الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
وإذا دفع الرجل إلى الرجل أرضا يزرعها [ ص: 92 ] ببذره وعمله على أن الخارج بينهما نصفان ، فلما حصل الخارج قال صاحب البذر شرطت لك عشرين قفيزا من الخارج وقال رب الأرض : شرطت لي النصف منه فالقول قول صاحب البذر ; لأن صاحب البذر يدعي عليه استحقاق نصف الخارج بالشرط ، وهو منكر لذلك ، فالقول قول المنكر مع يمينه ، والبينة بينة رب الأرض ; لأنها تثبت الاستحقاق له ، ولا يقال : الظاهر يشهد لرب الأرض ، فإن العقد الذي يجري بين المسلمين الأصل فيه الصحة ; لأن هذا الظاهر يصلح لدفع الاستحقاق لا للاستحقاق به ، وحاجة رب الأرض إلى ابتداء الاستحقاق ، فإذا حلف صاحب البذر أعطاه أجر مثل أرضه ; لأنه مقر له بذلك القدر ، وإن لم تخرج الأرض شيئا فقال المزارع شرطت له النصف ، وقال رب الأرض : شرطت لي عشرين قفيزا فالقول قول المزارع ; لأن رب الأرض يدعي لنفسه أجر المثل دينا في ذمة المزارع والمزارع منكر لذلك ، ثم الظاهر يشهد للمزارع ; فإن الأصل في العقود الصحة ، وحاجة المزارع إلى دفع استحقاق رب الأرض ، والظاهر يكفي لذلك ، وإن أقاما البينة فالبينة بينة المزارع أيضا ; لأنه يثبت ببينته اشتراط نصف الخارج ، ورب الأرض ليس يثبت ببينته ما شهد به الشهود ; لأنهم شهدوا باشتراط عشرين قفيزا ، وذلك لا يستحق بالشرط بل يفسد به العقد ، فيجب أجر المثل ، فتترجح بينة من تثبت بينته صحة العقد وصحة الشرط ، ولو لم يزرع حتى اختلفا كان القول قول رب الأرض ، وإن ادعى أنه دفعها بأقفزة معلومة ; لأن المزارع يدعي عليه استحقاق منفعة الأرض ووجوب تسليمها إليه ، ورب الأرض منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه وإن ادعى رب الأرض أنه دفنها فالقول قول المزارع أنه أخذها بعشرين قفيزا مع يمينه على ما ادعى رب الأرض ; لأن رب الأرض يدعي استحقاق بعض الخارج عليه ، والمزارع منكر لذلك وقيل لا معنى ليمين المزارع هنا ; لأنه متمكن من فسخ العقد قبل إلقاء البذر في الأرض ، وقد ادعى ما يفسد العقد ، فكان ذلك بمنزلة الفسخ منه ثم اليمين إنما تنبني على دعوى ملزمة ، ودعوى رب الأرض لا تلزمه شيئا قبل الزراعة ، فلا معنى لاستحلافه ، فإن كان البذر من صاحب الأرض فلما أدرك الزرع قال العامل : شرطت لي النصف ، وقال رب الأرض : شرطت لك عشرين قفيزا من الخارج ، فالقول قول رب الأرض ، والبينة بينة العامل ; لأن العامل يدعي استحقاق جزء من الخارج على رب الأرض بالشرط ، ورب الأرض منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه ، والبينة بينة العامل ; لأنها تثبت الاستحقاق له ، وإن لم تخرج الأرض شيئا ، فقال العامل : [ ص: 93 ] شرطت لي عشرين ; قفيزا ، وقال رب الأرض : شرطت لك النصف ، فالقول قول رب الأرض ; لأن العامل يدعي أجر العمل دينا في ذمته ، وهو منكر لذلك ، والبينة بينة رب الأرض أيضا ; لأنه يثبت ببينته صحة العقد ، ويشهد شهوده باشتراط ما يثبت بالشرط في المزارعة ، والآخر إنما يشهد شهوده باشتراط ما لا يثبت بالشرط في المزارعة ، فكان الإثبات في بينة رب الأرض أظهر ، ولو لم يزرع حتى اختلفا ، فالقول قول الذي يدعي الفساد منهما مع يمينه ; لأنه ينكر وجوب تسليم شيء عليه ، ولو أقاما البينة فالبينة بينة الذي يدعي المزارعة بالنصف أيهما كان ; لأنه يثبت ببينته صحة العقد ، وكونه سببا للاستحقاق ، فتترجح بينته بذلك ، ولو أخرج زرعا كثيرا ، فقال لصاحب الأرض والبذر : شرطت لك النصف وزيادة عشرة أقفزة ، وقال العامل : شرطت لي النصف فالقول قول العامل ; لأنهما اتفقا على اشتراط النصف ثم ادعى رب الأرض زيادة على ذلك ، والعامل منكر لتلك الزيادة ، ثم رب الأرض متعنت في كلامه ; لأنه يقر له بزيادة ليبطل به أصل استحقاقه ، لا ليثبت حقه فيما أقر له به ، وقول المتعنت غير مقبول ، وإن أقاما جميعا البينة فالبينة بينة رب الأرض ; لأنه يثبت ببينته زيادة الشرط ; ولأنه يثبت ببينته فساد العقد بعد ما ظهر باتفاقهما ما هو شرط الصحة ، وهو اشتراط نصف الخارج فالزيادة هاهنا