الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ولو أكرهه بالحبس على أن يهب ماله لهذا ، أو يدفعه إليه ، وأكره الآخر بالحبس على قبوله ، وقبضه ، فهلك ، فالضمان على القابض ; لأنه قبضه على وجه التملك ، وفعله في القبض مقصور عليه [ ص: 82 ] فإنه غير ملجأ من جهة المكره ، فلهذا كان الضمان عليه دون المكره ، ولو كان أكره القابض بوعيد تلف على ذلك لم يضمن القابض ، ولا المكره شيئا .

أما القابض ، فلأنه ملجأ إلى القبض ، وذلك بعدم الفعل الموجب للضمان في حقه ، وأما المكره ، فلأن الدافع لم يكن ملجأ في دفع المال إليه ; لأنه كان مكرها بالحبس ، فبقي حكم الدفع مقصورا على الدافع قاله أبو حازم رحمه الله ، وهذا غلط ; لأن فعل الدافع إن لم يكن منسوبا إلى المكره ، ففعل القابض صار منسوبا إليه ، وإنما قبضه بغير رضا المالك ، فكأن المكره قبضه بنفسه ، فينبغي أن يكون المكره ضامنا من هذا الوجه ، وما قاله في الكتاب أصح ; لأن هذا القبض متمم للهبة ، وفي مثله لا يصلح المكره آلة للمكره ( ألا ترى ) أن المكره لو قبضه بنفسه لا تتم الهبة به ، ثم الموجب للضمان على المكره تفويت اليد على المالك ، وذلك بالدفع ، والإخراج من يدهما لا بالقبض ; لأن الأموال محفوظة بالأيدي ، وفعل الدافع لم يصر منسوبا إلى المكره ، ولو أكره الواهب بتلف ، وأكره الموهوب له بحبس كان لصاحب المال أن يضمن - إن شاء - المكره ، - وإن شاء - القابض ; لأن فعل الدافع منسوب إلى المكره لكونه ملجأ من جهته ، فيكون المكره ضامنا له ، وفعل القابض مقصور عليه ; لأنه كان مكرها على القبض بالحبس ، وقد قبضه على وجه التملك ، فكان للدافع أن يضمن أيهما شاء ، فإن ضمن المكره رجع به على القابض لما قلنا ، وكذلك في البيع إذا أكره البائع بوعيد تلف على البيع ، والتقابض ، وأكره المشتري على ذلك بالحبس ، فتقابضا ، وضاع المال ، فلا ضمان على البائع فيما قبض بعد أن يحلف ما قبضه إلا ليرده على صاحبه ; لأنه ملجأ قبل القبض ، فيكون مقبول القول في أنه قبضه للرد مع يمينه ، وللبائع أن يضمن المكره قيمة عبده ; لأنه كان ملجأ إلى تسليم العبد من جهته ، ثم يرجع بها المكره على المشتري لما بينا أن البيع لم ينفذ من جهة المكره ، وقد ملكه بالضمان .

فإن شاء البائع ضمنها المشتري ; لأن فعله في القبض مقصور عليه ، وقد قبضه على وجه التملك ، وإن لم يكن راضيا بسببه ، ثم لا يرجع المشتري على المكره بالقيمة ، ولا بالثمن أما القيمة ، فلأنه إنما ضمنها بقبض كان هو فيه عاملا لنفسه ، وأما الثمن ، فلأنه كان مكرها على دفع الثمن بالحبس ، وذلك لا يوجب نسبة الفعل إلى المكره في حكم الضمان ، وفي هذا طعن أبو حازم رحمه الله أيضا كما في الهبة ، ولو كان أكره البائع بالحبس ، وأكره المشتري بالقتل ، فلا ضمان للبائع في العبد على المشتري ، ولا على المكره ; لأن المشتري ملجأ إلى القبض ، فلا يكون ضامنا شيئا ، والبائع ما كان ملجأ إلى الدفع من جهة المكره ، فيقتصر [ ص: 83 ] حكم الدفع عليه ، فلهذا لا ضمان على المكره ، وللمشتري أن يضمن الثمن - إن شاء - البائع - وإن شاء - المكره لأنه كان ملجأ إلى دفع الثمن من جهة المكره ، وكان البائع غير ملجأ إلى قبضه ، فاقتصر حكم فعله بالقبض عليه ، وللمشتري الخيار ، فإن ضمن المكره رجع به على البائع ; لأنه قام مقام من ضمنه ، ولأنه ملك المضمون بالضمان ، ولم ينفذ البيع من جهة من تملك الثمن ، فرجع على البائع بالثمن ، والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية