذ كفيلا لآخر بنفس الدعوى لا يجب شيء على الخصم لكون الدعوى خبرا محتملا للصدق والكذب وفي الإجبار على إعطاء الكفيل إلزام شيء أباه وإنما تركنا القياس للتعامل من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا . فإن القضاة يأمرون بأخذ الكفيل من الخصوم من غير نكير منكر ، ولا زجر زاجر . وفيه نظر للمدعي ; لأنه إذا أحضر شهوده فلا بد من حضور الخصم ليشهدوا عليه وربما يهرب أو يخفي شخصه فيعجز المدعي عن إثبات حقه عليه وفي أخذ الكفيل بنفسه ليحضره نظر للمدعي ولا ضرر فيه على المدعى عليه ، فهو نظير الاستخلاف والخصم يستحلف عند طلب المدعي بعد إنكاره .

وإن لم تتوجه له حق في تلك الدعوى ولكن فيه منفعة للمدعي من غير ضرر فيه على الخصم إذا كان محقا في إنكاره ، وكذلك الإشخاص إلى بابه يثبت بنفس الدعوى بما لها من النظر للمدعي فكذلك أخذ الكفيل وشرط أن يكون الكفيل معروفا ; لأن مقصود المدعي لا يحصل بالمجهول فقد يهرب ذلك المجهول مع الخصم والتعذير بثلاثة أيام ليس بلازم ولكن يأخذ كفيلا إلى المجلس الثاني وقد كان القاضي فيهم يجلس بنفسه كل ثلاثة أيام ، وإن كان يجلس في كل يوم فربما يعرض للمدعي عارض فيتعذر الحضور في المجلس أو المجلسين ، وإنما أخذ الكفيلين لنظر المدعي فيؤخذ الكفيل على وجه لا يؤدي إلى التعنت في حق المدعي وإن قال : بينتي غيب ; لم يأخذ له منه كفيلا ; لأنه لا فائدة في أخذ الكفيل هنا فالغائب كالهالك من وجه وليس كل غائب يئوب ، وإن أراد المدعي استحلاف الخصم يمكن منه في الحال . فلا معنى للاشتغال بأخذ الكفيل ، وكذلك إن أقام شاهدا واحدا ; لأن بالشاهد الواحد لا يثبت للمدعي شيء كما يثبت بنفس الدعوى ، وإن قال : لا بينة لي وأنا أريد أن أحلفه ، فخذ لي منه كفيلا لم يأخذ منه كفيلا ، ولكنه يستحلفه مكانه ; لأن حكم اليمين لا يختلف باختلاف الأوقات والقاضي مأمور بفصل الخصومة في أول أحوال الإمكان وذلك في أن يستحلفه للحال بكون المدعي طالبا لذلك فلا معنى للاشتغال بأخذ الكفيل ، وإن قال : بينتي حاضرة فخذ لي منه كفيلا فقال المطلوب له : ولي كفيل . فإنه يأمر الطالب أن يلزمه - إن أحب - حتى يحضر شهوده ; لأن الملازمة فعل متعارف قد كان على عهد [ ص: 76 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أبي بن كعب رضي الله عنه وهو يلازم غريما له } الحديث .

وليس تفسير الملازمة أن يقعده في موضع ويقعد إلى جنبه . فإن ذلك حبس وليس له ذلك قبل أن يثبت دينه عليه ولكن ( تفسير الملازمة ) أن يدور معه حيثما دار ، فإذا دخل على أهله قعد من يلازمه على باب داره ، وإن كان يخاف أن يهرب من جانب آخر فإما أن يقعد معه على باب داره حيث يراه أو يأذن له في أن يدخل معه ليلازمه ; إذ المقصود هو الأمن من هروبه ، والتمكن من إحضاره إذا أحضر شهوده ولا يحصل إلا بذلك وإن أحب أن يستحلفه فعل ; لأن اليمين حق الدعوى قبل المدعى عليه وله فيه غرض صحيح ، وهو التوصل إلى حقه في أقرب الأوقات بنكوله وفيه اختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه - رحمهما الله - وموضع بيانه شرح أدب القاضي للخصاف رحمه الله ولا ينبغي أن يسجنه ; لأن الحبس أقوى العقوبات في دعوى المال فلا يثبت بمجرد الدعوى قبل أن يثبت المال عليه ، وإن قال الطالب : خذ لي منه كفيلا بالعين التي ادعيتها في يده أخذ له كفيلا بها أيضا ; لأنه لا يتمكن من إقامة البينة إلا بإحضار العين ، وربما يخفيها الخصم ولا وجه لإخراجها من يده قبل إقامة المدعي حجته ، وكان أخذ الكفيل بها وأخذ الكفيل بنفسه سواء ، وإن كان الكفيل بنفسه وبذلك الشيء واحدا جاز ; لأن المقصود حاصل ، وإن أراد الطالب كفيلا بنفسه ووكيلا في خصومته ; فإن القاضي يأمر المطلوب أن يعطيه ذلك ثلاثة أيام هكذا قال هنا ; لأن الخصم ربما لا يبالي بالكفيل بالنفس ويهرب فلا يتمكن المدعي من إثبات حقه بالبينة على الكفيل وفي الزيادات قال : لا يجبر على إعطاء الوكيل في خصومته . هذا هو الأصح ; لأن المدعى عليه يقول : أنا أهدى إلى الخصومة من غيري . خصوصا في هذه الحادثة وربما لا ينظر الوكيل ولا يشتغل بالدفع بما أشتغل به إذا حضرت .

ففي الإجبار على إعطاء الكفيل إضرار به ، والقاضي ينظر لأحد الخصمين على وجه لا يضر بالآخر . فإذا أراد الطالب أن يكون ضامنا لما قضي له عليه فإن القاضي لا يجبر المطلوب على ذلك ; لأن بعد إثبات الدين لا يجبر الخصم على إعطاء الكفيل به فقبل إثباته أولى . وهذا بخلاف ما إذا كان المدعى عينا فإن هناك لا يتمكن من إثبات المدعى إلا بإحضار العين وهنا يتمكن من إثبات الدين عند إحضار الخصم وإنما الكفيل بالمال هنا للتوثق لجانب المطالبة ، ولم تتوجه له مطالبة بالمال قبل إثباته . فكيف يجبر على إعطاء الكفيل به ؟ وإن بعث القاضي مع الطالب رسولا يأخذ له كفيلا فكفل به الكفيل [ ص: 77 ] الطالب أو أحضره القاضي فكفل عنده ثم رده الكفيل إلى الطالب برئ ; لأن الكفالة كانت له وقد أوفاه حقه حين سلم نفس الخصم إليه ، وإن كانت الكفالة للقاضي أو لرسوله الذي كفل له به . وقال زفر - رحمه الله - : يبرأ ; لأن الكفالة للطالب في الوجهين جميعا فإنها تنبني على دعواه ولكنا نقول : المقصود لا يعتبر مع التصريح بخلافه وقد صرح الكفيل بالتزام النفس إلى القاضي أو إلى رسوله فلا يبرأ بدونه

التالي السابق


الخدمات العلمية