في بينته ، ولو ادعى رب الأرض أنه اشترط له نصف ما تخرج الأرض إلا خمسة أقفزة ، وقال العامل : لم يستثن شيئا فالقول قول رب الأرض ; لأن الكلام المقيد بالاستثناء يكون عبارة عما وراء المستثنى ، فالمزارع يدعي عليه استحقاق نصف كامل بالشرط ، ورب الأرض ينكر الشرط في بعض ذلك النصف معنى ، فالقول قوله ; لإنكاره ، والبينة بينة المزارع ; لأنه يثبت صحة المزارعة ، والفضل فيما يدعيه لنفسه إن لم تخرج الأرض شيئا ، وقال المزارع : شرطت لي النصف وزيادة عشرة أقفزة ، وقال رب الأرض : شرطت لك النصف فالقول قول رب الأرض ; لاتفاقهما على اشتراط النصف ، وتفرد المزارع بدعوى الزيادة لا ليستحقها ، بل ليبطل العقد بها ، والبينة بينة المزارع ; لأنه يثبت زيادة شرط ببينته ، ويثبت لنفسه أجر المثل دينا في ذمة رب الأرض ، ولو قال المزارع : شرطت لي النصف إلا عشرة أقفزة ، وقال رب الأرض : شرطت لك النصف ، ولم تخرج الأرض شيئا فالقول قول رب الأرض ; لأن المزارع يدعي الأجر دينا في ذمة رب الأرض ، ورب الأرض منكر لذلك ، وإن أقاما البينة فالبينة بينة رب الأرض أيضا ; لأنه يثبت ببينته شرط صحة العقد ، وإن اختلفا قبل العمل فقال المزارع : شرطت لي [ ص: 94 ] النصف وزيادة عشرة أقفزة ، وقال رب الأرض : شرطت لك النصف فالقول قول رب الأرض في قياس قول أبي حنيفة - رحمه الله - على قول من يرى جواز المزارعة ، وفي قول أبي يوسف ومحمد : القول قول المزارع ، وهذا ; لأن رب الأرض يدعي صحة العقد ، ومن أصل أبي حنيفة أن القول قول من يدعي الصحة . بيانه فيما تقدم في السلم إذا ادعى أحد المتعاقدين الأجل في السلم ، وأنكره الآخر أن عند أبي حنيفة القول قول من يدعي الأجل أيهما كان ; لأنه يدعي صحة العقد ، وعندهما القول قول رب السلم ; لأن المسلم إليه إذا كان يدعي الأجل ، ورب السلم منكر لدعواه فالقول قوله ، وإن كان في إنكاره إفساد العقد ، وإن كان المسلم إليه منكرا للأجل فهو متعنت في هذا الإنكار ; لأن رب السلم يقر له بالأجل ، وهو ينكر ذلك تعنتا ليفسد به العقد فهنا كذلك عند أبي حنيفة - رحمه الله - يجعل القول قول رب الأرض ; لأنه يدعي صحة العقد ، وعندهما يجعل القول قول المزارع ; لأن كلامهما خرج مخرج الدعوى والإنكار ، فرب الأرض يدعي على المزارع استحقاق تسليم النفس لإقامة العمل ، وهو منكر فالقول قوله مع يمينه ، وإن كان في إنكاره إفساد العقد ، وإن أقاما البينة فالبينة بينة المزارع في قولهم جميعا ; لأنه يثبت السبب المفسد بعد تصادقهما على ما هو شرط الصحة ، ولا يثبت الفضل فيما شرط له ولو قال المزارع : شرطت لي النصف إلا عشرة أقفزة ، وقال رب الأرض : شرطت لك النصف فالقول قول رب الأرض عندهم جميعا أما عند أبي حنيفة - رحمه الله - ; فلأنه يدعي الصحة ، وأما عندهما ; فلأن المزارع متعنت ; لأن رب الأرض يقر له بزيادة فيما شرط له ، والمزارع يكذبه فيما أقر له به ، ليفسد به العقد ، فكان متعنتا ، فإن أقاما البينة فالبينة بينة رب الأرض ; لأنه يثبت شرط صحة العقد ، واستحقاق العمل على المزارع ببينته ، ولو قال المزارع قبل العمل : شرطت لي النصف وقال رب الأرض شرطت لك النصف وزيادة عشرة أقفزة فالقول قول المزارع ; لأنهما اتفقا على شرط صحة العقد ، وهو اشتراط النصف ثم رب الأرض يدعي شرط الزيادة على ذلك ; ليفسد به العقد ، والمزارع منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه ، والبينة بينة رب الأرض ; لإثباته الشرط المفسد مع تصادقهما على ما هو شرط صحة العقد ، ولو قال رب الأرض : شرطت لك النصف إلا عشرة أقفزة ، وقال المزارع : شرطت لي النصف فالقول قول رب الأرض ; لأن المزارع يدعي زيادة أقفزة فيما شرط ، ورب الأرض منكر ; لما قلنا : إن الكلام المصدر بالاستثناء يصير عبارة عما وراء المستثنى ، والبينة بينة المزارع ; لأنه يثبت الفضل [ ص: 95 ] في المشروط له ببينته ، ولو كان البذر من قبل العامل كان حاله في جميع هذه الوجوه بمنزلة حال رب الأرض حتى كان البذر من قبله للمعنى الذي أشرنا إليه

التالي السابق


الخدمات العلمية